علي الصاوي - خاص ترك برس
يقول الكاتب الفرنسي جوستاف لوبون وأحد كبار مفكري الثورة الفرنسية:" في الغالب تتم الثورات التي يتوقف عليها مصير الشعوب بالتدريج، وهذا ما يجعل كثير من المؤرخين يلقون المصاعب في تحديد بدايتها، لذلك أرى كلمة تطور أصح في التعبير من كلمة ثورة" عبارة تشير إلى أن الثورات تقوم مرة واحدة وما يأتى بعدها مجرد امتداد وتطور وفي بعض الأحيان مراجعة وتصحيح، وبعد مرور عشر سنوات على ثورات الربيع العربي هل تحقق مراد الشعوب في التخلص من أسر الاستبداد والانعتاق من رق سياسة التبعية في الداخل والخارج؟
نفس الكاتب يقول في كتابه “سيكولوجية الجماهير” إن الجماهيرلا تعّقل، فهي ترفض الأفكار جملة واحدة أو تقبلها جملة واحدة، من دون أن تتحمّل مناقشتها، وما يقوله الزعيم يغزو عقلها سريعا، فتتجه إلى أن تحوّله سلوكا وعملا، بشكل لا إرادي، فيُفضي ذلك إلى عبادة الزعيم والخوف من بأسه، وإلى الاذعان الأعمى لمشيئته، ويصبح كلامه في نظرهم دوغما لا تناقش!
بإسقاط هذا الكلام على واقعنا المعاصر وربطه بما حدث في الثورات العربية، يتضح أن سيكولوجية الجماهير تجاه من يحكمونها لها تركيبة خاصة، تتداخل عوامل كثيرة في تشكيلها النفسي والمعرفي، أولها الإيهام الإعلامي بأن الحاكم لا يُخطئ ومرتبته تصل إلى مصاف الآلهة، وأن استمراره في الحكم قدرًا لابد من قبوله والرضا به، وإلا سيعم القحط والجفاف بالعباد وتنتشر الفوضى في البلاد ونصبح مثل سوريا والعراق، ويُرسخ لهذا الاتجاه بطانة فاسدة من رجال دين وسياسة، ونخب علمية واجتماعية، للقبول بالأمر الواقع ورفض أى حراك للتغيير، وتقديمه على أنه لن يجلب على الشعوب الا البلاء والوباء والتشريد، وهنا تكمن أهمية البدء في إسقاط مشروعية التبرير أولا تمهيدا لإسقاط النظام، فهو يقوى بهم على الجماهير لإحباط أى محاولة للتغيير، وهذا يبدأ بتعزيز الوعي في عقول الجماهير تجاه خطورة هؤلاء، وهذا ما غفلت عنه الجماهير في ثورتها واهتمت برأس الفساد وتركت ذيله يرتع ويلعب حتى كبر وخرجت له رأس أخرى أشد ظلما واستبدادا.
ثم يأتي الخوف الذي يزيد من ظلم الظالمين والحكّام المفسدين، فتترسخ في نفوس الجماهير أن أي تمرّد على الواقع القائم مهما كان سيئاً هو تجاوز في حق السلطة والدولة وإثمٌ لا يُغتفر، وقد يصل بصاحبه إلى مقصلة الإعدام، وهو ما يحدث في أكثر من دولة عربية الأن، عبر سياسة التخويف والاعتقال الفوري بل والقتل أيضا؛ حتى وإن كان تمرد الجماهير تمردا مشروعا، تطالب من خلاله الحق في كرامة العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، لكن النظام لا يسمع بضميره ليستجيب لتلك الشعارات، بل بعصاه وسوطه، وهذا أدعى لتغيير الجماهير نبرتها في مطالبها لتكون أقوى وأشد عن ذي قبل، وتفعيل كل وسائل الاحتجاج والتعبير.
وهذا ما جسدته رواية مزرعة الحيوانات للكاتب الانجليزي جورج أوريل" حين قال: " اتفق أصحاب المزارع على أن يلجؤوا إلى كثير من المبالغة والتهويل، وحتى إلى الكذب والافتراء، لكى تقتنع حيواناتهم بأن الثورة التى قامت بها تلك الحيوانات الطائشة كانت وبالا عليها، وأن الحيوانات العاقلة يجب أن تقف بجوار أصحاب المزارع" وذاك كان أحد أهم المداخل لهزيمة الثورة نفسيا، واتهامها بأنها شر جلبته الجماهير على نفسها؛ وتلك كذبة كبرى تولى كبرها إعلام محور الشر في المنطقة لتصدير مشاعر سلبية للجماهير، في حين أن الثورات لم تخُلق إلا لتكون وبالا على الظالم وشريان حياة للمظلوم، ولتأكيد تلك الرؤية كان لا بد من تقديم ضحية يكون عبرة لباقي الشعوب فكان الشعب السوري هو بطل تلك المأساة، لتربية باقي الجماهير بهم، فهل هى مصادفة أن ترفض غالبية دول العالم دخول أى مواطن سوري بشكل نظامي إلى أراضيها؟ إنه التأديب الذي أثّر في الناس قليلا لكنه لن يدوم كثيرا.
أصل الداء
فالنظرة العامة للواقع العربي الأن تقول أن ما يحدث فيه هو نِتاج لأصل في نفوسنا، وهي القابلية للاستبداد والرضا به منذ أن كان طفلا يحبو على أعتاب السلطة، فأصبح يستمد نموه وغذاءه من خنوع الشعوب ورضاها بواقعها المر، حتى إذا جاء وقت الصحوة واستيقظت الشعوب لتقطع دابر هذا الاستبداد يكون قد فات الأوان، بعد أن كبر واستفحل ونخر في عظام الوطن حتى النخاع، فلا تستطيع الجماهير قط مقاومته أو استئصاله، بل هي أول من تدفع ثمن السكوت عنه منذ البداية، من دماءها وأرواحها وأمن بلادها.
وهل كان بشار الأسد إلا امتدادا للمستبد الأكبر حافظ الأسد، وهل نظام السيسي سوى حلقة في سلسلة طويلة رأسها عبد الناصر ومن بعده السادات ومبارك، وهل ابن سلمان سوى صورة طبق الأصل من صور مستبدين آل سعود السابقين، وصولا إلى الجد الأكبر عبد العزيز، ونفس الأمر ينطبق على باقي الأنظمة العربية، وإن تعاملت الجماهير مع تلك الأنظمة بنفس عقلية وفلسفة بداية ثورات الربيع العربي، سوف يخلفهم من بعدهم من هو أشد منهم بطشا، وتظل الجماهير تدور في حلقة مفرغة لا آخر لها.
وإلا فمن الذي رعا هؤلاء وقدم لهم مادة بقاءهم وامتداد سلطانهم مدة ثلاثين عاما؟ أليست الجماهير التي خشيت أن تثور وتناهض الظلم حفاظا على حياة تعيسة لا كرامة فيها ولا احترام؟ وكما قال الكواكبي ” إن العوام هم قوت المستبد، بهم عليهم يصول وبهم على غيرهم يطول" فهل تطيقوا ثلاثين عاما أخرى؟
فالوعي بالأخطاء، وإلا سقطت الشعوب مرة أخرى في فخ المؤامرات ودغدغة العواطف من جديد، فنِصاب الثورة لا يكتمل إلا بوعي الشعوب، وبما أن الربيع العربي انطلق من دون وعي كافي للحفاظ على مكتساباته، فقد مر عليه حتى الآن عشر سنوات وهى كافية للتعلم من الأخطاء وطرح التساؤلات: لماذا أخطأنا وكيف وما العلاج لتفادي تلك الأخطاء التي أورثتنا نظام قمعي أشد ظلامية واستبداد، وبدلا من أن نفرح بذكري انطلاق الربيع العربي وإسقاط معاقل الديكتاتورية؛ صرنا نحتفل بحزن وألم في كل ذكرى، لميلاد نظم سياسية جديدة أشد ديكتاتورية ممن قبلها، فأصبحت الذكرى بحاجة إلى حراك قوى ومنظم لخلق ذكرى جديدة تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا، وتجعل من تلك النظم آية وعبرة لغيرها.
فالجماهير وحدها هي المسؤول الأول عن تغيير واقعها إلى الأفضل، والوسيلة الوحيدة التى تمثل آليات استرداد حقوقها، ورفض كل وسائل السيطرة القهرية من الأنظمة السلطوية التي لا هم لها سوى البقاء على الكرسي وخدمة مصالح الخارج، أولئك الذين يقتلعون شجرة الوطن من أجل ثمرة الحكم!
ثم يأتى دور النخبة والقادة، فلا قائد بدون جماهير ولا جماهير بدون قائد، ومهما كان حماس الجماهير، فلن يكون له فاعلية ولا تأثير إن لم يتجاوب الرأس مع الجسد، فالقوة لا تكمن في ذاتها بل في عقل يوظفها توظيفا سليما، ويفادي الجسد مخاطر حتفه وهلاكه، والثورة التى لا قائد لها لا تعرف طريق النصر، فالعواطف تفرز حماسا وأحيانا طيش يدفع ثمنه كثير من أصحاب الهمم الوطنية، فالحماس وحده لا يكفي، والتحرك المدفوع بعاطفة مآله إلى هلاك أو فشل.
لن تنجح الثورات إلا بعد أن تحقق الجماهير شرطها الأول وهو أن يكون المواطن حرًا من أسر العواطف والخطابات العنترية والثورية والخوف من العواقب، وأن لا يقع في فخ المقترحات السياسية على موائد اللئام في الداخل والخارج، ولا يبحث عن مجد شخصي، فمن نجا من عبودية الحاكم سقط في عبودية حب السلطة وشهوة القيادة ونسي ما عليه للثورة وللجماهير من حق، ومن هنا تكون الثغرة التى كلفت الشعوب الكثير وما زالت تكلفها.
وتلك آفة بعض الشخصيات النخبوبة التى تركب على الثورة لقطف ثمارها وحدها مبكرا وإقصاء باقي القوى السياسية، فثورة حظ النفس في سبيل حظ الوطن لا تخمد حتى تنتصر، وتؤتي ثمارها، فأخطر شيء يهيمن على روح الجماهير في هذا العصر بسبب تواؤمها مع الاستبداد ليس الحاجة إلى الحرية، وإنما إلى العبودية، ذلك أن ظمأ الجماهير للطاعة يجعلها تخضع غرائزياً لمن يُعلن بأنه زعيمها، فتُمطى له ظهرها فيركب، ويسلب حقوقها فتشكره، ويهين كرامتها أمام العالم، فما يجرؤ أحد على نقده.
وكما قال ميكافيليي قديما "إن محاولة تحرير أناس يرغبون أن يظلوا عبيدا، تنطوي على ذات القدر من الصعوبة والخطورة، التي تنطوي عليها محاولة استعباد أناس يرغبون أن يظلوا أحرارا".
فإذا تحركت الجماهير واستجابت لنداء فطرتها في رفض الظلم والاستبداد، ليكن شعار الثورة الفرنسية شامة تزين هتافاتها مرددة عباراتها الخالدة " الحرية هي التي تقود الشعوب، وليس بالخبز وحده يحيا الإنسان".
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس