ترك برس
حادثة نادرة حول العالم، أن تقود عمامة مرتديها إلى خشبة الإعدام. إلا أن ما حدث بالفعل في تركيا، في عشرينيات القرن الماضي، أي مع بدايات تأسيس الجمهورية التركية على يد مصطفى كمال أتاتورك.
وفي تقرير موسّع له، سلّط موقع "ميدان" الضوء على قصة إعدام الشيخ محمد عاطف الإسكيلبلي من قبل سلطات الجمهورية التركية.
وفيما يلي النص الكامل لتقرير "ميدان":
مع ظهور الثورة الصناعية في أوروبا وتخلُّف الدولة العثمانية عن ركب التقدُّم الصناعي والتكنولوجي منذ منتصف القرن الثامن عشر وما تلاه، ومع الهيمنة العسكرية للغرب ونجاحه في تحقيق انتصارات على جبهات عدة وخسارة الدولة العثمانية مساحات شاسعة من الأراضي طوال القرن التاسع عشر من البلقان إلى القوقاز وصولا إلى شمال أفريقيا في الجزائر وتونس ومصر، أدَّى ذلك إلى هزّات عميقة في البنية الاجتماعية والثقافية والاقتصادية لدولة العثمانيين.
وقد حاول بعض السلاطين مجاراة عمليات التحديث الصناعي والعسكري والإداري، وبدأ عصر ما يُسمى بالتنظيمات في الدولة العثمانية في عهد السلطان عبد المجيد الأول عام 1839، وكانت هذه التنظيمات في حقيقة الأمر رَدة فعل على التقدُّم الأوروبي الكبير في المجالات الصناعية والعسكرية، واستجابة أُجبر عليها العثمانيون مع هزائمهم المتوالية أمام والي مصر المُتمرِّد محمد علي باشا وابنه إبراهيم اللذين استطاعا السيطرة على سوريا وفلسطين حتى وصلت قواتهم إلى قونية في وسط الأناضول، لذا، وكما يقول برنارد لويس في كتابه "ظهور تركيا الحديثة"، "كان على تركيا إما أن تُحدِّث نفسها في العالم خلال القرنين التاسع عشر والعشرين وإما أن تموت."
استمرَّت عملية التحديث بالفعل لكنها تزامنت مع أحداث خطيرة في الداخل العثماني، تحديدا مع مقتل السلطان عبد العزيز عام 1875، وارتقاء ابن أخيه السلطان عبد الحميد الثاني (1876-1909) الذي أدخل نظام المشروطية "الديمقراطية" النيابية، وهي السمة التي ميَّزت المجتمعات الأوروبية آنذاك، وسارت مصر على النمط ذاته عام 1866، مع برلمان الخديو إسماعيل، لكن كلتا التجربتين لم تستمر طويلا.
أيقن السلطان عبد الحميد الثاني أن المشروطية أو الحكم البرلماني لا يصلح للدولة العثمانية التي نشأت قبله بستة قرون، وأُديرت طوال هذه المدة على نمط الدول السُّلطانية والخليفية أو الملكيات القديمة النافذة في أوروبا، واعتقد أن المشروطية في الدولة العثمانية التي تنوَّعت فيها المِلَل والنِّحَل والأعراق والأديان على مساحة جغرافية كبيرة ومتنوِّعة ستؤدي لا محالة إلى تفكُّك الدولة، ورأى أن أفضل حل لهذه المعضلة هو العودة لما استقرَّت عليه الدولة العثمانية منذ قرون من خلال نظام "المِلَل"، حيث تعود كل طائفة إلى أصولها الدينية والفكرية للاحتكام، على أن تبقى المسألة السياسية والعسكرية في البيت العثماني ومَن يعاونهم من الصدور العظام "رؤساء الوزراء" والبيروقراطية العثمانية والجيش.
لهذه الأسباب كلها، سرعان ما ألغى السلطان عبد الحميد المشروطية وحلَّ البرلمان العثماني. والحق أن السلطان عبد الحميد كان مُخالِفا لأبيه السلطان عبد المجيد وأخيه مراد الخامس، وكما يقول المؤرخ التركي يلماز أوزتونا: "كان السلطان عبد الحميد يعيش مُحافِظا على التقاليد الشرقية الإسلامية العثمانية التركية، ورأى أنه ينبغي الوقوف عند اقتباس تكنولوجيا الغرب وعلومه فقط، والاطلاع على الثقافة الغربية دون تقليد الغرب في معيشته."
لكنّ تيارا عاما من جيل الشباب التركي والكردي والبلغاري والألباني وغيرهم ممن عاشوا في أزمنة التحديث المُتقلِّبة تلك، وتأثَّروا بخطاب الحرية والليبرالية الأوروبية وربطوه بالتقدُّم والرفاه، كانوا ساخطين على جمع السلطات كلها في يد السلطان عبد الحميد الثاني وغير راضين عن نظرته إلى الغرب، وقد أنشأ هذا الجيل من المدنيين والعسكريين في نهايات القرن التاسع عشر والعقد الأول من القرن العشرين رابطة عُرفت باسم "تركيا الفتاة" جمعت بين جنباتها جمعية الاتحاد والترقي، وحزب الحرية والائتلاف أو الاتحاد الليبرالي، والحزب الاشتراكي العثماني، والجمعية العربية الفتاة وغيرهم، من أجل دفع دفة التحديث أو التغريب، حيث كانوا يرون أن الفساد الإداري والسياسي في الدولة العثمانية هو سبب تخلُّفها.
كان تكتُّل "تركيا الفتاة" نواة ثورة يوليو/تموز 1908 ضد السلطان عبد الحميد، وهي الثورة التي اضطرت السلطان إلى إعادة نظام المشروطية مرة أخرى والانزواء إلى الظل، وساعتها، أدركت طبقات واسعة من الناس والعسكريين خطورة ما يحدث من رِدة على التقاليد والأفكار الإسلامية والعثمانية في ميزان الحكم والإدارة، فانقلبت جماعات مؤيدة للسلطان عبد الحميد على الانقلاب التحديثي، لكنّ الانقلابيين الأوائل سارعوا إلى خلع السلطان عبد الحميد في إبريل/نيسان 1909.
دخلت الدولة العثمانية منذ ذلك التاريخ في دوامة الديكتاتورية العلمانية تحت حكم "تركيا الفتاة" الشمولي، الذي كان أقل تقبُّلا لغير الأتراك، وسرعان ما سقطت الدولة في دوامات متتالية من الحروب، بداية من الإيطالية عام 1911، وحرب البلقان عام 1912، والحرب العالمية الأولى (1914-1918). وفي أعقاب الهزيمة في تلك الحرب، انتفض الأتراك وبعض فِرَق الجيش العثماني ومنهم أتاتورك ضد احتلال اليونان وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا لأجزاء واسعة من الأناضول وغيرها، مما أدَّى في نهاية المطاف إلى موت الخلافة العثمانية رسميا في مارس/آذار 1924، وإعلان الجمهورية التركية قبل ذلك بأشهر في 29 أكتوبر/تشرين الأول 1923.
لكن الأمر اللافت للنظر بخصوص الجمهورية الجديدة التي تأسَّست على مبادئ الاتحاد والترقي، وأن تركيا للأتراك ولا علاقة لها بالعرب أو بغيرهم، أنها سرعان ما بدأت تشن الحرب ضد كل ما يمتّ للإسلام بصلة، وضد القائمين بأمره من شيوخه وعلمائه؛ فاضطر أكبرهم العلّامة وشيخ الإسلام في الدولة العثمانية مصطفى صبري (ت 1954) أن يهاجر من تركيا مُتنقِّلا ما بين أوروبا والحجاز قبل أن يستقر في مصر حيث قضى نحبه.
أما الغالبية العظمى من علماء الدين وشيوخه فقد نالهم السجن والقتل لا لشيء إلا لآرائهم التي خالفت القوانين والأنظمة التي جاءت بها الجمهورية الأتاتوركية العلمانية وفصلت تركيا الحديثة عن تراثها الفكري وجوارها الجغرافي الإسلاميَّيْن وراحت تتجه نحو الغرب بحماسة، وكان من ضحايا هذا التطرُّف العلماني للجمهورية التركية الوليدة الشيخ محمد عاطف الإسكيلبلي الذي أُعدم عام 1926، بسبب معارضته لسلطة مصطفى كمال أتاتورك الجديدة، فمَن هو محمد عاطف الإسكيلبلي؟ ولماذا أُعدم؟
كان مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس الجمهورية التركية الحديثة، أحد أهم رجالات حرب الاستقلال التي حرَّرت الأناضول والعاصمة إسطنبول من قوات الحلفاء في أعقاب الحرب العالمية الأولى. وسرعان ما نجحت مساعيه في التحرُّر الوطني من الاحتلال، فأنشأ بعد ذلك الجمعية الوطنية "البرلمان" في أنقرة، ثم شرع ورفاقه القوميون في التخلُّص من الإرث العثماني كاملا.
ففي 29 أكتوبر/تشرين الأول 1923، وقبل إعلان الجمهورية ببضع ساعات، أوضح مصطفى كمال أتاتورك أفكاره أمام كاتب فرنسي مؤيِّد له هو موريس بيرنو، قائلا: "إن فرنسا ألهمت النضال من أجل الحرية في كل أنحاء العالم"، مؤكِّدا أن "القوميين الأتراك لا يكرهون الأجانب، وإنما هم أصدقاء للأمم المتحضِّرة، ويغارون من استقلالها، وقد انتقل الأتراك طوال التاريخ من الشرق إلى الغرب، والحكومة الحديثة تعني حكومة غربية."
استتبع توجُّه أتاتورك ناحية الغرب بهذه الصورة عداء أيديولوجيًّا عميقا مع شيوخ الدولة العثمانية وعلمائها الذين وُجدوا في كل جغرافيتها لا سيما في الأناضول، وأدرك هؤلاء سريعا من خلال خطابات الجمهوريين وقوانينهم، وعلى رأسهم أتاتورك، أن ثمة صداما قادما لا محالة، وأن الإعلان الخطير عن موت دولة الخلافة العثمانية لم يكن سوى بداية الطريق.
كان من هؤلاء الشيخ محمد عاطف الإسكيلبلي (İskilipli Âtıf Hoca) (1875-1926)، أحد أبناء الأناضول من الطبقات الاجتماعية المحافظة، وقد وُلد في قرية توبخانه التابعة لمقاطعة إسكيليب في محافظة تشوروم شمال تركيا، وحفظ القرآن الكريم صغيرا، ولما بدت عليه علامات النجابة وحُب العلم اتجه لإسطنبول في العقد الأخير من القرن التاسع عشر ليُكمل دراسته على كبار علمائها، وينخرط في سلك التدريس الديني في جامع السلطان محمد الفاتح، قبل أن يترقَّى في الوظائف الدينية المختلفة بما فيها هيئة كبار العلماء. وقد رأى الشيخ عاطف أفندي أوجه القصور في نظام المدارس الدينية والمدرسين، فأرسل تقريرا مُفصَّلا إلى شيخ الإسلام ومفتي السلطنة آنذاك الشيخ محمد جمال الدين (1848-1917) يصف له الإصلاح الضروري في نظام التعليم الديني، ولأن هذا التقرير مَسَّ مراكز بعض الشيوخ قُدِّمت عدة شكاوى ضده، فنُقل من إسطنبول إلى بودروم على البحر المتوسط.
بعد فترة، عاد الشيخ عاطف أفندي إلى إسطنبول ليُشكِّل مع عدد من علماء الإصلاح ومشايخه في نهايات الدولة العثمانية جمعية المدرسين التي تغيَّر اسمها إلى جمعية رفعة الإسلام (Teâlî-i İslâm Cemiyeti)، وذلك في 15 فبراير/شباط 1919. وكان أول رئيس للجمعية هو الشيخ مصطفى صبري أفندي الذي سرعان ما عُيِّن بعد بضعة أيام في منصب شيخ الإسلام (مفتى السلطنة)، فخَلفه في رئاسة الجمعية بالإجماع الشيخ محمد عاطف الإسكيلبلي أفندي في 19 فبراير/شباط.
كان هدفُ الجمعية التي أُنشئت قبل وصول الإسكيلبلي إلى رئاستها بخمسة أيام فقط العملَ على نهضة الدولة العثمانية وتنميتها وإصلاحها في المجالات العلمية والصناعية والدينية والسياسية والعسكرية، وقرَّرت أنها ستعتمد في قيامها واستمرارها على دعم طبقات المجتمع كافة وليس الدولة فقط[8]، وكان إنشاء هذه الجمعية محاولة جادة من مشايخ الدولة العثمانية وعلمائها للنهوض بها بعد هزيمتها الثقيلة والمهينة في الحرب العالمية الأولى، وفق رؤية هؤلاء العلماء لمفاهيم النهضة الإسلامية التي عادت تطرح نفسها بقوة في الدولة العثمانية والأقطار العربية أيضا.
على أن التطوُّرات اللاحقة وإعلان الجمهورية عام 1923، وقبلها حل جمعية "رفعة الإسلام" وغيرها من الجمعيات والمنظمات الدينية عام 1922، ثم إلغاء الخلافة العثمانية عام 1924 واندفاع أتاتورك ورفاقه نحو "التغريب" الكامل، وصدور حقبة القوانين المعروفة بـ "تنظيمات أتاتورك"، التي نصَّت على منع المدارس الدينية، وإلغاء الألقاب والمحاكم الشرعية والحرف العربي واستخدام الحرف اللاتيني، ومنع لبس العمامة والطربوش ولبس القبعة الأوروبية مكانهما واعتبارها رمز التقدُّم والتحضُّر[9]، كل هذا كان مُحفِّزا للعلماء والمشايخ على رفع أصواتهم للدفاع عن الإسلام، ولو بالكلمة.
ولهذا السبب كتب الشيخ محمد عاطف الإسكيلبلي عام 1924 رسالته الشهيرة "القبّعة وتقليد الإفرنج" (Frenk Mukallidliği ve Şapka)، التي أعلن فيها رفضه لبس القبعة الأوروبية والتحوُّل عن لبس العمامة والطربوش لما في ذلك من تقليد أعمى للمنهج الغربي. وقد فهم أتاتورك ورفاقه مغزى هذه الرسالة، حيث لم تكن العمامة والطربوش سوى رمزين للصراع بين العلمانيين الجدد وشيوخ الإسلام، لذا فقد عَدُّوا الرافضين لبس القبعة الأوروبية جهلة ومتخلفين عن ركب الحضارة.
لكن الشيخ الإسكيبلي كان ذكيا ومُنصِفا حين أكَّد أنه لا يُعارض تقليد الغرب بالكلية في الأمور النافعة قائلا: "لا يوجد ثمة نهي أو منع عام للتشبُّه بكل مُحدثة أو بدعة سواء أحدثها أهل السنة أم الكفّار وغيرهم، وإن التشبُّه بهم في النوم والمأكل والمشرب وغيره أمر ضروري وطبيعي، وهناك إباحة ومشروعية في التشبُّه بهم في الأغراض الدنيوية كما في المسائل الزراعية والصناعية وتصنيع الأسلحة وأدوات الحرب وحتى في المطابخ والأسِرّة، بل في بعض الأحيان يصبح الأمر واجبا وضرورة لا انفكاك عنها."
هكذا رأى الشيخ الإسكيلبلي ومؤيدوه الحدَّ الفاصل بين التقليد المقبول وبين الانسحاق الهوياتي والحضاري، وبسبب آرائه تلك، انتشرت حركة شعبية مؤيدة للعمامة والطربوش في المناطق المحلية والريفية في الأناضول، وسرعان ما تحوَّل الاعتراض إلى بوادر ثورة اجتماعية، الأمر الذي أرَّق الكماليين فقرَّروا وضع حدٍّ نهائي له بإجراءات صارمة.
وبموجب مخالفة "قانون القبعة"، أُلقي القبض على الشيخ عاطف الإسكيلبلي والشيخ علي رضا مفتي بابا إسكي التابعة لمحافظة "قِرقلر إيلي" غرب تركيا وغيرهما من المعارضين لبس القبعة الأوروبية وتقليد الغرب، وذلك في 7 ديسمبر/كانون الأول 1925، وأرسلتهم محكمة الاستقلال في أنقرة إلى مدينة غيرسون شمال تركيا لتتم إجراءات محاكمتهم على عجل. وقد توجَّب وفقا لقانون القبعة الذي صدر قبل بدء هذه المحاكمة بنصف عام أن يُحكم بالسجن على الشيخ الإسكيلبلي وعلي رضا لثلاثة أعوام بحدٍّ أقصى، لكن جاءت الأوامر العليا من الكماليين فحُكم عليهما بالإعدام شنقا، ونُفِّذ الحكم على مقربة من مجلس النواب القديم في العاصمة أنقرة في 4 فبراير/شباط 1926[13]، ليكون إعدام الشيخ الإسكيلبلي إحدى العلامات المبكرة على تطرُّف السلطة الأتاتوركية العلمانية وشموليتها، وبطشها بكل المعارضين لها، حتى لو كانت معارضتهم مُوجَّهة ضد لبس القبّعة.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!