د. سمير صالحة - تلفزيون سوريا
دشنت واشنطن التحرك بهدف تسجيل اختراق استراتيجي في أوكرانيا الحديقة الخلفية لروسيا عبر دعم خطط الإطاحة بالرئيس فكتور يانوكوفيتش وإنهاء الوجود العسكري الروسي في قاعدة سيفاستوبول الاستراتيجية. ثم جاء الرد الروسي المباشر في القرم عام 2014 من خلال دعم تشكيل حكومة جديدة واستفتاء أحادي يعلن الانفصال عن أوكرانيا. وضعية اليوم هي مواجهات عسكرية قد تندلع في أية لحظة نتيجة التعبئة الروسية والأوكرانية في القرم وعجز المجتمع الدولي عن تحقيق أي إنجاز حقيقي في تقديم الحلول والتسويات السياسية والدبلوماسية.
دعا مجلس الأمن القومي التركي أطراف النزاع في أوكرانيا إلى عدم التصعيد في ملف الأزمة وتبني لغة العقل السليم والحوار لأن تأزم الأمور لن يكون في مصلحة الجانبين. لكن أنقرة لن تكتفي بذلك. هي تستعد لتحرك سياسي ودبلوماسي جديد بين كييف وموسكو في محاولة أخرى لإبعاد شبح الحرب عن شبه جزيرة القرم منطقة امتدادها العرقي والتاريخي. الحديث عن وساطة تركية جديدة بين موسكو وكييف توصيف غير دقيق، قد تكون تركيا اللاعب الإقليمي الأوفر حظا في الدخول على خط الأزمة في القرم بسبب علاقاتها مع الجانبين لكن ذلك لا يعني أنها تقف على مسافة واحدة من طرفي النزاع أو من تطورات المشهد هناك.
أعلنت أنقرة وموسكو أن الرئيس الروسي قبل دعوة نظيره التركي لزيارة تركيا وبحث ملف الأزمة الأوكرانية. الحوار التركي الروسي على مستوى القمة المرتقبة لن يكون هدفه فقط بحث سبل تبريد الأجواء على جبهات شرق أوكرانيا بل أيضا قطع الطريق على انفجار أو تفجير العلاقات التركية الروسية على أكثر من جبهة سياسية واستراتيجية وهو هدف العديد من العواصم الغربية التي حاولت فعل ذلك لكنها فشلت حتى الآن.
تعرض تركيا وساطتها بين روسيا وأوكرانيا وهي تعرف من البداية أنها مسألة صعبة. هي ليست خدمة مجانية بل لأن تركيا على قناعة كاملة أنها ستفقد الكثير عند اشتعال الجبهات، الخسائر والأضرار لن تتوقف عند تراجع العلاقات التجارية والسياسية التي ارتفع مستواها في الأعوام الأخيرة مع البلدين، بل ستصل إلى ملفات إقليمية عديدة تعنيهما بشكل مباشر في أكثر من مكان. مشكلة تركيا من البعيد هي في اختيار الطرف الذي ستقف إلى جانبه لحظة انطلاق العمليات العسكرية. هل ستصطف إلى جانب أميركا والأطلسي وتكون جزءا من قرارات وخطوات المنظومة الغربية أم هي ستحاول البقاء على الحياد وهذا ما قد يغضب الحلفاء والشركاء في الغرب لكنه قد يفرح روسيا؟
بمن ستثق أنقرة في أوكرانيا؟ بأميركا التي فشلت في سحب الورقة الأوكرانية من يد روسيا حتى الآن ورفضت تصويت الاستفتاء في القرم عام 2014 لكنها دعمت استفتاءات مماثلة في السودان وسراييفو وتستعد لفعل ذلك في سوريا؟ أم في روسيا التي تصر على اعتبار ما يجري في القرم مسألة داخلية لا تعني الخارج بينما هي التي قادت الاستفتاء على الانفصال في القرم، وتواصل التعبئة وإرسال الحشود استعدادا لمعركة اختراق أوكرانيا
تشير تقديرات أجهزة الاستخبارات الأميركية إلى أن تحريك القوات الروسية على جبهات شرق أوكرانيا سيبدأ في منتصف شهر شباط المقبل. العواصم الغربية تقول إن الثمن سيكون باهظا على روسيا التي ستتعرض لعقوبات اقتصادية كبيرة. التجربة هي أكبر برهان، كيف تعامل الغرب مع روسيا في جورجيا والقرم وسوريا وكازاخستان؟ تتطلع واشنطن وباريس إلى تدخل تركي لمواجهة روسيا في القرم ولحماية مصالح الغرب في البلقان والبحر الأسود، لكنهما لم يفعلا ذلك لحماية مصالح تركيا في ليبيا وسوريا وشرق المتوسط وعلى الحدود التركية اليونانية وسيكتفيان بخطوات العقوبات الاقتصادية فمن سيدفع الثمن الباهظ هنا؟
تركيا هي أول وأكبر المتضررين من مواجهة عسكرية روسية أوكرانية: 30 في المئة من سياحها هم من البلدين. 30 مليار دولار من مشاريع الاستثمار والعقود الموقعة في العام المنصرم مع الدولتين ستسير في المجهول. 40 في المئة من الواردات التركية تأتي من البلدين وفي مقدمتها القمح والغاز الروسي. هذا إلى جانب تذكير العواصم الغربية أن عقوبات اقتصادية مالية على روسيا ستكون أنقرة أول من يدفع ثمنها بسبب علاقاتها التجارية ومشاريع الطاقة وحاجتها إلى الغاز الروسي.
أكد السفير الأميركي الجديد في أنقرة، جيف فليك بعد تقديم أوراق اعتماده للرئيس أردوغان قبل أيام أن تركيا شريك أساسي لحلف شمال الأطلسي لا يمكن الاستغناء عنه في منطقة تشهد دائما تغيرات. ينبغي هنا عدم الرهان كثيرا على ما يقول فليك بل على ما تريده وتفعله بلاده. السفير فليك نسي كيف عاملت بلاده أنقرة في ملف المقاتلة إف 35 وقرار أحداث عام 1915 في شرق الأناضول لكنه تذكر أن تركيا هي دولة أطلسية أساسية بالنسبة للحلف لحظة الحاجة إليها.
تريد روسيا من خلال الإمساك بورقة القرم حماية نفوذها في البحر الأسود وأوروبا الشرقية. وتريد أميركا اختراق هذه المناطق عبر حلفاء جدد في البلقان وآسيا لموازنة النفوذ الروسي هناك، الهدف في العلن هو تفجير الوضع في أوكرانيا لكن الهدف الحقيقي هو إشعال الجبهات في البحر الأسود. خط الدفاع هو أوكرانيا لكن ساحة العمليات الحقيقية هي حوض البحر الأسود والجبهات التركية الروسية. الحرب لا بد أن تكون تركية روسية لإضعاف الطرفين في الإقليم والرابح سيكون واشنطن وباريس في سياسة انتقامية من أنقرة وموسكو .وهنا تكمن أسباب التحرك التركي الواسع والسريع باتجاه تجنيب المنطقة هذه الحرب. تركيا سترمي الكرة في ملعب الغرب أولا إذا ما كان جادا في مواجهة موسكو وبعدها تقرر ما الذي ستفعله. امتحان تركي روسي جديد ينتظر الطرفين هو الثالث من نوعه خلال عامين فقط. اشتعال جبهة القرم يعني توتراً آخرَ بينهما بعدما نجحا في الالتفاف على أزمة جنوب القوقاز وكازاخستان قال الرئيس التركي: إنه سيكون من الحماقة أن تخوض روسيا صراعاً عسكرياً في أوكرانيا، وفي تلك الحالة ستقوم تركيا بما يلزم باعتبارها أحد شركاء حلف الأطلسي. لكن تركيا لن تفعل ذلك دون حسابات خط الرجعة مع موسكو ولن تفرط بكل ما شيدته معها من علاقات وتفاهمات في العقد الأخير. لم تدع فرنسا القيادات التركية للمشاركة في اجتماعات باريس الرباعية التي حضرها الألمان والروس والأوكرانيون قبل أيام. احتمال أن برلين أيضا التي تستعد لاستقبال الجولة الثانية من المحادثات في إطار صيغة النورماندي لن تفعل ذلك. الاختراق الأهم الذي يعول عليه أردوغان هو جمع قمة ثلاثية تركية روسية أوكرانية تكرس الدور والموقع التركي الأساسي في الملف وتزيح كل" الجهود" الغربية التي تبذل منذ سنوات على خط الأزمة. فهل تمنح موسكو وكييف أنقرة مثل هذه الفرصة؟
سيبحث أردوغان وبوتين في قمتهما المرتقبة حتما ملف شرق أوكرانيا وسبل التهدئة فيه. لكنهما سيبحثان أكثر في مسائل قطع الطريق على تفجير أميركي فرنسي للجبهات في البحر الأسود وجنوب القوقاز والبلقان وإلحاق الضرر بالتنسيق التجاري والسياسي بين تركيا وروسيا.
كيف سيكون شكل العقوبات الغربية على روسيا إذا ما قررت التدخل العسكري المباشر في أوكرانيا؟ وأين سيبدأ الرد الروسي على التصعيد الغربي؟ من الجار التركي ربما كون أنقرة اللاعب الإقليمي الأول القادر على التأثير في الملف لأسباب تاريخية وعرقية وسياسية ولأنها قد تكون في قلب المواجهة وصدر المشهد السياسي والعسكري
نجاح أنقرة في الجلوس أمام طاولة تفاوض روسية أوكرانية يعني تسليم الكثير من اللاعبين الإقليميين والدوليين بموقعها ودورها الجديد في القوقاز وآسيا الوسطى والبلقان وتموضعها الاستراتيجي بين الشركاء والحلفاء تحت سقف الأطلسي وإلزام واشنطن بمراجعة مواقفها وسياساتها التصعيدية، واستعداد روسيا للتنسيق معها في مشروع العالم التركي الذي وضعت أسسه قبل أشهر في قمة إسطنبول. هذا إلى جانب منحها فرصة أكبر في تحسين علاقاتها التجارية والعسكرية وتبادل الخبرات العسكرية والتصنيع الحربي مع كييف. لكن نتائج اللقاءات مهمة أيضا، فأنقرة هي التي سيكون عليها مراجعة مواقفها وتحديد خياراتها إذا ما وصل الحوار إلى طريق مسدود وتراجعت فرص رفع مستوى التنسيق والتفاهمات التركية الروسية.
الأزمة الأوكرانية كما يبدو ليست سحابة صيف ستعبر، كل المعطيات والمؤشرات تذكر بأجواء أزمة إقليمية دولية شهدها العالم في ملفات مشابهة كان آخرها أزمة الصواريخ الكوبية في مطلع الستينيات. أكثر من طرف سيحاول توريط الطرف الآخر والبقاء بعيدا عن الجبهات فلماذا تتطوع تركيا للبحث عن الخاتم المفقود وحدها في مياه المحيط وتكون رأس حربة في مشروع لا تعرف الكثير عن تفاصيله ويطالبها بالتنفيذ وتحمل الأعباء وحدها؟ أنقرة تعرف بالمقابل أن أضرار احتراب الفيلة لم تقتصر يوما على العشب وحده.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس