ترك برس
صدرت مؤخراً النسخة العربية لكتاب "بربري، عصري، متحضر" وعنوانه الفرعي "ملاحظات حول الحضارة"، لمؤلفه إبراهيم قالن، المؤرخ التركي والناطق باسم رئاسة الجمهورية في بلاده.
الكتاب الصادرة ترجمته حديثا عن الدار العربية للعلوم ناشرون، يشكل مقاربة معرفية حول مفهوم الحضارة عبر العصور. حيث تمكن المؤلف بمنهجية تحليلية تفكيكية فاعلة، من إبراز الهوة المعرفية بين عالمين يتباعدان، عالم الحضارة المهيمنة وعالم الحضارات الأخرى التي تبحث عن حضارة بديلة للأولى، فتستهلك الموضوع، لكن دون الإقدام على إبداعه أو صنعه، بحسب تقرير لـ "الجزيرة نت."
كما يتطرق الكاتب إلى تاريخ حضارات الصين والهند والأزتيك والحضارات الأوروبية، في سياق ملاحظات مفهومية وتجارب تاريخية.
ظهور الحضارات.. تجارب تاريخية
ويعتبر المؤلف أن الدراسات الكوزمولوجية الحديثة تقدر عمر الكون بأنه 13.8 مليار عام، كما أن الاكتشافات المتعلقة بالزراعة وإنشاء المدن والفن تعود إلى فترة بين 9 آلاف إلى 4 آلاف عام قبل الميلاد في منطقة تركستان، ويتابع "لم تظهر حضارات السومريين والأكاديين والمصريين والبابليين والآشوريين والحضارات القديمة الأخرى إلا بعد آلاف السنين من هذه التشكلات الحضارية الأولى في منطقة ما بين النهرين-آسيا..".
طريق الحرير وبدايات العولمة
ويعتقد المؤلف أن التحول الكبير بدأ مع الزراعة، ثم ظهرت الدول والإمبراطوريات الكبيرة على مسرح التاريخ، حيث حقق البدو الرحل الآسيويون في الألف الثالثة قبل الميلاد، والعرب بعدهم ببضع مئات من السنين، ثورة في تاريخ التنقل للإنسانية من خلال تدجين الخيل، كما أن حمورابي (ت: 1750 ق.م) ملك بابل أعلن شريعته في بلاد ما بين النهرين، وهي أول منظومة قواعد قانونية مسجلة قبل 4 آلاف عام تقريبا. وبحسب المؤرخ خلدون جميل "لم يكن حمورابي أول من سنّ القوانين، فالعلماء يعرفون أن الملك السومري أور نمو (ت 2030 ق.م) قد سبقه إلى ذلك بثلاثة قرون".
ويستعرض المؤرخ قالن مؤشرات واضحة على أن شبكة طريق الحرير التي امتدت من سهوب الصين إلى سيبيريا وخراسان وإيران وشبه الجزيرة العربية والأناضول والبحر المتوسط وما وراءها، شكلت النواة الأولى للتبادل بين القارات. كما سافر الرحالة والتجار والدبلوماسيون، وانتقلت البضائع والتقنيات والحكايا والأفكار عبر طريق الحرير. واعتبر المؤلف طريق الحرير نموذجا أوليا سارت عبره حركات العولمة.
ويرد في الكتاب عدد من الأمثلة الجديرة بالملاحظة لهذا الحراك العالمي القديم، منها: تمدد البوذية -التي ظهرت في الهند- إلى الصين والشرق الأقصى، وظهور المسيحية في فلسطين وتحولها إلى "دين غربي"، وعلى غرار ذلك خروج الإسلام من شبه الجزيرة العربية وانتشاره سريعا في أوراسيا وأفريقيا، من بغداد إلى قرطبة ومن سمرقند إلى الإسكندرية ومن أصفهان إلى تمبوكتو. ويؤكد الكاتب أن ذلك يعدّ مثالا يتمتع بأهمية خاصة على صعيد توضيح أبعاد عملية التحول العرقي والثقافي على أساس ديني.
ويبين المؤرخ إبراهيم قالن نظر اليونانيون القدماء إلى هذا الشرق والإمبراطورية الفارسية بمشاعر يمتزج فيها الخوف بالإعجاب، إلى درجة أن أحد ملوك مقدونيا الإغريقية الإسكندر الأكبر (356-323 ق.م) توجه نحو الشرق دون تردد، من أجل جعل دولته إمبراطورية عالمية.
ويستعرض الكتاب آراء متعددة لمؤرخين وفلاسفة، من أمثال شبنغلر وإدموند هوسرل وتوينبي ومارتن هايدجر، متشائمين من مستقبل الحضارة الغربية، ويورد المؤلف أن الشاعر والفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه (1844-1900) قال "هناك عنصر انحطاط في كل شيء يميز الإنسان الحديث".
البربرية والحداثة.. الأمثلة الحزينة
يقول المؤلف من الأمثلة المأساوية والمخزية على العنصرية والإهانة الثقافية "حدائق الحيوان البشرية" التي انتشرت في أوروبا وأميركا، منذ أواخر القرن الـ19 حتى أواسط القرن الـ20، حيث أحضر أناس من أفريقيا والفلبين والقطبين ومناطق أخرى، وكانوا يعرضون في معارض كبيرة مثل أي منتجات استهلاكية، وتلقوا معاملة "نصف إنسان، نصف حيوان".
ويضيف الكاتب "كانوا يوضعون في خدمة محبي الفرجة الغربيين العصريين، وكانوا يشبعون مشاعر التفوق لدى الرجل الأبيض العصري، وفي الوقت ذاته كانوا يوفرون الذريعة والمشروعية بشأن هذه الشعوب التي أصبحت مستعمرة أوروبية".
ويشير المؤرخ قالن إلى أن الزوار الذين يشاهدون الحيوانات الوحشية والداجنة وراء الأقفاص في حديقة الحيوانات، يشعرون بنفس الأحاسيس عند مشاهدتهم الهمجيين في حدائق الحيوان البشرية، فعندما يقدمون الطعام والشراب لأولئك الناس من فوق حاجز، وهم في حالة قلق كأنهم يمدون أيديهم بالطعام إلى كلب أو قرد، كان ذلك يثير في نفوس الغربيين مشاعر مميزة من الرضى والأريحية، بحسب الكتاب.
ويذكر قالن في كتابه أن البشر كانوا يعرضون كعناصر معرض إثنولوجي في هذه الحدائق التي كانت منتشرة على نطاق واسع في العواصم الأوروبية، ويضيف: احتفلت الثورة الفرنسية التي انطلقت تحت شعار "الحرية، المساواة، الأخوة" بذكراها المئوية، حيث أقيم معرض باريس العالمي عام 1889، وكان فيه "قرية الزنوج" التي عرض فيها أكثر من 400 أفريقي. كما كان يعرض أشخاص من السنغال والنوبة وجمهورية داهومي (بنين) ومصر وسكان الأميركيتين الأصليين وكوريا وأناس ينتمون لأمم أخرى في "بيئاتهم الطبيعية"، على أنهم "شعوب مجلوبة"، في معارض بهامبورغ ولندن وبروكسل وشيكاغو وجنيف وبرشلونة.
وفي دراسة نشرها عام 1961 تحت عنوان "الحضارة العالمية والثقافات الوطنية"، يلفت الفيلسوف وعالم اللسانيات الفرنسي بول ريكور (1913-2005) إلى هذا الخطر، بقوله إن "حضارة مبتذلة" أصبحت معيارا، وهي آخذة في وضع العالم بأسره تحت سيطرتها. ويرى ريكور أن هذه "الحضارة المبتذلة" المتصفة بالبلاستيكية/ المصطنعة، والتي أنتجتها الحداثة ووسعت انتشارها، تقضي على الثقافات المختلفة، وهذا واحد من أشد الأخطار في مواجهة الإنسانية.
جدير بالذكر أن إبراهيم قالن (1971)، تخرّج من قسم التاريخ في جامعة إسطنبول (1992)، وأنهى دراساته العليا في الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا، ونال درجة الدكتوراه في مجال العلوم البشرية والفلسفة المقارنة من جامعة جورج واشنطن (2002)، كما ألقى محاضرات في الفكر الإسلامي في جامعة جورج تاون وجامعة بيلكنت، وقد صدر له كتاب "مقدمة إلى تاريخنا والآخر.. وما وراء العلاقات بين الإسلام والغرب"، وتم تعيينه بدرجة سفير مساعدا للأمين العام لرئاسة الجمهورية ومتحدثا باسم الرئاسة التركية، اعتبارا من عام 2014.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!