ترك برس
يزداد احتدام الجدل في تركيا حول المرشح الذي ستحدده المعارضة لمنافسة الرئيس الحالي رجب طيب أردوغان في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وسط الحديث عن احتمال ترشح زعيم المعارضة، كمال كليتشدار أوغلو، وهو ما يراه البعض صائباً، فيما ينتقده آخرون من غير الحكومة لعدم وجود توافق حوله بين المعارضة ولافتقاره لانتصارات انتخابية منذ توليه منصبه قبل قرابة 10 أعوام.
وينظر في تركيا للانتخابات التشريعية والرئاسية المقبلة على أنها مصيرية واستثنائية، إذ تختلف عن سابقاتها من عدة زوايا. فهي تأتي بعد 21 عاماً من الحكم المتواصل لحزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان، و5 سنوات من تطبيق النظام الرئاسي الذي عمّق الاستقطاب في البلاد، وتكتسب رمزية عالية لتزامنها مع الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية.
كما أنها تأتي في ظل وضع اقتصادي صعب في البلاد، حيث اجتمعت المشاكل البنيوية والهيكلية في الاقتصاد التركي مع جائحة كورونا وبعض التطورات الدولية والإقليمية وفي مقدمتها الحرب الروسية على أوكرانيا، لتزيد من الضغوط على الليرة ومؤشرات الاقتصاد الأخرى. وهي ورقة ترفعها المعارضة في وجه التحالف الحاكم وأردوغان، إضافة لملف السوريين المقيمين على الأراضي التركية، بحسب تقرير على "الجزيرة نت" للباحث في الشأن التركي، سعيد الحاج.
وبعيداً عن النقاش القانوني والدستوري بمدى أحقية الرئيس التركي بالترشح مرة أخرى للرئاسة، إذ تعترض المعارضة على ذلك ويهدد بعض أطرافها بالتوجه للمحكمة الدستورية، إلا أن الانتخابات تأتي في ظل تراجع نسبي في شعبية أردوغان والعدالة والتنمية للأسباب السالفة الذكر وغيرها.
وأخيراً، ستجرى الانتخابات في ظل منظومة تحالفات قائمة سيكون لها تأثير مباشر على نتائجها. إذ من المرجح ألا تُحسم الانتخابات الرئاسية، الأهم بطبيعة الحال في ظل النظام الرئاسي، من الجولة الأولى وفق ما تظهره عموم استطلاعات الرأي المجراة في البلاد، وبالتالي سيكون على الأغلب ثمة حاجة لجولة إعادة تفرض من خلالها التحالفات نفسها عليها، بل ربما تفرض الإعادة نفسها على التحالفات وتعيد تشكيلها في آخر لحظة.
أهمية التحالفات في المنافسة الانتخابية المقبلة وتأثيرها عليها يمكن رصدهما من خلال العمل الدؤوب من التحالفَيْنِ القائمين، الجمهور والشعب، لكسب الأحزاب الصغيرة إلى صفهما ومحاولة خلخلة التحالف المقابل، إضافة لقانون الانتخاب الجديد الذي اقترحه التحالف الحاكم وأقره البرلمان حيث عدَّت المعارضة ذلك محاولة منه لمنعها من الفوز عبر إضعاف أثر التحالفات على النتائج.
حسابات دقيقة
تدرك المعارضة أن الرئيس التركي ما زال المرشح الأقوى والأبرز للانتخابات القادمة، متسلحاً بما يملك من خبرة سياسية وكاريزما وإنجازات وسجل حافل من الانتصارات في الانتخابات السابقة، إضافة لآلة حزبية ما زالت الأكثر فعالية بين الأحزاب السياسية في البلاد.
وبالتالي فإن المقارنة الفردية بين أردوغان وأي مرشح آخر ستميل على الأغلب لصالح الأول، لا سيما إن كان المرشح المقابل من شخصيات المعارضة المعروفة. ولذلك، تسعى الأخيرة لاختيار مرشح توافقي بمواصفات خاصة يستطيع من خلالها الحصول على دعم أحزاب المعارضة أولاً وأصوات القاعدة الانتخابية للعدالة والتنمية ثانياً.
في استطلاع رأي أجرته شركة متروبول مؤخراً، قال 33.3% من المشاركين إنهم سينتخبون أردوغان "بغض النظر عن اسم المرشح المنافس"، وقال 33.7% من المستطلعة آراؤهم إنهم سينتخبون المرشح المنافس له "بغض النظر عن اسمه"، بينما قال 28.1% منهم إنهم سيقررون بناء على من هو المرشح المنافس للرئيس الحالي، وهذه الأخيرة نسبة مرتفعة بطبيعة الحال تشير لأهمية اسم المرشح المنافس وخلفيته وتاريخه.
ولذلك، ولأسباب مفهومة، فقد اتجهت الترشيحات والتوقعات الأولية إلى شخصيات محافظة أو على الأقل تبدو عليها المحافظة أو لا تتناقض مع الشريحة المحافظة، وترددت أسماء مثل رئيسَيْ بلديتي إسطنبول وأنقرة أكرم إمام أوغلو ومنصور يافاش على التوالي، لا سيما أن الأول حظي لفترة طويلة بدعم وترويج الحزب الجيد (القومي) ثاني أكبر أحزاب المعارضة، بينما بدأ اسم الثاني يتردد أكثر مؤخراً.
بيد أن زعيم المعارضة ورئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كليتشدار أوغلو لمّح أكثر من مرة برغبته في أن يكون هو المرشح التوافقي لأحزاب المعارضة في مواجهة أردوغان. حيث قال أولاً إنه يتشرف إن اختارته المعارضة مرشحاً توافقياً، ثم أوضح أكثر بأنه يرغب في أن يترشح ولكن "القرار النهائي لرؤساء أحزاب المعارضة الستة".
ومن خلال هذا الترشح الضمني أو الإعلان المبدئي يكون الرجل قد أغلق الباب نظرياً أمام فكرة ترشيح إمام أوغلو أو يافاش، متعللاً بأن ذلك قد يُفقد المعارضة رئاسة البلديتين الأهم في البلاد لصالح العدالة والتنمية، ومتسلحاً بقانون الأحزاب الذي يعطيه الحق المطلق -كرئيس للحزب- في معظم القرارات وفي مقدمتها تحديد مرشحيه لمختلف أنواع الانتخابات.
حسابات زعيم المعارضة تقول إن فرص الأخيرة اليوم في أفضل حالاتها لمنافسة أردوغان، الذي تراجعت شعبيته وشعبية حزبه نسبياً خلال السنوات القليلة الأخيرة، وإنها فرصة له شخصياً ليخرج عن إطار "زعيم المعارضة الذي خسر كل الانتخابات" أمامه. صحيح أن الانتخابات البلدية الأخيرة في 2019 حملت أخباراً طيبة له ولحزبه، لكنها أولاً انتخابات محلية قليلة الأثر السياسي، وثانياً فقد تقدم العدالة والتنمية فيها باقي الأحزاب بفارق ملحوظ رغم أنه تراجع نسبياً وخسر بلديات ذات رمزية عالية مثل إسطنبول وأنقرة.
ولذلك، فقد أعلن كليتشدار أوغلو بشكل غير مباشر ترشحه رغم أنه ما زال لم يحصل على موافقة باقي أحزاب المعارضة التي ينسق معها، بل لن يكون من المبالغة القول إن بعضها يعارض ترشحه ويفضّل عليه آخرين، تتوفر فيهم شروط المنافسة أكثر منه من وجهة نظرها.
عدم اكتراث زعيم المعارضة بآراء الأحزاب الأخرى ومحاولة وضعه إياها أمام الأمر الواقع مبني على تقديره، وتقدير الكثيرين، بأن الانتخابات الرئاسية من الصعب أن تحسم في الجولة الأولى وستحتاج إلى جولة إعادة، وعليه سيكون هو المنافس لأردوغان فيها (من باب أن حزبه هو حزب المعارضة الأكبر). هذه المعادلة، أي جولة إعادة بين أردوغان وكليتشدار أوغلو ستضع كافة المعارضين شخصياتٍ وأحزاباً أمام اختبار انتخاب الرئيس الذي يعارضونه (الأول) أو أحد قيادات المعارضة (الثاني).
بهذا المنطق، قد يبدو أن حسابات الأخير صحيحة وأنه سيكون له فرصة حقيقية وكبيرة في المنافسة بل والفوز على أردوغان، بالنظر للقيمة الجمعية لأصوات أحزاب المعارضة. لكنه يغفل وربما يتجاهل عمداً عدة أمور في غاية الأهمية.
أولها أن أحزاب المعارضة وتحديداً الصغيرة والجديدة منها لم تحسم أمرها بشكل نهائي حول موقفها من التحالفات القائمة، وإن بدت حتى اللحظة إلى جانب تحالف الشعب المعارض. وثانيها أن هذه الأحزاب على وجه الخصوص قد تفضّل أن تقدم مرشحها الخاص للانتخابات الرئاسية لزيادة حضورها وفرصها في الانتخابات البرلمانية مما يمكن أن يشتت أصوات المعارضة.
وثالثها أن الانتخابات أبعد ما تكون عن العمليات الحسابية الدقيقة والمنضبطة. إذ بفرض تقديم المعارضة إياه مرشحاً توافقياً أمام أردوغان فذلك لا يضمن تصويت كوادرها وأنصارها له على حساب أردوغان. ذلك أن الناخب التركي في العادة يصوت بشكل منفصل ومتمايز في الرئاسيات عن الانتخابات التشريعية والبلدية. إذ يمكن أن يكون معارضاً للعدالة والتنمية وينتخب حزبه الخاص دون أن يمنعه ذلك من انتخاب أردوغان على حساب منافس آخر ليس مقتنعاً به، وقد أظهرت نتائج الاستطلاع سالف الذكر شيئاً من ذلك.
وأخيراً، ولعله الأهم، أن كليتشدار أوغلو ليس المرشح الأنسب لمنافسة أردوغان من وجهة نظر الكثيرين. ذلك أنه يفتقد للكاريزما من جهة، ولا يملك سجلا سياسيا حافلا بالانتصارات من جهة أخرى، فهو قد خسر جميع المنافسات الانتخابية بجميع أنواعها أمام أردوغان والعدالة والتنمية منذ توليه رئاسة حزبه.
وهو غير مُجمَعٍ عليه داخل حزبه، بل طالما واجه منافسة داخلية شرسة أدت لانشقاقات وتأسيس أحزاب عدة آخرها حزب البلد بقيادة القيادي السابق فيه محرم إينجة. الأخير، مثلاً، سيكون بدوره مرشحاً على الأغلب في الانتخابات المقبلة وسيخصم من رصيد كليتشدار أوغلو بدرجة أو بأخرى، مما قد يعني أن كليتشدار أوغلو قد لا يحل في المرتبة الثانية بعد أردوغان في الانتخابات المقبلة كما يحسب هو حالياً. كما أن جذور الرجل المناطقية والمذهبية سيكون لها أثر لدى شريحة لا بأس بها من الناخبين الذين سيصعب عليهم ترجيح كفته على أردوغان مهما كان اختلافهم مع الأخير.
وعليه، قد تكون حسابات كليتشدار أوغلو المبنية على تقدير فرصة غير مسبوقة لإمكانية هزيمة أردوغان هي نفسها بطاقة إعادة انتخاب الرئيس الحالي لفترة إضافية، لأنها مبنية على تقدير موقف غير دقيق كما سلف، فضلاً عن أنه ليس مقطوعاً به حتى اللحظة أنه سيكون مرشح المعارضة التوافقي في مواجهته، إذ ما زال ماراثون الانتخابات في بداياته.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!