الذكرى السنوية الخامسة والخمسون لأول انقلاب عسكري على الدّيمقراطية في تركيا
خاص ترك برس
بدأ عدد من الضّباط الشّباب داخل الجيش التركي في عام 1954 ومن منطلق أيديولوجي، بالتّخطيط للإطاحة بالحزب الدّيمقراطي الذي كان يترأسه رئيس الوزراء الرّاحل "عدنان مندريس"، وذلك لعدة أسبابٍ منها، عدم تقبّل هؤلاء الضّباط قرار رفع الحظر عن إقامة الأذان باللغة العربية، ظنّاً منهم على أنّ إقامة الآذان باللغة العربية منافية لمبادئ الجمهورية. فقد تشكّلت إثر ذلك عدد من التيارات داخل القوات المسلحة لخدمة هذا الهدف وكانت هذه التيارات منفصلة عن بعضها البعض، حتّى أنّ الاتصال كان معدوماً بينهم.
انقلاب 27 أيار/ مايو عام 1960
ظلّ الحزب الدّيمقراطي مسيطراً على الحكم من عام 1950 حتّى عام 1960، وذلك عبر نجاحه في الانتخابات التّشريعية الثلاثة التي جرت في تلك الحقبة الزّمنية. ففي هذه الفترة العصيبة وعلى الرّغم من الانتقادات الشّديدة التي تعرّضت لها حكومة عدنان مندريس من قِبل الأحزاب المعارضة وتدخّل القوات المسلحة في إدارة شؤون البلاد ومحاولتها توجيه أعضاء الحكومة الشّرعية، ظلّت هذه الحكومة قائمة لمدّة عشر سنوات، إلّا أنّها انتهت بانقلاب عسكري في 27 أيار/ مايو من عام 1960. حيث سيطر ضباط الجيش التركي على السلطة المدنية في البلاد.
قائد الانقلاب الجنرال جمال غورسيل (يمين) ورئيس حزب الشعب الجمهوري عصمت إنونو
تفاصيل مذهلة في أول انقلاب على الدّيمقراطية
أزمة الآذان
كان هناك عدد من الأسباب الخفية وراء العداء لحكومة عدنان مندريس أنذاك، لم يتقبّل الضّباط قرار رفع الحظر عن إقامة الأذان باللغة العربية، ظنّاً منهم على أنّ إقامة الآذان باللغة العربية منافية لمبادئ الجمهورية، بالإضافة إلى أنّهم علموا بأنّ حزب الشّعب الجمهوري الذي كان يترأسه "عصمت إينونو" آنذاك لن يستطيع اعتلاء السلطة في البلاد عن طريق الانتخابات الحرّة والنّزيهة.
وتشكّلت إثر ذلك عدد من التيارات داخل القوات المسلحة لخدمة هذا الهدف وكانت هذه اللجان منفصلة عن بعضها البعض، حتّى أنّ الاتصال كان معدوماً بينها. وعقب تنفيذ الانقلاب العسكري ضدّ حكومة مندريس، قام هؤلاء الضّباط الشباب الذين كانوا ينتمون إلى تيار الوحدة الوطنية غير الشرعي، بتوحيد كل التيارات المنفصلة التي كان يعمل كلّ منها على حده تحت اسم الاتحاديّين. وبعد أنّ قامت هذه التيارات بالاتفاق فيما بينها، بدأت موجة انتشار الاستقطاب في البلاد وأصبحت هذه الكتلة الحاكمة تستغلّ كل فرصة من أجل الزّج بالبلاد في الفوضى وتحرّض الجماعات ضدّ بعضها البعض.
الأيدي الخفية وراء أحداث 6 – 7 أيلول/ سبتمبر عام 1955
صدر حكم الإعدام على رئيس الوزراء عدنان مندريس ووزير المالية رشدي زورلو ووزير الخارجية حسن بولاط قان، في جزيرة ياسّادا من قِبل محكمةٍ عسكرية، وذلك في عام 1961. إلّا أنّ عهد مندريس الذي امتدّ من عام 1950 إلى عام 1960، شهد ما يُعرف بأحداث 6 – 7 أيلول عام 1955، حيث قامت جماعات مجهولة بالاعتداء على أماكن عبادة الطّوائف غير الإسلامية، وذلك بداعي قيام عدد من اليونانيّين بالاعتداء على منزل مؤسّس الجمهورية "مصطفى كمال أتاتورك" في منطقة سالونيك باليونان. وقد تبيّين لاحقاً أنّ من قام بالاعتداء على منزل أتاتورك وحرقه، شخص تركي اسمه "أوكتاي أينغين" وكانت هذه الحادثة مخطّط لها من قبل.
تسلسل الأحداث صبيحة الانقلاب العسكري في 27 أيار/ مايو 1960
إحالة قائد القوات البرية "جمال غورسيل" إلى الإجازة الإجبارية لمدّة شهرين
قام أهالي مدينة إسطنبول بتنظيم مظاهرتين ضدّ تصرّفات الجيش، وذلك على الرّغم من إعلان حالة عدم التّجوّل في الشوارع التي صدرت في الأول من أيار/ مايو آنذاك. فقام رئيس الوزراء عدنان مندريس عقب ذلك بالإدلاء بتصريح عبر الإذاعة، قال فيه: "إنّ بلادنا لم تتعرّض للاحتلال، وليست هناك دوافع تستوجب مثل هذا الاحتلال للبلد".
وقامت السلطات أنذاك بإحالة قائد القوات البرية جمال غورسيل الذي طالب باستقالة رئيس الجمهورية "جلال بايار" في محاولة لتهدئة الوضع المشحون حينها، وأعلنت السلطات حينها أيضاً بأنّ غورسيل سيحال إلى التّقاعد بعد انتهاء مدّة إجازته.
تحريض طلاب الجامعات
في الخامس من أيار/ مايو من ذلك العام، قام عدد من طلاب الجامعات في العاصمة أنقرة بتنظيم مظاهرة ضخمة في ميدان "كيزيل أي" الشهير الذي يتوسط المدينة. وعندما أراد رئيس الوزراء مندريس أن يخاطب الطّلاب، تمّ إبعاده عن الموقع.
عصمت إينونو يجهّز الأرضية الملائمة للانقلاب
في اليوم التالي للمظاهرات الطلابية التي حدثت في العاصمة أنقرة، قام عصمت إينونو بعقد مؤتمر صحفي مع الصّحفيّين التابعين للدّول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي (الناتو). حيث شدّد خلال المؤتمر على ضرورة تغيير الحكومة عن طريق إجراء انتخابات حرّة ونزيهة.
وخلال هذه الفترة كان رئيس الوزراء عدنان مندريس يتابع جولاته في المحافظات التركية ويلتقي بالشّعب، حيث عقد لقاءًا جماهيريًا في مدينة إزمير بتاريخ 15 أيار/ مايو ثمّ انتقل إلى مدينة مانيسا بتاريخ 17 أيار.
تحريض طلاب الكلية الحربية
في الحادي والعشرين من نفس الشّهر قامت جهات مجهولة بتحريض طلاب الكلية الحربية من أجل تنظيم مظاهرة في شوارع العاصمة أنقرة. وقد خرج على إثر ذلك الطلاب بمظاهرة صامتة، ما دفع رئيس الوزراء مندريس إلى إلغاء زيارته الرّسمية المقرّرة إلى العاصمة اليونانية "أثينا".
في الثاني والعشرين من أيار أعلنت قيادت إدارة الأزمات وضع يدها على كافّة وسائل الاتصالات في الدّولة ومنع كافّة وسائل الإعلام من النشر إلّا بعد الاطلاع على محتوى المنشورات. كما منعت المواطنين من التّجوّل والخروج إلى الشوارع ما بين الساعة الثامنة مساء حتّى الساعة الخامسة فجراً.
في الرّابع والعشرين من ذلك الشّهر أعلن حزب الشّعب الجمهوري تضامنه مع القوات المسلحة وتأييده للقرارات المتخذة من قِبل قيادات الجيش. وفي نفس اليوم ترك أعضاء الأحزاب المعارضة قاعة البرلمان وتمّ منع كافّة الأعضاء من إلقاء خطاباتهم فيها.
ولنقل الصورة الصحيحة لما يدور وراء الكواليس، كان مندريس يتجوّل بين المحافظات التركية ويلقي الخطابات التوضيحية للمواطنين. ففي الخامس والعشرين من أيار قام مندريس بإلقاء خطاب في مدينة أسكي شهير أعلن فيه أنّه سيعمل على إنهاء أعمال لجنة التّحقيقات خلال فترة قصيرة. لا سيما أنّ المدّة المحدّدة للجنة كانت عبارة عن ثلاثة أشهر.
وكان البرلمان التركي قد شكّل لجنة التحقيقات في شهر نيسان/ أبريل من عام 1960، غير أنّ عصمت إينونو رفض وبشدة تشكيل مثل هذه اللجنة آنذاك.
اعتقلت سلطات الانقلاب كذلك رئيس الجمهورية جلال بايار، ولم تحكم عليه بالإعدام لكبر سنّه
اعتقال رئيس هيئة الأركان رشدي أردلهون
كان أعضاء لجنة التحقيقات التي تشكّلت في البرلمان، يتمتّعون بنفس الصلاحيات التي كان يتمتّع بها القضاة في محاكم الصلح. وكانوا مخوّلين أيضاً بمنع كافة أنواع النّشر، وذلك حفاظاً على سرية التحقيقات. وأعضاء اللجنة هذه، هم نفسهم الذين تمّ اصطحابهم إلى الكلية الحربية برفقة الوزراء، حيث تمّ هناك أيضاً اعتقال رئيس هيئة الأركان رشدي أردلهون.
في صبيحة 27 أيار/ مايو من عام 1960، تمّ اعتقال رئيس الوزراء عدنان مندريس عندما كان في طريقه إلى محافظة "كوتاهيا" حيث جيء به إلى العاصمة أنقرة.
القوات المسلحة تفرض سيطرتها على إدارة البلاد
في صبيحة السابع والعشرين من أيار وفي تمام الساعة الرّابعة وستّة وثلاثين دقيقة فجراً تم الإعلان عبر الإذاعة عن قيام القوات المسلحة التركية بوضع يدها على إدارة البلاد. وبعد فترةٍ قصيرة من الغموض الذي خيّم على الأجواء السياسية والعسكرية في البلاد، تضح أنّ الانقلابيين قاموا بالسيطرة على مراكز الإدارة في العاصمة أنقرة ومدينة إسطنبول.
وعقب الإعلان الإذاعي، قامت القوات المسلحة بإعتقال رئيس الوزراء عدنان مندريس الذي كان في طريقه إلى محافظة كوتاهيا، كما اعتقلوا رئيس الجمهورية "جلال بايار" في العاصمة أنقرة.
وقام قائد العملية الانقلابية آنذاك الجنرال "جمال غورسيل" في تمام الساعة الرّابعة بالإدلاء بتصريحات عبر الإذاعة، أعلن فيها عن أسماء أعضاء تيار الوفاق الوطني الذين حلّوا مكان أعضاء البرلمان، وذلك من أجل سنّ القوانين والتّشريعات ريثما يتمّ إعداد دستور جديد للبلاد. وطالب في التصريح أيضاً بضرورة الإسراع في اعداد الدّستور الجديد.
انتحار وزير الدّاخلية
في اليوم التالي من الانقلاب العسكري على حكومة عدنان مندريس، تمّ تشكيل حكومة جديدة أطلق عليها اسم حكومة الوفاق الوطني، وقام وزير الدّاخلية "ناميك غيديك" في اليوم الذي أعقب إعلان الحكومة الجديدة بالانتحار.
محاكمات جزيرة ياسّادا
بدأت المحاكم العسكرية التي تمّ تشكيلها في جزيرة ياسّادا من قِبل الانقلابيّين في شهر تشرين الأول/ أكتوبر من نفس العام، بمقاضاة قيادات وأعضاء الحزب الدّيمقراطي الذي كان يترأسه عدنان مندريس. ففي الرّابع عشر من الشهر نفسه، عقدت الجلسة الأولى من المحاكمة، حيث قام رئيس الوزراء عدنان مندريس بإدلاء إفادته. وقام رئيس الجمهورية جلال بايار بإدلاء إفادته في نفس الجلسة ولكن بعد فترة الظّهيرة. حيث كشف خلالها الرّئيس بايار عن سبب بيعه لهدية كان الرّئيس الأفغاني قد قدّمه له بألف ليرة تركية. وبرّر بايار حينها سبب بيعه للهدية بأنّه أراد بناء سبيل لمياه الشّرب على جوانب الطّرقات.
وأصدرت المحكمة قراراً بحقّ بايار حينها بأنّه أخلّ بالدّستور حيث تمّ ربط قضيته بعد ذلك بجرائم الإخلال بالدّستور. ولم تكتفِ المحكمة بذلك، بل وجّهت لبايار تهم الفرار من أرض معركة الاستقلال والضّلوع في أحداث 6 – 7 أيلول/ سبتمبر من عام 1955. ولذلك تمّت محاكمته إلى جانب وزير الخارجية "فؤاد كوبريلي" ووالي مدينة إسطنبول "فخر الدّين كريم غوك أي".
ومع استمرار الجلسات الأولى السرية لمحاكمة أعضاء الحزب الدّيمقراطي، تمّ تصفية أعضاء لجنة الوفاق الوطنية وتمّ تشكيل حكومة جديدة، عُرفت بحكومة غورسيل الثانية.
قرار الإعدام
تمّ ضمّ قضية محاولة اغتيال رئيس حزب الشّعب الجمهوري "عصمت إينونو" خلال أحداث الشّغب التي جرت في منطقة طوب كابي، إلى جملة التّهم الموجّهة ضدّ أعضاء الحزب الدّيمقراطي. وبعد الانتهاء من جلسات المحاكمة، أصدرت المحكمة حكم الإعدام بحقّ رئيس الوزراء عدنان مندريس ورئيس الجمهورية جلال بايار، بالإضافة إلى ثلاثة عشر شخصاً من القيادات البارزة في الحزب. وخلال جلسة النّطق بالحكم توفي "لطفي كردار" الذي كانيشغل منصب وزير الصحة في حكومة مندريس، إثر إصابته بنوبة قلبية أودت بحياته في قاعة المحكمة.
وفي تاريخ 15 أيلول/ سبتمبر من عام 1961 انهت المحكمة العسكرية النّظر في التّهم الموجّهة إلى أعضاء الحزب الدّيمقراطي، حيث تمّت محاكمة أعضاء الحزب في 19 قضية مختلفة وتمّ ربط كافة هذه القضايا بقضية إخلال للدّستور. وخلال تلك الجلسة الأخيرة أعلنت المحكمة عن أحكام بحقّ 592 شخص، حيث حكمت المحكمة بالإعدام على 288 شخص، إلّا أنّ حكم الإعدام لم يتم تنفيذه إلّا بحقّ 15 شخص، وتمّ تغيير حكم الإعدام الصادر بحق 31 شخص إلى عقوبة السّجن المؤبّد، كما تمّ تحويل حكم البقية إلى عقوبات أخرى مختلفة.
وبعد صدور الأحكام حاول رئيس الوزراء عدنان مندريس الانتحار، لكنّه لم ينجح في ذلك. وفي صبيحة يوم 16 أيلول من عام 1961 تمّ إعدام الوزيرين فطين رشدي زورلو وحسن بولاط قان. وفي اليوم التالي تمّ تنفيذ حكم الإعدام بحق عدنان مندريس، وذلك في جزيرة إيمرالي.
وعقب تنفيذ أحكام الإعدام بحق هؤلاء، جرت في شهر تشرين الأول/ أكتوبر انتخابات في البلاد وتمّ تنصيب جمال غورسيل رئيساً للجمهورية عبر تدخّل سافر من القوات المسلحة على سير العملية الانتخابية. وفي شهر تشرين الثاني/ نوفمبر تمّ تشكيل لجنة بين حزب الشّعب الجمهوري وحزب العدالة.
وبذلك يعتبر الانقلاب العسكري الذي جرى في 27 أيار من العام 1960، أوّل انقلاب عسكري يطيح بحكومة شرعية في البلاد. وكان هذا الانقلاب بمثابة نهاية عهد عدنان مندريس الذي استمرّ لمدّة عشرة سنوات متتالية.
لقد ظلّت قرارات الإعدام هذه بحقّ أعضاء الحزب الدّيمقراطي، نقطة سوداء في تاريخ النظام الدّيمقراطي في تركيا. وعلى الرّغم من المحاولات المتكرّرة للرّئيس الأمريكي آنذاك "جون كينيدي" والملكة البريطانية لمنع تنفيذ حكم الإعدام، إلّا أنّ جهودهما باءت بالفشل وتمّ تنفيذ أحكام الإعدام.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!