ياسر عبد العزيز - خاص ترك برس
بابا نويل يقدم اعتذارا
لقد كان الرئيس التركي رجب طيب اردوغان بمثابة بابا نويل للمعارضة المصرية، فمنذ انقلاب الثالث من يوليو 2013 لم يقطع الرجل هداياه عن المعارضة المصرية، سواء بالمواقف السياسية الرافضة والمعلنة للانقلاب وتمسكه بالموقف حتى بعد أن تهاوت الدول التي أعلنت نفس الموقف تحت ضغط أمريكا والاتحاد الأوروبي أو تحت ضغط البترودولار الذي سيُمنع من دول الخليج، ولا أستثني هنا إلا قطر، في حال تمسكت تك الدول بموقفها من الانقلاب، أو حتى تحت ضغط المصالح المشتركة مع مصر الدولة لا النظام، سبع سنوات وتركيا متمسكة بموقفها المبادئي تجاه الانقلاب العسكري الذي أطاح بالرئيس والنظام المنتخب في مصر، خلال تلك السنوات قدمت الإدارة التركية منحا كبيرة "للمعارضة" المصرية التي قررت اتخاذ الأراضي التركية منصة إطلاق لها، مستغلة في ذلك سهولة دخول الدولة السياحية، وهو ما كان منحة أخرى لبقاء آلاف المعارضين المصريين على الأراضي التركية باستثناءات وتسهيلات غبطتهم عليها باقي الجاليات العربية التي تعيش ظروفا شبيهة بما تعيشه المعارضة المصرية، ومن جملة الاستثناءات سمحت الإدارة التركية للمعارضة أن تقول كلمتها من أراضيها، فأنشأت قنوات فضائية ومواقع إخبارية تبث للداخل المصري على أمل إبقاء جذوة الثورة متقدة، لكن ومع غياب الرؤية الحقيقية للمعارضة المصرية، ومع قراراتها غير المبررة بالتهدئة، ربما تحت ضغوط خليجية أو أمريكية، ومع انشغال قادة المعارضة بتوفيق أوضاعهم كأولوية عمل! وهي الخطوة التي استغرقت سنوات أضاعت معها فرصا كثيرة فقدت معها هدايا قيمة، قرر بابا نويل أن يعتذر.
ليس عيبا أن ترضخ للضغوط
منذ خمس سنوات تقريبا، أسر لي أحد قادة حزب العدالة والتنمية الحاكم أن هناك ضغوطات كبيرة تمارس على الرئيس من داخل الحزب، فيما يخص الملف المصري، تلك الضغوطات وصلت أن تصاعدت إلى قيادات عليا في الحزب، بشأن الملف المصري، واستضافة المعارضة على الأراضي التركية، وحديث قادة الحزب إلى الرئيس كان من منطلق عدم فتح الباب أمام المعارضة أن تستغل الملف المصري للضغط على الحزب وقد كان على أبواب انتخابات تشريعية، وهو بالفعل ما حدث ولم يحصل الحزب على النسبة التي تؤهله لتشكيل الحكومة منفردا، وأعيدت الانتخابات ونجا الحزب من فخ الحكومة الائتلافية، لكن ظل الملف مفتوحا بين وقت وآخر، طبعا لم يكن بنفس قوة ملف السوريين الذي كان أكثر إزعاجا، لكنه كان يفتح دوما في إطار فوات الفرص، وأن الشراكة مع مصر أكثر فائدة من مناكفتها، وكان موقف الرئيس أردوغان دوما مبادئي من الانقلابات، لتأتي محاولة انقلاب الخامس عشر من تموز في تركيا 2016 لتسكت الجميع وتعضض رأي الرئيس، لكن مع مرور الوقت واستقرار الأوضاع السياسية وتحول الدول الضاغطة إلى الملف الاقتصادي لكسر إرادة تركيا بدأ الملف المصري يعود للواجهة من جديد، وبدأت المعارضة تضغط به من جديد وسمحت لها الأوضاع الصحية التي أثرت على الاقتصاد للضغط مجددا بالملف المصري على الإدارة التركية، ولما كانت التغيرات الإقليمية والدولية الأخيرة، في الملف الليبي وغاز شرق المتوسط وما صاحبه من تكتلات إقليمية ستكون تركيا الخاسر الأكبر فيها لو لم تحدث إختراقا فيه، ومن ثم وصول بايدن للبيت الأبيض شكلت عوامل ضغط جديدة على الإدارة التركية.
الفرص والعروض
بين الفرص والعروض المتاحة في ظل الضغوط التي أصبحت واقعا يجب التعامل معه، حاولت الإدارة التركية تخفيف الضغط وكسب نقاط في مباراة تتسارع وتيرتها بين المتنافسين في المنطقة فالمعطيات خلال الفترة الأخيرة والتحالفات التي صاحبها تنازلات، جاءت كلها على حساب تركيا ومصالحها؛ بل وأمنها القومي وحقوقها المشروعة في الثروات والحدود الطبيعية، والأمثلة في ذلك كثير، وعلى رأسها اتفاقية ترسيم الحدود بين اليونان والنظام المصري، والذي تعمد إضاعة آلاف الأميال البحرية لصالح اليونان نكاية في الغريم التركي وإرضاء للكفيل الخليجي، وكذا نشاط منتدى غاز شرق المتوسط الذي وضح من الوهلة الأولى أنه حلف عدائي لاغتصاب حقوق تركيا في غاز المتوسط، لمصلحة كل من اليونان والكيان الصهيوني، إرضاء للنظام المصري وكفيله الإماراتي الذي يلعب من خلف الستار، وفرص تركيا في التقارب المصري، ستكون بخرق ذلك التكتل الذي يمثل خطورة على مصالحها في شرقي المتوسط، ولعل من الملفات المهمة والمكملة لتلك الملفات الملف الليبي الذي قطعت فيه تركيا شوطا كبيرا لكسب ورقة ضغط تلعب بها، لكن وفي المقابل وجد النظام المصري نفسه مهمشا في عدة ملفات كان يظن نفسه فيها فاعلا رئيسيا، فالمصالحة الخليجية التي لم تراع مصالح القاهرة وهرولة عدد من الدول الخليجية نحو التطبيع مع الكيان الصهيوني متجاوزين الوسيط الدائم منذ اتفاق السلام في 1979 وترتيبات بعض الدول مع الاحتلال الصهيوني كالإمارات في مشروع قناة بن جوريون، أو نقل النفط عبر عسقلان، ومشروعات نيوم مع السعودية، كل ذلك جعل النظام المصري يسعى لإيجاد بدائل للضغط على حلفائه الذين باعوه، ولعل وصول بايدن للبيت الأبيض وما سبق ذلك من تصريحات تتوعد كل أنظمة المنطقة، دفعها جميعا لإعادة تموضعها من أجل اصطفاف أكثر تماسكا، لاسيما وأن السعودية تشعر بأن وعود بايدن الانتخابية بالعودة للاتفاق النووي الإيراني ستجعلها في مرمى إيران، ومن ثم تحتاج لحليف يوازن القوى في المنطقة، وهو العرض الذي قدمته أنقرة للرياض ومن ورائها دول الحصار، كما أن أنقرة قدمت للنظام في مصر تحديدا عرضا بعدم التعرض في المحافل الدولية لاسيما حلف ناتو، ما يراه النظام الباحث عن شرعيته رغم مرور سبع سنوات فرصة تضاف إلى فرص موسم العروض في زمن ما بعد ترامب.
ومع عدم إغفال الحالة الاقتصادية التي تحتاج مزيد من التقارب بين دول العالم لاسيما المتجاورة للتعافي من تداعيات جائحة كورونا التي تركت ندبة كبيرة على جبهات اقتصادات المنطقة، فإن حالة التقارب تعد فرصة كبيرة لا تنتظر عرضا لاغتنامها.
هل قرر أردوغان رفع المعارضة المصرية من على جهاز التنفس؟
مع كل هذه الفرص والعروض، بقي ملف يعد الأهم للنظام المصري، وإن لم يكن يسبب له مشكلة إلا أن صداعا مزمنا قد يؤدي في لحظة ما لإنهيار الجسد الذي يلملم شتاته بعد صولات التخلص من المعارضين في مفاصل كثيرة من الدولة، ضباط قدامى وضباط حاليين ورجال أعمال لهم مصالح مع النظام السابق يريدون أن يستردونها ودعموا النظام الحالي لعل وعسى، وإعلاميون وطبقات مطحونة تسحقها سياسات كارثية، تبرز كل ذلك وتسلط عليه الضوء المعارضة المصرية في الخارج بأذرعها الإعلامية التي تؤكد الاحصائيات أنها أصبحت أكثر تأثيرا في السنوات الثلاثة الأخيرة في الشارع المصري، فكان الطلب الأهم لدى النظام إسكات هذه الأصوات للتفرغ للداخل.
شكل نبأ زيارة نائب وزير الخارجية التركي سادات أونال على رأس وفد دبلوماسي تركي إلى القاهرة صدمة كبيرة، لاسيما وأن عددا من الصحفيين المصريين العاملين في القناة التركية الرسمية الناطقة بالعربية نفوا الخبر قبل أن تعود الوكالة الرسمية (الأناضول) وتؤكده، ولعل مخاوف المعارضة المصرية مشروعة من هذا التقارب الذي بدأ يأخذ شكلا علنيا رسميا بعد أن اقتصر خلال الشهور الماضية على الاتصالات المخابراتية بين تركيا والنظام في مصر، الزيارة التي تأتي بعد ما يقارب الشهر من تشديدات أطلقتها الإدارة التركية لقنوات المعارضة العاملة على أراضيها، بتخفيف حدة انتقاد الأوضاع في مصر وتجنب المساس برأس النظام تحديدا، وهو ما شكل هاجسا بأن الرئيس أردوغان سيفصل جهاز الأكسجين عن تلك القنوات، وربما عن المعارضة بالكلية، وهو مطلب مشروع للنظام أو لأي نظام يريد تطبيع علاقاته مع دولة تحتضن على أراضيها المعارضين لذلك النظام.
المشاهد من مساحات التقارب التي تحاول تركيا أن تخلقها مع دول حصار قطر ومع النظام في مصر تحديدا، أنها مساحات لم تتسع ليقف فيها الأطراف متجاورين، فلاتزال حالة الترقب والتوجس حاكمة، فعلى الرغم من محاولات تركيا الحثيثة لمد يد المصالحة مع القاهرة والرياض على سبيل المثال، لا تزال الأولى تطلق منصاتها الإعلامية غير الرسمية لضرب تركيا، في حين اتخذت الثانية خطوة اكثر جرأة بإغلاق ثمان مدارس تركية تعمل في المملكة، وهو ما يقرأ على أن التقارب قد يكون في ملفات التقاطع والإلتقاء من دون الوصول إلى تطبيع كامل يشكل بداية النهاية للمعارضة المصرية العاملة في تركيا.
ويبقى الرهان على حنكة الرئيس أردوغان المعروف عنه الاستفادة من كل قصاصة ورق يمكن اللعب بها، وعلى المعارضة أن تقدم نفسها كفاعل حقيقي وعنصر جاد في معادلة المصالح الحاكمة بين تركيا والنظام في مصر وليس مجرد قصاصة لورقة ضغط يتم اللعب بها بين أنقرة والقاهرة، وأن تتمسك بآخر أمل قبل أن يرفعهم أردوغان من على جهاز التنفس.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس