د. مصطفى الحاج حامد - خاص ترك برس
دفنت تركيا بالأمس الجنرال كنعان إفرين، قائد آخر انقلاب عسكري (12 أيلول/ سبتمبر 1980) ورئيس تركيا السابع حتى العام 1989، الذي حكم تركيا حقبة من الزمن بالحديد والنار، ولا تزال القوانين الاستثنائية - التي وضعها العسكر على مقاسهم - تؤثر في الحياة التركية السياسية والدستورية، رغم محاولات التغيير والتعديل والإصلاح من قبل العدالة والتنمية على مر العشر سنين الماضية.
رغم كون صاحب الجنازة هو رئيس تركيا السابق وبرتوكولية الجنازة، إلا أنها خلت من مشاركة كافة الأحزاب السياسية التي تبرأت بدورها من هذه الحقبة السوداء التي عاشتها تركيا وسببت انقطاع لمسيرة الديمقراطية. واقتصرت المراسيم على مشاركة العسكر ورفاق قائد الانقلاب والمقربين منه وأفراد عائلته.
لقد اعتادت تركيا في الماضي على الانقلابات العسكرية كل عشر سنوات (1960-1971-1980) والانقلاب الأبيض في عام 1997 على حكومة نجم الدين أربكان رحمه الله، حيث كان العسكر في كل مرة يمسكون بقبضة الحكم، وفي كل مرة تتكرر الإعدامات والاعتقالات، وتصفية بعض الحركات الصاعدة من اليمين واليسار، وخاصة الحركات الإسلامية حتى وإن تبنت الديمقراطية طريقا للعمل السياسي، بالإضافة لتوقف الحياة البرلمانية والاقتصادية وتراجع تركيا عشرات السنين للوراء.
حقبة الحكم العسكري مليئة بالأهوال والمظالم، والأرقام المتداولة كافية لتعطي صورة عن ظلام تلك الفترة حيث تم اعتقال أكثر من 700 ألف مواطن في فترة وجيزة من بينهم رئيس تركيا السابق عبد الله جول وجُلّ من يحكم تركيا اليوم، وطولب بتنفيذ حكم الإعدام على الآلاف، وحكم على المئات منهم بالإعدام. وتوفي المئات في السجون بسبب التعذيب والإضراب عن الطعام.
الاعتقالات العشوائية وحالات التعذيب بالسجون، والإذلال في كل مكان، والإعدامات بعد محاكمات عسكرية صورية، وسلب الحريات وهضم الحقوق وكتم الأفواه وتعطيل القانون، ومنع الحياة السياسية هي أهم ملامح الحقبة العسكرية، ليس في تركيا وحدها، بل في كل بلد يحكمه العسكر والانقلابيون.
حيث تصبح القوة هي السلطة ولا صوت يعلو فوق سلطة العسكر والسلاح والقوة.
لقد أكد القرآن الحكيم هذه الحقيقة على لسان بلقيس ملكة سبأ "قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون".
نعم هكذا هم العسكر إذا حكموا وهكذا هو المستعمر وكل دخيل على الدين والشعب والوطن.
لكن لم يكن قدوم العسكر والانقلاب العسكري غير مرحباً به من قبل الشعب والأهالي بل على العكس من ذلك، لقد نال التصفيق والدعم المباشر والتأييد من كثير من شرائح المجتمع، بسبب ما آلت إليه الحياة اليومية في تركيا حيث سقط أكثر من 5000 شاب في صراعات جانبية بين أبناء الشعب الواحد. وأصبح الخروج للعمل والذهاب للجامعة والخروج للسوق مخاطرة ومجازفة. مما جعل الكثيرين يشعرون بالأمن والأمان لقدوم العسكر وسيطرتهم على مقاليد الأمور لأنهم يجلبون أهم ما يحتاجه الإنسان في حياته وهو الأمن من الجوع والخوف.
العسكر ورغم أنهم يملكون القوة والسلاح وإمكانية منع هذا التدهور الأمني والقدرة على إيقافه, لكنهم لم يتدخلوا ولم يعملوا على إطفاء نار الحرب الأهلية، وظلوا متفرجين لفترة طويلة، منتظرين نضوج الخطة واستكمال الاستعداد النفسي لدى المواطن حتى يصبح تدخلهم العسكري ومبررات الانقلاب مقبولة لدى الجميع بل ويصبح التدخل العسكري مطلب الجميع بدون منازع رغم إدراك الكل بسلبيات هذا التدخل ومعارضتهم المبدئية والعقائدية لتدخل العسكر بالسياسة والحياة المدنية.
لكنها سياسة العسكر والمستعمر وسياسة الدول في تدخلاتها في الحروب والمعارك والمنازعات.
فهي لا تأبه بموت الآلاف والملايين ولا بسلب الحريات ولا بالجرائم وما يحصل من تجاوزات وتعذيب بالسجون وتدمير للمدن وقتل وتشريد وتهجير.
وتنتظر اللحظة الحاسمة التي تنقض بها على فريستها للقضاء عليها وتطبيق مشاريعها وتنفيذ مخططاتها التي أعدتها وتنتظر وصول الشعب لحالة من اليأس والقنوط والفشل وفقدان الأمل والثقة والإحباط.
تجعلهم يختارون الأهون شراً والأقل ضرراَ وقبول الحل الذي لم يبقى بديلاً غيره.
ما يحدث بسورية اليوم من أحداث على كل المستويات من تأخير للحل ومنع النظام من السقوط وما يحصل من جرائم وقتل وتشريد أو تسلط على رقاب الناس.
كلها تشير لمخطط عميق يراد تطبيقه وتنفيذه في اللحظة المناسبة بالنسبة لهم.
دروس وعبر كثيرة على أصحاب الثورة السورية الاستفادة منها ومن هذه التجربة التركية القديمة والحديثة.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس