د. علي الصلابي - خاص ترك برس
أخذت الدولة الغزنوية اسمها من مدينة غزنة إحدى المدن في أفغانستان، ويرجع ظهور هذه الدولة إلى أحد القادة المسلمين المسمى (سبكتكين) ، فقد تولى منطقة غزنة من قبل السامانيين، ثم مد سبكتكين سلطانه في الشرق حيث ضم إقليم خراسان الذي ولاه عليهِ نوح بن منصور الساماني في سنة (384 هـ) مكافأة له على قمع الثوار في بلاد النهر لكن سبكتكين اتجه بأعماله نحو الهند، ولم يكن اتجاهه نحو البلاد التي كانت في حوزة السامانيين إلا تلبية لرغبته حين استعانوا به على قمع حركات الخارجين عليهم في خراسان، فقد انضم بقواته إلى نوح بن نصر الساماني، في قتال الخارجين في خراسان، وفي قتاله للبويهيين الذين رغبوا في الاستيلاء على خراسان من أملاك السامانيين، واستطاع سبكتكين، وابنه محمود مع قوات السامانيين الانتصار على هؤلاء الخارجين، كما انتصروا على بني بويه، وأعادوا للسامانيين مدينة نيسابور، وبعودة نيسابور إلى السامانيين ولى نوح الساماني ابنه محمود بن سبكتكين عليها، كما ولاه على جيوش خراسان ولقبه (سيف الدولة) ، ولقب أخاه سبكتكين (ناصر الدولة) .
وقد ولى سبكتكين مُنذ أول الأمر وجهه شطر الأقاليم الهندية، فتمكن وعظم، وأخذ يغير على أطراف الهند، وافتتح قلاعاً، وتمت لهُ ملاحم مع الهنود، واشتبك مع أحد ملوكهم ويدعى جيبال في حروب طاحنة، واستطاع سبكتكين أن يلحق به الهزيمة سنة (369 هـ) ، وأجبره على طلب الصلح على مال يؤديه وبلاد يسلمهما وخمسين فيلاً يحملها إليه، فاستقر ذلكَ ورهن عنده جماعة من أهله على تسليم البلاد، وسير معه سبكتكين من يتسلمها، فلما أبعد جيبال ملك الهند قبض على من معه من المسلمين، وجعلهم عنده عوضاً عن رهائنه، فلما سمع سبكتكين بذلك.. سار نحو الهند فأخرب كل ما مر عليه من بلادهم، وقصد (لمغان) ، وهي من أحسن قلاعهم فافتتحها عنوة، وهد بيوت الأصنام، وأقام فيها شعائر الإسلام.
ثم عاد إلى غزنة وسار خلفه جيبال في مئة ألف مقاتل، فلقيهُ سبكتكين وألحق به هزيمة كبيرة وأسر منهم ما لا يعد، وغنم أموالهم، وأثقالهم، وذل الهنود بعد هذه الموقعة، ولم يكن لهم بعد راية، ورضوا بألا يطلبوا في أقاصي بلادهم، ولما قوي سبكتكين بعد هذه الموقعة أطاعه الأفغان.
وكانت دولتهُ نحواً من عشرين سنة، وكان فيه عدل وشجاعة، ونبل مع عسف، وبعد وفاته عام (378 هـ) وعهده بالإمارة إلى ابنه إسماعيل، واستطاع ابنه محمود أن ينتزع الإمارة من أخيه إسماعيل بعد قتال مهول.
محمود الغزنوي:
إن سيرة السلطان محمود الغزنوي، ودولته السنية تستحق أن يفرد فيها دراسة خاصة بهما، وندعو طلاب العلم، والمهتمين بالتاريخ الإسلامي وفق منهج أهل السنة، والجماعة القيام بهذا الواجب لسد ثغرة في المكتبة الإسلامية، ويوضح أهمية الالتزام والسنة، وأثر ذلكَ في قوة الدولة، وينسف أكاذيب، وشبهات الرافضة، والباطنية حول هذا البطل السني العظيم، ومع هذا لا يمنع من الحديث عنه في هذه العجالة، فقد وصفه ابن كثير بالملك العادل الكبير المثاغر، المرابط المؤيد المنصور المجاهد يمين الدولة، أبو القاسم محمود بن سبكتكين صاحب بلاد غزنة، وتلك الممالك الكبار، وفاتح أكثر بلاد الهند قهراً، وكاسر بدودهم، وأوثانهم كسراً، وقاهر هنودهم وسلطانهم الأعظم قهراً، وقد سار في الرعية سيرة عادلة، وقام بأعباء الإسلام قياماً تاماً، وفتح فتوحات كثيرة في بلاد الهند وغيرها، وعظم شأنه في العالمين، واتسعت مملكته، وامتدت رعاياه، وطالت أيامه، ولله الحمد والمنة، وكان يخطب في سائر ممالكه للخليفة العباسي القادر بالله، وكانت رسل الفاطميين من الديار المصرية تَفِدُ إليهِ بالكتب والهدايا والتحف فيُحرق بهم، ويقطع كتبهم، ويُخرِّق حللهم.
ولما قدم التاهرتي الداعي مندوب الدعوة الفاطمية من مصر على السُّلطان يدعوه سراً إلى مذهب الباطنية، وكان التاهرتي يركب بغلاً يتلون كل ساعة من كل لون، ففهم السلطان محمود سِرَّ دعوتهم، فغضب، وقتل التَّاهرتِي الخبيث، وأهدى بغله إلى القاضي أبي منصور محمد الأزدي شيخ هراة، وقال: كان يركبه رأس الملحدين، فليركبه رأس المُوحِّدين.
وأما فتوحاته فقد اتفق له في بلاد الهند فتوحات لم تتفق لغيره من الملوك، لا قبله ولا بعده، وغنم مغانم كثيرة لا تنحصر، ولا تنضبط كثرة من الذهب، واللالأى، وكسر من أصنامهم، وأبدادهم، وأوثانهم شيئاً كثيراً جداً، وبيَّض الله وجهه وأكرم مثواه، وكان من جملة ما كسر من أصنامهم صنم عظيم للهنود يقال لهُ: سُومَنات، الذي كان يعتقد كفرة الهند أنه يحيي ويُميت ويحجُّون إليه، ويُقربون له النفائس، بحيث إن الوقوف عليه بلغت عشرة الاف قرية، وامتلأت خزائنه من صنوف الأموال، وفي خدمته من البراهمة ألفا نفس، ومئة جوقة مغاني رجال ونساء، فكان بين بلاد الإسلام وبين قلعة هذا الصنم مفازة نحو شهر، فسار السلطان في ثلاثين ألفاً، فَيَسَّرَ الله فتح القلعة في ثلاثة أيام، واستولى محمود على أموالٍ لا تحصى، بلغ ما تحصل منه من الذهب عشرين ألف دينار، وكسر ملك الهند الكبير الذي يقال له: جيبال، وقهر ملك الترك الأعظم الذي يقال له: إيلك خان، وأباد ملك السامانية، وقد ملكوا بخراسان مئة سنة بلاد سمرقند وما حولها، ثم هلكوا، وبنى على جيحون جسراً غرم عليه ألفي ألف دينار، وهذا شيء لم يتفق لغيره من الملوك، وكان معهُ في جيشه أربعمئة فيل تقاتل، وهذه عظيمة هائلة ومرتبة طائلة، وجرت له فصول ذكر تفصيلها يطول، وكان في غاية الديانة والصيانة، يحب العلماء والمحدثين، ويكرمهم، ويجالسهم، ويحسن إليهم، وكان حنفيّ المذهب، ثم صار شافعياً على يدي أبي بكر القفال الصغير.
وكان صادق النية في إعلاء الدين، مظفراً كثير الغزو، وكان ذكياً بعيد الغور صائب الرأي، دخل ابن فورك على السلطان محمود، فقال: لا يجوز أن يوصف الله بالفوقيَّة؛ لأنَّ لازم ذلكَ وصفه بالتحتيّة، فمن جاز له أن يكون له فوق، جاز أن يكون له تحت. فقال السلطان: ما أنا وصفته حتى يلزمني، بل هو وصف نفسه، فبهت ابن فورك، فلما خرج من عنده مات.
وكان السلطان محمود مكرماً لأمرائه، وأصحابه، وإذا نقم عاجل، وكان لا يفتر ولا يكاد يَقِرُّ، وكان يعتقد في الخليفة العباسي، ويخضع لجلاله، ويحمل إليهِ قناطير الذهب، وكان إلباً على القرامطة، والإسماعيلية، وعلى المتكلمين، وعندما ملك الري كتب إلى الخليفة القادر بالله يذكر: أنه وجد لمجد الدولة البويهي من النساء الحرائر ما يزيد على خمسين امرأة ولدن له نيفاً وثلاثين ولداً، ولما سئل عن ذلكَ قال: هذه عادة سلفي، وصلب من أصحاب الباطنيين خلقاً كثيراً، ونفى المعتزلة إلى خراسان، وأحرق كتب الفلسفة والنجوم .
تمكن السلطان محمود الغزنوي من توسيع حدود دولته، فغزا الهند سبع عشرة غزوة، ووصلت حملاته إلى هضبة الدكن، وضم إلى دولتهِ كذلكَ إقليم البنجاب، وأخضع بلاد الغوريين (غزنة وهراة) ، ومدَّ نفوذه إلى بلاد ما وراء النهر، وبذلك أصبحت حدود دولته تمتد من شمال الهند في الشرق إلى العراق في الغرب، ومن خراسان، وطخارستان وجزء من بلاد ما وراء النهر في الشمال إلى سجستان في الجنوب، وقد اتخذ من مدينة لاهور مقراً لحكمه في الهند حيث عيّن نائباً لهُ هناك، فلا غرابة في أن أخذ يرنو إلى القضاء على البويهيين في بغداد.
من المؤسف حقاً أن لا يعرف كثير من المثقفين، وخريجي الجامعات شيئاً عن هذا السلطان السني العظيم، ومملكته في بلاد الأفغان، وما كان عليهِ من حب للعمل، وتقرّب إلى الله بحمل راية الدعوة، وبث روح الجهاد، والاستشهاد في جنده، ونشر السنة، وقمع البدع، وما كان يتحلى به من قيم إسلامية مثلى كان لها أعمق الأثر في ازدهار مملكته، والتفاف الناس حوله في محبة وتفان ووفاء.
المراجع:
1- علي محمد محمد الصلابي، دولة السلاجقة وبروز مشروع إسلامي لمقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي، مؤسسة اقرأ، القاهرة، 2006، ط1، ص 28:25.
2- حسن أحمد محمود وأحمد إبراهيم الشريف، العالم الإسلامي في العصر العباسي، دار الفكر العربي، ص 386،368،.
3- شمس الدين الذهبي، سير أعلام النبلاء، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان، ط7، (17/،485،486،484)، (16/500).
4- يوسف العظم، تاريخنا بين تزوير الأعداء وغفلة الأبناء، دار القلم، دمشق، 1998، ط1، ، ص 180.
5- سميرة الجبوري، الدولة السلجوقية منذُ قيامها، رسالة علمية نوقشت في جامعة بغداد، 1995، ص 23، 24.
6- صدر الدين أبي الحسن علي بن السيد ناصر علي الحسيني، أخبار الدولة السلجوقية ، تصحيح محمد إقبال، ص 513.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس