د. سمير صالحة - أساس ميديا
نسمع ونقرأ مَن يردّد داخل تركيا وخارجها أنّ اتفاقية لوزان الموقّعة بين أنقرة و10 دول غربية عام 1923 والتي تتضمّن تفاهمات رسم الخرائط وترسيم الحدود وحسم الكثير من الملفّات الخلافية المتعلّقة بتفكيك ميراث الإمبراطورية العثمانية، سينتهي مفعولها في صيف العام المقبل، وأنّ تركيا ستتحرّر من قيود الاتفاقية وتعمل على استرداد ما فقدته قبل مئة سنة، لِم لا والبعض يسأل رئاسة الاتصالات في القصر الرئاسي التركي عن رأيها في وجود بنود سرّية لم تُعلَن في الاتفاقية، وأنّ تركيا سيصبح من حقّها بعد 24 تموز 2023 التنقيب عن الطاقة واستخراجها من أراضيها، وكأنّ تركيا لم تعثر على النفط في العديد من مناطقها البرّية والبحرية حتى الآن ولم تستخرجها وتستفِد منها.
تكاد تصل هذه الترويجات إلى مستوى التخريف التاريخي والسياسي، ولا علاقة لها بالواقع الذي أوصل الأتراك والعواصم الغربية إلى تفاهمات اتفاقية لوزان وبنودها بهدف إنهاء الكثير من نقاط الخلاف الذي بقي مشتعلاً بعد الحرب العالمية الأولى وفتح الطريق أمام بناء الدولة التركية العلمانية الحديثة بقيادة مصطفى كمال أتاتورك. تقول الفبركات إنّ التزامات المعاهدة وبنودها المتعلّقة بمنع تركيا من التنقيب عن البترول والغاز ستزول بعد عام، وإنّ تركيا ستتحرّر من قيود مسارها السياسي في علمانيّة الدولة، وسيحقّ لها المطالبة بتغيير شكل الخرائط واسترداد الأراضي التي خسرتها بعد الحرب في المناطق المحيطة بها، وإنّ اختيار تاريخ 24 تموز لإعادة افتتاح آيا صوفيا مسجداً يأتي تزامناً مع توقيع معاهدة لوزان، في رسالة ردّ على "معاهدة سقوط الخلافة الإسلامية"، وإنّ تركيا ستتحرّر من الاتفاقية التي كبّلت يديها طوال 100 عام في مناطقها الحدودية، وحرمتها حقّها في التصرّف بمضائقها والتنقيب عن الثروات الطبيعية كما تريد، وإنّ رسائل إردوغان المتّصلة باسترداد تركيا لموقعها الإقليمي وتحقيق أهداف 2023 و"الجمهورية الثانية" تتعلّق بإنهاء لوزان وقيودها.
يريد البعض أيضاً استغلال اتفاقية لوزان أو معاهدة "مؤتمر شؤون الشرق الأوسط" كما هي التسمية الرسمية ليحرّض إقليمياً، ويتطلّع البعض الآخر إلى استرجاع حلم بناء خارطة ما قبل الحرب العالمية الأولى العثمانية متسلّحاً بوهم اقتراب موعد تحرّر تركيا الحديثة من كلّ الالتزامات التي تعيق تحرّكها في الإقليم بسبب نصوص لوزان. وهو ما يستغلّه طرف ثالث للترويج بين الحين والآخر لمعلومات وآراء خاطئة حول انزعاج الأتراك من لوزان ومضمونها الذي منعهم لعقود من التحرّك سياسياً وأمنياً واقتصادياً، موهماً نفسه أنّ تنفيذ بنود ونصوص هذه الاتفاقية سيزول قريباً. الهدف هنا إمّا تحريض دول المنطقة على تركيا، وإمّا العكس تحريض الأتراك على دول المنطقة، وفي نهاية الأمر الغاية واحدة، وهي محاولة إرجاعنا إلى لعبة تصفية الحسابات والإيقاع بين الشعوب والدول مجدّداً. فمن له مصلحة في ذلك؟
دفعت السخرية مراد بردقجي أحد المؤرّخين الأتراك المعروفين إلى كتابة سيناريو وهميّ اخترعه هو يتحدّث عن وجود اتفاقية سرّية أخرى عُقدت في لوزان لم يتمّ الإعلان عنها، وبين بنودها تنازل تركيا في العام 2023 عن مضائقها وحقوقها في التنقيب عن الطاقة والاعتراف السياسي والتعليم الديني في الكنيسة الأرثوذكسية بإسطنبول وجزيرة هيبلي وتحويل آيا صوفيا مجدّداً إلى كنيسة وتفعيل بعض موادّ اتفاقية سيفر عام 1920 التي رفضتها أنقرة.
ثمّ يعود بردقجي ليذكّر مَن يتحدّث عن هذه الخزعبلات أنّ لوزان هي أهمّ الوثائق التاريخية التركية ومدماك ولادة الجمهورية العلمانية الحديثة. لوزان هي التي حدّدت معالم الدولة التركية الجديدة بعد نقاشات "الميثاق المللي" أو الميثاق الوطني الذي اقترحته أنقرة بعد الحرب العالمية الأولى خلال المفاوضات وحاول التحالف المنتصر استبداله باتفاقية سيفر إلى أن حُسمت الأمور في لوزان في تموز 1923. رسمت لوزان الجزء الكبير من حدود تركيا، لكنّها رسمت أيضاً حدود الدول المجاورة لها في إطار بنية الشرق الأوسط الجديد الذي لم يعجب البعض فحاول استغلال أجواء ما بعد الحرب العالمية الثانية ليجدّد شكل خارطة المنطقة.
هناك من يريد أن يحمّل اتفاقية لوزان التي عُقدت بين تركيا والدول الأوروبية، الكثير من أوزار الماضي وخطاياه، على الرغم من أنّها تمثّل العكس بالنسبة إلى غالبية الأتراك الذين يرون فيها انتصاراً وإنجازاً سياسياً كبيراً بقيادة أتاتورك. فمن خلالها تمّ استرداد الكثير من المناطق التي كان يسيطر عليها الحلفاء، وهي أراضٍ متداخلة مع العراق وسوريا واليونان، وكانت محاولة فرض اتفاقية سيفر عام 1920 التي لم تدخل حيّز التنفيذ بسبب رفض البرلمان التركي المصادقة عليها، وإنزال أشدّ العقوبات بالوفد التركي المشارك في صناعتها، خير دليل على ذلك.
أزعجت البعض حتماً اتفاقية لوزان التي تضمّنت 143 مادّة تتعلّق بتثبيت حدود الجمهورية التركية الحديثة، والمضائق، ووضع الأقليّات غير المسلمة، وتعويضات الحرب، وديون الدولة العثمانية، وإنهاء أهداف اتفاقية "سيفر" في بناء دويلات أخرى على حساب الأراضي التركية. المنزعج من لوزان هو الذي فشل في فرض "سيفر" وخططها وأهدافها التي كانت ستقلّص مساحة الأراضي التركية إلى نصف ما هي عليه اليوم.
فُسِّرت رسائل الرئيس التركي رجب طيب إردوغان التي اعتبرت أنّ اتفاقية لوزان تحتاج إلى تحديث بأنّها مسعى تركي إلى تغيير الخرائط والحدود بأكثر من اتجاه. في حين أنّ إردوغان كان يتحدّث هنا على الشقّ المتعلّق بترسيم الحدود التركية اليونانية وموضوع الجزر المتداخلة ومسألة التنقيب عن الغاز والنفط في شرق المتوسط والأزمة القبرصية العالقة ومسؤولية الاتحاد الأوروبي الذي قَبِل ضمّ الجانب القبرصي اليوناني من دون إنهاء خلافات الجزيرة. يتحدّث إردوغان عن مئويّة تركيّة جديدة تبدأ بعد عام يريد أن يدشّن هو الحقبة المقبلة فيها سياسياً وشعبياً، والبعض يفسّر ما يقوله على أنّه تخلٍّ تركيّ عن لوزان أو دفنها في مستنقعات التاريخ.
لوزان هي معاهدة سلام وقّعتها أنقرة بقيادة السلطة السياسية الجديدة مع الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، مثل بريطانيا وفرنسا وإيطاليا واليونان. وهي أيضاً بعكس ما يُقال الاتّفاقية التي وقّعتها تركيا بعد انتهاء حرب الاستقلال التي خاضتها على أكثر من جبهة وأعطتها الكثير ممّا كانت ستتخلّى عنه في سيفر مع انتهاء الحرب. ولو لم تكن إنجازاً سياسياً ووطنياً كبيراً لَما كان احتفل الأتراك كلّ عام بما قدّمته لهم الاتفاقية. فما هي مصلحة البعض في تركيا من إعلان موت المعاهدة والاحتفال بدفنها في الرابع والعشرين من تموز من العام 2023؟
صحيح أنّ بنود لوزان حملت تركيا على التخلّي عن الكثير من الأراضي، وألزمتها بتقديم تنازلات سياسية واقتصادية، ودفعتها نحو اتفاقيات مبادلة السكان وترك أقليّات تركيّة كبيرة في اليونان وبلغاريا. وصحيح أيضاً أنّ توقيع لوزان شمل تنازل تركيا عن أيّ ادّعاء لحقوق بالكثير من الأراضي، والاعتراف بالحكومات المستقلّة في دول ناشئة أو بسلطات الانتداب، وحسم الملفّات الخلافية العالقة لناحية الأراضي والمكتسبات والديون في اتفاقيات أخرى وبحثها مع الأطراف المعنيّة، وهذا ما جرى طوال عقد ونصف حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية. لكنّ الصحيح أيضاً أنّ لوزان ما زالت تثير الجدل في تركيا أكثر ممّا أثارته اتفاقية سيفر. إنّ الشائعات والفبركات والتحليلات المغلوطة أو المقصودة هي التي أبقت الاتفاقية في قلب النقاشات حتى اليوم على الرغم من أنّ الحديث يدور حول رؤية 2023 التركية في الداخل والخارج المرتبطة بتموضع إقليمي جديد بعيد عن سياسات ومواقف وقرارات أوصلتنا إلى طريق مسدود ومكلف في علاقاتنا مع دول الجوار.
"الواقع الصعب" هو أهمّ إفرازات لوزان بالنسبة إلى الكثير من دول المنطقة، وبينها تركيا طبعاً. لكنّ الأصعب جاء لاحقاً مع التفاهمات الفرنسية البريطانية تحت سقف عصبة الأمم وعهد الانتداب وما شيّده من بناء إقليمي رخو، مطّاط، مهدّد بالانهيار والاستبدال في كلّ لحظة، أسقطته سنوات الحرب العالمية الثانية وما تلاها من تفاهمات تمكّنت تركيا من حماية مصالحها فيها عبر اتفاقية لوزان وبنودها.
* أهداف العام 2023 التركية لا علاقة لها بنصوص وموادّ اتفاقية لوزان، بل بروح ومعالم هذه الاتفاقية. وإردوغان يتطلّع إلى الإعلان عن رؤية تركية جديدة في العلاقة مع الداخل والإقليم في العام 2023 أكثر ممّا يبحث عن لوزان ثانية.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس