د. علي محمد الصلابي - خاص ترك برس
إن شرط الإخلاص متعلق بالإرادة، والقصد، والنية، والمقصود به: (إفراد الحق ـ سبحانه وتعالى ـ بالقصد، والطاعة).(ابن القيم، 1989،ج2، ص91)
والنية تقع في كلام العلماء بمعنيين، كما قرر ذلك ابن رجب، فقال: (أحدهما: تميز العبادات بعضها عن بعض، كتمييز صلاة الظهر عن العصر مثلاً... إلى أن قال: والمعنى الثاني: بمعنى تمييز المقصود بالعمل، وهل هو لله وحده لا شريك له، أم لله وغيره، وهذه هي النية التي يتكلم فيها العارفون في كتبهم في كلامهم على الإخلاص وتوابعه، وهي التي توجد كثيراً في كلام السلف المتقدِّمين...).(ابن رجب،1991، ص8)
والأدلة على هذا الأصل في القرآن، والسنة، وكلام السلف، ومن سار على نهجهم كثيرة. فمن القرآن قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ *أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ *}[الزمر: 2 ـ 3].
قال ابن كثير: (أي: لا يقبل الله من العمل إلا ما أخلص فيه العامل لله وحده لا شريك له).(ابن كثير،1990، ج6، ص78)
وقوله عز وجل: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ *وَأُمِرْتُ لأَِنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ *قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ *قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي *}[الزمر: 11 ـ 14] وقوله تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ *}[الأعراف:29].
قال ابن كثير: (أي: أمركم بالاستقامة في عبادته في محلِّها، وهي متابعة المرسلين المؤيدين بالمعجزات فيما أخبروا به عن الله، وجاؤوا به من الشرائع، وبالإخلاص له في عبادته، فإنه تعالى لا يتقبل العمل حتى يجمع هذين الركنين: أن يكون صواباً موافقاً للشريعة، وأن يكون خالصاً من الشرك).(ابن كثير،1990، ج3، ص 158)
وقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [النساء: 125 ]قال ابن القيم: (فإسلام الوجه: إخلاص القصد، والعمل لله...).
ومن الأحاديث النبوية:
1 ـ قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرأئٍ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله؛ فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها؛ فهجرته إلى ما هاجر إليه».
قال ابن رجب ـ رحمه الله ـ في شرحه لهذا الحديث: (...فهذا يأتي على كل أمر من الأمور... وهو أنَّ حظ العامل من عمله نيته.. وأنه لا يحصل له من عمله إلا ما نواه به، فإن نوى خيراً؛ حصل له خير، وإن نوى شرّاً؛ حصل له شر... وهاتان كلمتان جامعتان، وقاعدتان كليتان لا يخرج عنهما شيء...).
وقال الشوكانيرحمه الله في مقدِّمة أدب الطالب عند ذكره لهذا الحديث: (...حصول الأعمال، وثبوتها لا يكون إلا بنية، فلا حصول، أو لا ثبوت لما ليس كذلك، فكل طاعة من الطاعات، وعبادة من العبادات إذا لم تصدر عن إخلاص نية وحسن طوية؛ لا اعتداد بها، ولا التفات إليها، بل هي إن لم تكن معصية؛ فأقل الأحوال أن تكون من أعمال العبث، واللعب...).
2 ـ وفي الحديث الصحيح من حديث أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: قال صلى الله عليه وسلم: «ثلاث لا يَغُلُّ عليهم قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم...».
قال ابن القيم: (أي: لا يبقى فيه غلٌّ، ولا يحمل الغل مع هذه الثلاثة، بل تنفي عنه غله، وتنقيه منه، وتخرجه عنه، فإن القلب يغلُّ على الشرك أعظم غِلٍّ، وكذلك يغل على الغش، وعلى خروجه عن جماعة المسلمين بالبدعة، والضلالة، فهذه الثلاثة تملؤه غلاً، ودغلاً. ودواء هذا الغل، واستخراج أخلاطه بتجريد الإخلاص، والنصح، ومتابعة السنة).
وفي الحديث القدسي يقول الله تعالى: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه غيري؛ فهو للذي أشرك فيه، وأنا منه بريء».
وعن أبي أمامة ـ رضي الله عنه ـ قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت رجلاً غزا يلتمس الأجر والذكر؛ ما له؟ قال صلى الله عليه وسلم: «لا شيء». ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يقبل إلا ما كان خالصاً، وابتُغي به وجهه».
وعن معاذ ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الغزو غزوان، فأما من غزا ابتغاء وجه الله تعالى، وأطاع الإمام، وأنفق الكريمة، وياسَرَ الشريك، واجتنب الفساد في الأرض؛ فإن نومه، ونُبْهَهُ أجرٌ كله، وأما من غزا فخراً، ورياء، وسمعة، وعصى الإمام، وأفسد في الأرض؛ فإنه لن يرجع بالكفاف».
وعنه صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «من طلب العلم؛ ليماري به السفهاء، أو يجاري به العلماء، أو يصرف به وجوه الناس إليه؛ أدخله الله في النار».
وفي حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد، فأتي به، فعرَّفه نعمته، فعرفها. قال: فما عملتَ فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت! قال: كذبت، ولكنك قاتلت؛ لأن يقال جريءٌ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه؛ حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم، وعلمه، وقرأ القرآن، فأتي به، فعرَّفه نعمه فعرفها. قال: فما عملت؟ قال: تعلمت العلم، وعلمته، وقرأت فيك القرآن . قال: كذبت، ولكنك تعلمت، ليقال: عالم، وقرأت القرآن ؛ ليقال: قارئ، فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه؛ حتى ألقي في النار، ورجل وسَّع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال، فأتي به فعرَّفه نعمه، فعرفها. قال: فما علمتَ فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك! قال: كذبت، ولكنك فعلت؛ ليقال: جواد، وقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه؛ حتى ألقي في النار».
وأما ما ورد عن السلف في الإخلاص؛ فهو كثير وفير، وإليك قليل من أقوالهم:
1 ـ عن علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنهما ـ قالا: (لا ينفع قول إلا بعمل، ولا عمل إلا بقول، ولا قول، وعمل إلا بنية، ولا نية إلا بموافقة السنة).(الأجري، 1982، ص131)
2 ـ وعن أبي العاليةقال: (كنا نتحدث منذ خمسين سنة: أن الأعمال تعرض على الله تعالى ما كان له منها؛ قال: هذا لي، وأنا أجزي به، وما كان لغيره؛ قال: اطلبوا ثواب هذا ممَّن عملتم له).
3 ـ وعن مُطَرِّف بن عبد الله: أنه قال: (صلاح القلب، بصلاح العمل، وصلاح العمل، بصحَّة النية).
4 ـ وعن يحيى بن أبي كثير: أنه قال: (تعلموا النية، فإنها أبلغ من العمل).(الأصبهاني،1979،ج3، ص70)
5 ـ ومما روي عن الفضيل بن عياض: أنه تلا قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [تبارك: 2] فقال: (أخلصه، وأصوبه، قالوا: يا أبا علي! ما أخلصه، وأصوبه؟ قال: إذا كان العمل خالصاً، ولم يكن صواباً؛ لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً؛ لم يقبل؛ حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص إذا كان لله عز وجل، والصواب إذا كان على السنة).
مراجع البحث:
علي محمد الصلابي، الوسطية في القرآن الكريم، مكتبة الصحابة، 1422ه-2001م صص 363-367
ابن القيم، تهذيب مدارج السالكين هذبه عبد المنعم صالح العلي العزي، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثالثة، 1409 هـ- 1989م.
ابن رجب الحنبلي، جامع العلوم والحكم، تحقيق شعيب الأرناؤوط وإبراهيم باجس، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثالثة، 1412 هـ- 1991م.
ابن كثير القرشي، تفسير ابن كثير، دار الفكر، ودار القلم بيروت، لبنان الطَّبعة الثَّانية.1420ه-1990
الأجري، الشريعة، تحقيق محمد حامد الفقي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1403 هـ.-1982
أبو نعيم الأصبهاني، حلية الأولياء وطبقات الأصفياء دار الكتاب العربي، بيروت الطبعة الثالثة، 1400 هـ.-1979م
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس