د. علي محمد الصلابي - خاص ترك برس

كان نور الدين يحاول التقرب من أهل دمشق، وكسب ثقتهم، ويستغل كلَّ فرصة تحقق له ذلك ؛ سعياً منه لتحقيق هدفه الرئيسي بضم دمشق دون حرب، وقد وصلته أخبار في نهاية عام 544هـ/1149م عن أعمال نهبٍ، وتخريبٍ يقوم بها الفرنجة في مناطق حوران التابعة لدمشق، دون أن يردعهم أحد.(أبو صيني،2000، ص98)

وكان المطر قد انحبس حتى ذلك الوقت، وعانى الناس من القحط، فتوجه نور الدين بجيشه حتى وصل بعلبك، وراسل مجير الدين أبق حاكم دمشق، يقول له: «إنني ما قصدت بنزولي هنا طلباً لمحاربتكم، وإنما دعاني لهذا الأمر كثرة شكاية أهل حوران، بأنَّ الفلاحين أخذت أموالهم، وسبيت نساؤهم، وأطفالهم بيد الفرنج، وعدم الناصر لهم، ولايسعني مع ما أعطاني الله تعالى ـ وله الحمد ـ من الاقتدار على نصرة المسلمين، وجهاد المشركين، وكثرة المال، والرجال أن أقعد عنهم، ولا أنتصر لهم مع معرفتي بعجزكم عن حفظ أعمالكم، والذب عنها، والتقصير الذي دعاكم إلى الاستصراخ بالفرنج على محاربتي، وبذلت لهم أموال الضعفاء والمساكين من الرعية، ظلماً لهم، وتعدياً عليهم، وهذا ما لا يرضي الله، ولا أحداً من المسلمين، ولا بدَّ من المعونة بألف فارس تجرَّد مع من يوثق بشجاعته من المقدمين لتخليص ثغر عسقلان، وغزة».

فهذه الكلمات خرجت من قلب مكلوم، يرى الفرنج يتداعون على المسلمين كما تتداعى الأكلة على قصعتها، وأولو الأمر يقفون مكتوفي الأيدي، فلا يذبُّون عن أمتهم، ولا يدافعون عن رعيتهم، بل ويصل الأمر إلى أنهم يبذلون أموال المسلمين لأعداء الإسلام، مع أنه لا يجوز إعطاء الكافرين أموال المسلمين، وأرضهم، فكان لا بدَّ وأن يتحرك الأبرار الشرفاء.

كانت خطة نور الدين محمود للاستيلاء على دمشق سلميَّاً تقتضي العمل على ثلاثة محاور:

المحور الأول: يتمثَّل بالعمل على توجيه حملة دعائية عامة إلى أهالي دمشق، يتمُّ خلالها إبراز الأحوال السيئة، والأوضاع المتردية، التي تسود إمارتهم بسبب سوء إدارة حكَّامها، وفسادهم، وتعاملهم مع الأعداء، وبالمقابل إبراز ما ينتظرهم من (نور الدين محمود).

وكانت القواعد والأسس اللازمة لمثل هذه الحملة متوافرة، وموجودة أصلاً من خلال الواقع، الذي يعيشه أهالي مدينة حلب، وغيرهم من رعايا نور الدين محمود، ومن خلال ما تناقله الناس عن عدله، وحسن سيرته، وجهاده، ولكنه أراد أن يخصَّ أهل دمشق بمزيد من الاهتمام والرعاية في هذا المجال، فكان يوصي جنوده في كل مرّة يدخل فيها أراضي الإمارة، أن يحسنوا معاملة الفلاحين، ومن يلقونهم من أهالي دمشق، وألا يحدثوا أية أضرار في الممتلكات، والمزارع، وعندما علم باعتداءات الفرنجة على حوران (جنوب دمشق)، وقتلهم للمسلمين، وسبيهم للنساء، والأطفال ونهبهم للمواشي دون خروج حاكم دمشق لدفعهم؛ بادر بالتوجه بجيشه إلى دمشق، وعندما اقترب من المدينة، وأرسل إلى حاكمها الرسالة الانفة الذكر، وعندما علم نور الدين: أنَّ حاكم دمشق طلب مساعدة الفرنجة، أجرى تعديلاً على توزيع مواقع قواته، للتعامل مع الموقف الجديد. التقى مجير الدين أبق مع قادة الفرنجة، وأكَّد معهم اتفاقه القديم، ولكنْ أدرك فيما بعد عزم نور الدين وتصميمه على احتلال المدينة، فأرسل إليه يطلب الاجتماع به، وإعلان الطاعة له، وذكر اسمه في الخطبة وسك اسمه على النقود مقابل بقائه حاكماً على المدينة، فقبل نور الدين بهذا العرض، وتمَّ الاجتماع في معسكر نور الدين، وخرج أغلب أهل دمشق إلى معسكر نور الدين؛ ليملؤوا عيونهم من طلعة نور الدين.(القلانسي،1908، ص309)

المحور الثاني: كان العمل يشتمل على الاتصال سراً بوجوه مدينة دمشق، وأعيانها من كبار التجار، والقضاة، والعلماء، وبعض قادة الجند، وقادة التنظيمات الشعبية لاستغلال نفوذهم وتأثيرهم لصالح التغيير المطلوب في الوقت المناسب، وكان من أشهر العاملين على هذا المحور القائد المشهور أسد الدين شيركوه، وأخوه نجم الدين أيوب (والد صلاح الدين)، فقد كان الأخير من سكان دمشق، ومن أشهر وجهائها، بينما كان أسد الدين من أكبر القادة العسكريين العاملين مع نور الدين محمود، فاستغلَّ نور الدين هذا الوضع، وأوعز إلى قائده أسد الدين بمراسلة أخيه نجم الدين، وتحريضه على الإطاحة بمجير الدين أبق، وتسهيل تسليم المدينة لنور الدين ،بدون قتال في الوقت المناسب، فاستجاب نجم الدين، وبذل في هذا المجال جهوداً أثمرت في نهاية الأمر. حتى أخذ أعيان دمشق يراسلون نور الدين يطلبون حضوره معلنين استعدادهم حصر مجير الدين أبق في قلعة دمشق، وتسليم المدينة له دون قتال.(الجزري،1963، ص107) وهكذا كان النجاح على هذا المحور كاملاً كما هو على المحور الأول.

المحور الثالث: كان المحور الثالث من اختصاص نور الدين نفسه، فقد استطاع بخبرته، ومقدرته على تحليل النفوس البشرية النفاذ إلى شخصية مجير الدين أبق وتحليلها، ومعرفة ميوله، ورغباته، وتعامل معه على هذا الأساس، فأخذ يراسله، ويستشيره في أمور المسلمين، ويتقرَّب إليه بالهدايا، حتى اطمأن إليه، ووثق به، ثم أخذ يوقع بينه وبين قادته وأمرائه، فيكتب له عن بعض أمرائه، وقادته بأنهم يراسلونه، (أي: يراسلون نور الدين)، فيقبض مجير الدين عليهم، أو يجردهم من مناصبهم، أويقتلهم، حتى لم يبق من كبار قادته وأمرائه من يعتمد عليه في ضبط أمور الجيش، وإدارة القتال، وأصبح مكروهاً من الرعية معزولاً عن الأعيان، والوجهاء، مجرداً من القادة الأكفَّاء، عندها حانت الفرصة المناسبة، وأصبحت دمشق كالثمرة الناضجة، فسار نور الدين محمود إليها بجيشه، وأوعز إلى أنصاره فيها لتنفيذ ما اتفق عليه، فثاروا، وهاجموا أبواب المدينة من الداخل، وفتحوها أمام جيش نور الدين، بينما تحصَّن مجير الدين أبق مع من بقي معه من الجند في قلعة المدينة، وطلب النجدة من الفرنجة، الذين سارعوا إليها، ولكن نور الدين كان أسرع منهم، فرجعوا خائبين، ثم أرسل نور الدين إلى مجير الدين يؤمنه على نفسه، وعلى من معه من الجند، ويعده بإقطاعه مدينة حمص، إذا استسلم وخرج من القلعة، فقبل، وحقق له نور الدين وعده.ولكن أبدله بحمص مدينة بالس على نهر الفرات في الشرق.(القلانسي،1908، ص325)

وهكذا نجحت خطة نور الدين في ضمِّ دمشق إلى دولته بدون قتال نجاحاً كاملاً ـ بفضل الله ـ ثم حنكته السياسية، ومقدرته على تأليف القلوب، واستمالتها ،بالإضافة إلى قوة عزمه، وتصميمه على الهدف، وصبره، وتروِّيه في التعامل مع الأمراء المنحرفين عن جادة الصواب.(أبو صيني،2000، ص142)

ولقد تمكَّن نور الدين من ضم دمشق في صفر عام 549هـ/أبريل 1154م، وَيُعَدُّ ضمُّ دمشق من أهمِّ إنجازات السياسة الخارجية النورية، وبذلك تحقَّق حُلمٌ طالما راود الزنكيين، وقد عدَّه البعض أعظم إنجازاته على الإطلاق، وأنه نقطة تحول في تاريخ الحروب الصليبية؛ حيث غدت بلاد الشام، والجزيرة تحت سيطرته، وصار الصليبيون بذلك يواجهون عدواً خطيراً، وإذا كان بلدوين الثالث بإسقاطه عسقلان عام 548هـ/1153م أكمل مدَّ النفوذ الصليبي على كافة أنحاء الساحل الشامي من الإسكندرونة شمالاً إلى غزة جنوباً.


مراجع البحث:

علي محمد الصلابي، الدولة الزنكية، دار المعرفة، بيروت، 2007، صص 461-465

أبو يعلى حمزة بن القلانسي، ذيل تاريخ دمشق، تحقيق أميدروز طبعة بيروت،1325ه- 1908م.

الجزري، التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية، تحقيق عبد القادر أحمد طليمات، دار الكتب الحديثة بالقاهرة، ومكتبة المثنى، بغداد 1382 هـ  1963 م.

عبد القادر أحمد أبو صيني، دور نور الدين محمود في نهضة الأمة ومقاومة غزو الفرنجة، رسالة دكتوراه، معهد التاريخ العربي والتراث العلمي للدراسات العليا.1420ه-2000م

عن الكاتب

د. علي محمد الصلّابي

الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس