مصطفى واجد آغا أوغلو - خاص ترك برس
مرة أخرى أنعم الله علينا بإدراك يوم عرفة، هذا اليوم المبارك العظيم، وهو إشارة على قدوم يوم النحر، العاشر من ذي الحجة، أول أيام عيد الأضحى المبارك.
ورغم مرارة الموقف والمشهد لهذه السنة بسبب الجائحة المعروفة للجميع، إلا أن عظمة وبركة وجمال هذه الأيام لن ينقص منها شيئا، وبالمناسبة يجب أن لا ننسى بأن الأمراض والأسقام رسالة إلهية لعباده فيها حكم ومواعظ، وهي وسيلة وفرصة للتقرب إلى الله عزوجل ومحاسبة النفس.
نعم... نستقبل عيد الأضحى المبارك في ظل عادات كلاسيكية موروثة عن أسلافنا، فقدوم العيد يعني لبعضنا - إن لم يكن لأغلبنا - تنظيف البيوت وتلميع النوافذ والصحون وتجهيز مستلزمات الطبخ المخصوص ليوم العيد وشراء الأثواب وتغسيل السيارات وما شابه ذلك، طبعاً معظم هذه العادات ليست قبيحة بل بالعكس حسنة وتعطي للعيد خصوصية وجمال. إلا أن جمال العيد ليس في هذه الأمور الثنائية، فالعيد وسيلة لطي صفحة وفتح أخرى بيضاء، مع تنظيف الأفئدة قبل البيوت وتلميع الأنفس قبل النوافذ، فإذا تزكّت الأرواح تتطّهر الأجساد ومنها المادة.
كيف نستقبلُ العيد وفي داخلنا أمراض أخطر من الجائحة العالمية المعروفة، وسأحاول اختصار هذه الأمراض بشكل وجيز كالآتي:
1. في علاقتنا مع خالقنا عز شأنه: علاقة العبد بربه مبنية على الإيمان والاستسلام والخضوع، ورغم فضله عزوجل لنا وكرمه نعصي أوامرهُ، بل هناك من يتكبّر بشكل أو بآخر. فعلاقتنا مع خالقنا بحاجة إلى المساءلة والمحاسبة وخير توقيت لذلك هذه الأيام المباركة، وبعكسها كيف نستقبل العيد؟
2. في علاقتنا مع أنفسنا: فالأنفس ثلاث في القران الكريم، النفس المطمئنة والنفس اللوامة والنفس الأمارة بالسوء. وتتجلى قرارات وأعمال الأنسان من خلال نفسه، فإذا كانت أعمال أنفسنا غير مرضية يحتاج منا ذلك محاسبة الذات، وكيف لا، إذا كان الصراع بين الروح والجسد قائما ودائما، وإذا كان الجسد سجنا للروح يأسرها كما قال أفلاطون. وإذا غلبت أنفسنا الأمارة، يصبح كل همنا الدنيا وما فيها، ومن خلال ذلك نفقد السعادتين. وكما قال الشاعر المتصوف يونس إمره: "من كان همه الدنيا، أصبح له هموم بحجم الدنيا". فعلاقتنا مع أنفسنا بحاجة إلى تزكية، وهذه تكمن في محاسبتها ومساءلتها، وخير توقيت لذلك هذه الأيام المباركة، وبعكسها كيف نستقبل العيد؟
3. في علاقتنا مع نظائرنا في الخلق: وهذه العلاقة أهم من غيرها بل وأخطرها. فبالرغم من أن علاقتنا مع ربنا أقدسها وأشرفها إلا أن الخالق إن شاء عفا عن عبده، سواء بقبول توبته أو بشكل آخر، وكذلك الحال لعلاقتنا مع أنفسنا، فهذه ذاتنا الشخصية، نستطيع محاسبتها وتغيير سلوكها متى ما قررنا وعزمنا ذلك. أما هذه الأخيرة، علاقتنا مع نظائرنا في الخلق، فكل كبيرة وصغيرة تُسجّل للمثول في المحكمة الإلهية، فمهما تبت وعبدت ربك وتصدقت وعملت من الإحسان لا يمحو الله تعالى خطاياك وسيئاتك التي تتعلق بحقوق العباد. وكم كثر من اغتصاب لحقوق الآخرين في يومنا هذا، وهذه أمراض في نفس الوقت، وأُلخصها كالآتي:
أولاً: مرض الحقد: إن من أعظم الأمراض وأخطرها حقد الإنسان على نظيره، فقد يضر نفسه قبل الآخرين، نعم يضر نفسه بقتل قلبه وعواطفه. قد يسيء شخص أو أشخاص لنا، وبإمكاننا أن نأخذ منهم الدروس والعبر ونحدد علاقتنا معهم (إن كان التواصل معهم غير إيجابي قطعا) ولكن الحقد غير مقبول في كل الأحوال. والحقد قد يتبلور نتيجة الحسد.
ثانياً: مرض الحسد: وهذا المرض ليس أقل خطورة من الحقد، بل إن الحقد ربما له حجج وأسباب يحاول صاحبه إقناع نفسه بها. أما مرض الحسد فيأتي نتيجة موت قلب صاحبه، بل وأكبر من ذلك يأتي نتيجة عدم ثقة صاحبه بربه وعصيانه له (والعياذ بالله)، فكما قال الشاعر:
يا حاسداً لي على نعمتي *** أتدري على من أسأت الأدب؟
أسأت على الله في حكمه *** لأنك لم ترض لي ما وهب
فأخزاك ربي بأن زادني *** وسد عليك وجوه الطلب
وأصبح اليوم يُحسد الشخص على كل شيء، على تفوقه بعرق جبينه بل وحتى على أخلاقه الطيبة والحسنة.
ثالثاً: مرض الغيبة: وهو من الأمراض الشائعة في عصرنا. وقد وصف الباري عزوجل هذا المرض في كتابه المجيد قائلاً: "... وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ...". فيا له من أمر رهيب تقشعر له الأبدان.
وهناك أمراض مجتمعية شائعة وكثيرة، فالافتراء والنميمة والشتيمة وأخذ مكاسب الآخرين بالواسطات وتمشية الأمور بالرشاوى وهلم جرا، كل ذلك أمراض واغتصاب لحقوق الآخرين لا يمحوه الله ولا يعفو عنه إلا إذا تنازل المظلوم عن حقه، ومن يضمن ذلك؟
في هذه الأيام المباركة ونحن نستعد لاستقبال عيد الأضحى المبارك، نجد فرصة لمحاسبة علاقتنا مع نظائرنا في الخلق، فكم من شخص قاطعناه، وكم شخص من أقاربنا ومن تربطنا معهم صلة الرحم والدم فقدنا العلاقة معهم، وكم من جيران وأصدقاء ومعارف قاطعناه، أليست الآن فرصة لنطوي صفحة ونفتح أخرى امتثالاً لقول الله عزوجل: "ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ".
وكذلك هذه الأيام المباركة فرصة بأن نحاسب علاقتنا مع الآخرين ونعي بأن الحقد لا يغير من الواقع شيئاً وأن الحسد لا يمحو نعم الآخرين بل يجلب الرذائل لصاحبه، والغيبة والنميمة والشتيمة والافتراء وغيرها ما هي إلا راذئل لا تجلب لصاحبها إلا الشر والتعاسة وإذا استقبل صاحب هذه الرذائل العيد، فما العيد له إلا مادة فانية وجوده من عدمه أمر واحد، فما الفائدة من تنظيف البيوت وتلميع النوافذ والسيارات وشراء أغلى الأثواب إذا كان الفؤاد مسودّاً بسواد الحقد والحسد والافتراء.
فالعيد الحقيقي كما قال الشاعر:
ليس العيد لمن لبس الجديد ... ولكن العيد لمن نجا يوم الوعيد
وكل عام وأنتم بألف خير.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس