د. سمير صالحة - تلفزيون سوريا.
يبدو أن المعلومات التي كشف وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو النقاب عنها قبل أيام حول احتمالات حدوث تفاهمات تركية قطرية مع حكومة طالبان المؤقتة على تشغيل مشترك لعدة مطارات في أفغانستان قد وصلت إلى مراحل إيجابية متقدمة. فالمعلومات عاد وأكدها مصدر دبلوماسي تركي بإعلانه عن عودة وفد تركي قطري مشترك إلى الدوحة لمواصلة وضع اللمسات الأخيرة على عمليات التحضير لخطة التحرك المرتقبة، بعد تفاهمات جديدة مع المسؤولين الأفغان في كابول.
الخطة الثلاثية المتوقع الإعلان عنها قريبا سبقها كما هو واضح أيضا تفاهمات تركية قطرية ثنائية على التنسيق والتعاون الفني والأمني وعمليات التمويل وإعداد الكوادر التي ستشارك في تشغيل 5 مطارات أفغانية على رأسها مطار حامد كرزاي الدولي في العاصمة كابول. ثم نقل الخطة إلى قيادات طالبان لبحث تفاصيلها والتجهيز للعقود المشتركة التي ستعتبر اختراقا إقليميا ودوليا مهما في التعامل مع ملف الأزمة الأفغانية. خارطة الطريق الثلاثية ستكون متعددة الجوانب ويشارك فيها أكثر من طرف. سيكون فيها الشق الرسمي والأمني المشترك إلى جانب الشق التقني الفني بمشاركة شركات القطاع الخاص التركية والقطرية التي لها باع طويل وخبرة واسعة في مجال تشغيل المطارات. لكن ما هو غير معلن حتى الآن مسألة الدور الأممي أو الدولي في تقديم الدعم المالي أو الغطاء السياسي المطلوب لخطة استراتيجية بعيدة المدى ومتعددة الأهداف من هذا النوع.
الجانبان التركي والقطري يعتمدان سياسة واقعية عملية هدفها دعم الشعب الأفغاني ومساعدته على الخروج من أزماته بعدما خيبت الإدارة الأميركية آمال الكثيرين في تحقيق وعود الحل السياسي هناك وقرار الانسحاب بشكل مفاجئ تسبب بكارثة إنسانية وامتحان أخلاقي صعب على مرأى المجتمع الدولي في الصيف المنصرم.
شاركت أنقرة في عمليات دعم الحلول السياسية والعسكرية لملف الأزمة الأفغانية منذ سنوات طويلة على المستوى الثنائي والإقليمي والدولي وكان لتحركها خصوصيته التي تختلف عن بقية الدول بسبب العامل التاريخي والديني والاجتماعي في العلاقات التركية الأفغانية. العرض التركي بالمشاركة في تشغيل مطار كابول قديم نوقش مع الحكومة الأفغانية السابقة دون الوصول إلى تفاهمات، بعد أن بسطت حركة طالبان نفوذها على البلاد. قطر بدورها لم تتوقف عن بذل جهودها الدبلوماسية والإنسانية منذ سنوات في التعامل مع الملف. استقبلت عشرات المرات القيادات الأفغانية في الحكم والمعارضة وفتحت أبوابها أمام مئات اللاجئين وأسرهم دون تردد، وقادت العديد من عمليات الحوار والتفاوض الإقليمي والدولي العلني والسري حول سبل حلول الأزمة. وهي كلها مؤشرات مهمة على أنه يخطئ من يعتقد أن هدف الجهود التركية القطرية هو فقط إصلاح أعطال المطارات في أفغانستان وإعادة تجهيزها فنيا بهدف تأمين حركة الدخول والخروج إلى البلاد.
التحرك الثنائي التركي القطري هو جزء من خطة تحرك سياسي بطابع إقليمي تهدف لدعم إنجاز المرحلة الانتقالية في البلاد وتحقيق الانتخابات وتأمين وصول حكومة شرعية تحصل على الاعتراف الدولي بها وتأخذ مكانها في المحافل والمنظمات الأممية والإقليمية. وهذا ما تريده حكومة طالبان المؤقتة ربما كفرصتها الوحيدة في الخروج من محنة القبول والاعتراف وإقامة العلاقات عبر إشراك بقية شرائح المجتمع الأفغاني وقواه السياسية في إدارة شؤون البلاد.
أهمية الإنجاز الثلاثي الجديد تكمن في تسهيل عودة أفغانستان إلى المنبر الإقليمي والدولي بطريقة شرعية واعتراف سياسي بها بعيداً عن الأسلوب الذي فتحت أميركا الطريق أمامه في الصيف المنصرم. وكذلك بين أهدافه مساعدة الأفغانيين على الخروج من أزماتهم الإنسانية والمعيشية والاقتصادية واسترداد أفغانستان لعافيتها واستشفاف مستقبلها السياسي في وسط آسيا الدائرة الجغرافية القادرة على لعب الدور المؤثر فيها بعد عقود من المعاناة ودفع ثمن الاحتراب الداخلي والخارجي فوق أراضيها.
أبدت أنقرة أكثر من مرة استعدادها للمشاركة في مسؤولية تشغيل مطار كابول وتأمينه وكادت المفاوضات أن تصل إلى نتيجة مرضية ربما كانت ستوفر على أفغانستان وشعبها ما حدث من ماس في مطار كابول في أعقاب الانسحاب الأميركي، إلا أن تصلب طالبان في ضرورة مغادرة القوات التركية التي هي جزء من القوات الأجنبية العاملة في حلف الأطلسي عرقل كل هذه الجهود وجمدها. اعترضت طالبان على بقاء القوات التركية في كابول لكنها لم تعترض على أهمية الدور التركي في المساعدة على حل مشكلات أفغانستان. ها هو المتحدث باسم حركة طالبان سهيل شاهين يشيد أكثر من مرة بالدور التركي والقطري والجهود المبذولة من قبلهما لمساعدة الشعب الأفغاني على الخروج من محنته. وقال إنهما شريكان رئيسيان في خطط إعادة إعمار أفغانستان بعد الحرب في مجالات الرعاية الصحية والتعليم وإعادة إعمار البنى التحتية التي تعرَّضت للدمار.
صحيح أن تركيا وقطر ستحققان إنجازات استراتيجية عند إتمام خطوة من هذا النوع لناحية تموضعهما الإقليمي الجديد الذي قد يمنحهما أكثر من فرصة. لكن ما ينبغي التوقف عنده مطولا هو بروز قناعة جديدة أكثر واقعية وعملية في صفوف قيادات طالبان التي تبحث عن صيغة توافقية تحقق تقدما في إنهاء القطيعة والعزلة الدولية التي تعاني منها، وهو عرض تركي قطري لا يمكن تجاهله.
هناك علاقات تركية قطرية واسعة مع كل القوى السياسية والدينية في أفغانستان حيث وقفت على مسافة واحدة من الجميع بهدف تسهيل وتسريع الحل. فلماذا تفوت كابول وأنقرة والدوحة مثل هذه الفرصة؟ وجود تركيا وقطر اليوم في إطار هذه الصيغة الجديدة قابل للتحول إلى فرصة حوار سياسي إقليمي بين الدول الفاعلة والمؤثرة في الملف الأفغاني يفتح الطريق أمام طاولة محادثات تجمع أميركا وروسيا والصين ودول الجوار الأفغاني برعاية أممية تسهم في دفع المرحلة الانتقالية وتسريعها باتجاه تفاهمات جديدة بعدما وصلت الكثير من المحاولات إلى طريق مسدود.
التحرك التركي القطري قد يكون هدفه اليوم تأمين عمل المطارات الأفغانية وتسهيل ارتباطها وانفتاحها على الخارج، وتأمين عودة الكثير من البعثات الدبلوماسية والاجتماعية والإنسانية إلى أفغانستان بعدما غادرتها في الصيف المنصرم. لكنه عندما يتحول إلى مبادرة سياسية أوسع في المرحلة المقبلة فهو الخيار المحلي والإقليمي والدولي الأفضل اليوم في ظل عدم قدرة أي دولة على تقديم البديل. أنقرة والدوحة ليستا البديل بل الفرصة السانحة لأفغانستان والمجتمع الدولي للمساهمة في إيجاد صيغة توافقية إقليمية ودولية لتجاوز أزمات هذا الملف.
التحرك التركي القطري في التعامل مع الملف الأفغاني قديم وهو كان يتقدم على أكثر من جبهة بطابع إنساني خدماتي اجتماعي وسياسي في الوقت نفسه. خصوصية الفرص التي حصلت عليها أنقرة والدوحة في التعامل مع الموضوع الأفغاني سببها السياسة المتوازنة المنفتحة على جميع شرائح المجتمع هناك وضرورة إنهاء الصراع بالحل السياسي والحوار بعيدا عن التصعيد والمواجهة العسكرية. ومن خلال المبادرة التركية القطرية اليوم ستكون كابول قد دخلت مرحلة جديدة بعد سيطرة حركة طالبان على البلاد وهي فرصة لإحلال السلام الدائم إذا ما جيرتها الحركة لصالح الشعب الأفغاني بأكمله وحولتها إلى مرحلة انتقالية سياسية وانتخابية تفتح الطريق أمام قبول المجتمع الدولي بأفغانستان الجديدة خصوصا إذا ما تم استخلاص الدروس من أخطاء الماضي إلى جانب الوفاء بتعهدات إنهاء آية علاقة بين طالبان وتنظيمي داعش والقاعدة.
يقول وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، إن بلاده تدرس خيار ضخ مزيد من السيولة المالية في الاقتصاد الأفغاني، وتجنب سيناريو كارثي في البلاد، متعهداً بأنه سيحرص على وصول الأموال مباشرة إلى أيدي الأفغان، وليس إلى طالبان. ويتحدث وزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني للعديد من دول المنطقة عن مخاوف مشروعة بشأن أي توتر قد يحدث في أفغانستان. لكن المساعدات الإنسانية المقدمة للشعب الأفغاني يجب ألا تكون مرتبطة بمدى تحقيق تقدم سياسي في علاقات المجتمع الدولي مع حركة طالبان وأن العقوبات الاقتصادية وقطع المساعدات الإنسانية يوفران أرضية خصبة لنشاط المجموعات الإرهابية التي قد تتخذ من أفغانستان منطلقا لها.
قد توجز لنا تناقضات المواقف هنا في الرؤية والتقدير الدافع القطري والتركي لتفعيل وضرورة إنجاح مبادرتهما بالتنسيق مع حركة طالبان اليوم. الهدف التركي القطري هو تشجيع المجتمع الدولي واللاعبين المؤثرين في الملف على مراجعة سياسة العقوبات المفروضة على أفغانستان والتي تسببت حتى الآن بحالة إنسانية اجتماعية صعبة تضاف إلى قرارات الحصار المفروضة على البلاد منذ عقدين.
تحول الانفتاح والتقارب التركي القطري في السنوات الخمس الأخيرة إلى تنسيق استراتيجي بطابع إقليمي يتناول العديد من الملفات الساخنة. البداية كانت في الملف السوري ربما لكنها سرعان ما انتقلت إلى أماكن وساحات أخرى. تطورات الأوضاع في أفغانستان كان لها نصيبها أيضا.
طالما أن تركيا وقطر قررتا التحرك بهذا الاتجاه في الملف الأفغاني فاحتمال أن يكونا قد حصلا على إجابات وضمانات حول تساؤلات ونقاط سياسية وأمنية كثيرة كبير جدا. هناك أولا الموقف الأفغاني الواضح والشفاف الذي لا بد من إعلانه حول الجهود التركية القطرية. وهناك ثانيا مسألة حسم حركة طالبان لخياراتها ومواقفها في التعامل مع الداخل والخارج. وهناك ثالثا ضرورات بروز الأجواء السياسية الجديدة في أفغانستان لفتح الطريق أمام المرحلة الانتقالية وتسريعها للتخفيف من معاناة الشعب الأفغاني وإنهاء حالة الحصار والقطيعة والعقوبات المفروضة عليه.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس