توران قشلاقجي - القدس العربي
لا يدور أي حديث عن العلماء البارزين في العصر العثماني، إلا ويذكر خلاله اسم الإمام البركوي، الذي ولد عام 1523 في بالق أسير، ووافته المنية عام 1573 عندما كان في زيارة إلى إسطنبول. نُقلت جنازة الإمام البركوي إلى إزمير، ليدفن في قرية بركي التي قدم فيها التعليم المدرسي لسنوات طويلة، حتى باتت تذكر باسمه. ويقع قبره تحت شجرة سرو كبيرة كان قد زرعها بنفسه. ويرتاد قرية بركي العديد من الزوار كل عام لرؤية منازلها العثمانية التاريخية.
توفي محمد أفندي البركوي عن عمر يناهز 52 عاما، وكانت حياته مليئة بالنضالات والإجراءات والجهود الطويلة، على الرغم من قصر مدتها. تلقى التعليم على يد أهم المشايخ في بالق أسير وإسطنبول.. وله نحو 60 مؤلفا باللغتين التركية والعربية. ولا تزال المناقشات التي طرحها مستمرة حتى يومنا، وتحظى مؤلفاته بقراءة كبيرة أيضا. والأهم من ذلك، لا يزال محمد أفندي البركوي حيا في ضمير المجتمع.
عاش الإمام البركوي خلال فترات الذروة للدولة العثمانية إبان عهدي السلطان سليمان القانوني والسلطان سليم الثاني. وكان من أوائل الذين لاحظوا انزلاق المجتمع العثماني نحو التفكك رغم عظمته. إن نقطة زوال الشمس لا تكون فقط عند الذروة، بل عند بدء غروبها أيضا. أكثر ما كان يزعجه هو رتابة الحياة الدينية وانحلالها، وانتشار البدع والخرافات والمعتقدات الباطلة، حيث بدأت الأضرحة ترتفع فوق القبور، وأصبحت الشموع تشعل فيها، والقرآن بات يتلى مقابل أجر، والمناصب تنتقل بالوراثة، ويتم شراء وبيع الإجازات، والرشوة متفشية في كل مكان، كما أصبح وقف المال مشروعا عبر فتوى صادرة عن شيخ الإسلام أبو السعود أفندي.
أعلن الحرب على هذه الأمور مستفيدا من قدراته في الوعظ. واكتشف السر الذي يتيح له إيصال صوته إلى الأماكن البعيدة: وصلت انتقاداته إلى أبعد الزوايا في الأراضي العثمانية. وعارض الفتوى الصادرة عن شيخ الإسلام. شملت اهتماماته وانتقاداته جميع المناحي، بما في ذلك عمل وممارسات أعلى مؤسسات الدولة، فضلا عن العادات الشائعة بين الناس ودوافعها.
أصبح الإمام البركوي معلما في المدرسة التي بناها له عطاء الله أفندي البركوي، وهو معلم السلطان سليم الثاني، في قرية بركي. وبينما كانت عيون وقلوب الجميع موجهة نحو العاصمة إسطنبول، قرر هو الذهاب من المدينة إلى الريف، وكانت بمثابة الخلوة والعزلة بالنسبة إليه، قدم هناك الدروس والوعظ والإرشاد، وألّف الكتب. ولم يكن يتردد أبدا في قول الحق، وكان يقدم النصائح والتحذيرات لرجال الدولة من أجل مكافحة الظلم في البلاد، ويحذر الناس من البدع والخرافات.
كما انتقد الإمام البركوي أرباب الصوفية في ما يخص البدع والتطرف، وكتب في هذا الصدد، رسالة بعنوان «القول الوسيط بين الإفراط والتفريط»، وقد واجه اتهامات بمعاداة التصوف بسبب هذه الرسالة، لكن العديد من مشايخ الصوفية، ومنهم المتصوف المعروف عبد الغني النابلسي، قالوا إن الإمام البركوي يعارض البدع والخرافات وليس التصوف، لم يهد أيًا من مؤلفاته لسلطان أو رجل دولة، على الرغم من أن هذا التوجه كان شائعا جدا في عصره. وكان رضا الله سبحانه وتعالى هو الشيء الوحيد الذي وضعه نصب عينيه وحرص على نيله.
بذل جهودا كبيرة لتعليم اللغة العربية جيدا في المدارس العثمانية. ولا تزال كتب الصرف والنحو التي ألفها، مثل «عوامل وإظهار»، من بين أهم الكتب التي تعتمدها المدارس للتعليم في تركيا.. وألّف أيضا كتبا في قواعد اللغة العربية مثل «إمعان الأنظار»، و»كفاية المبتدي»، و»امتحان الأذكياء». ويعد كتابه الشهير «الطريقة المحمدية»، الذي يشبه كتاب «إحياء علوم الدين» للإمام الغزالي، من أهم الكتب التي يسترشد به الشعب التركي.
خلاصة الكلام؛ يعتبر الإمام البركوي أحد الشخصيات التي يجب التركيز عليها والاهتمام بها من قبل الراغبين في فهم الفكر الديني العثماني والتركي جيدا. وأعتقد أنه يجب على الدول العربية أن تفحص عن كثب كتبه المؤلفة باللغة العربية. لم يكن من الممكن أن أمرر زيارتي الأخيرة إلى قرية بركي التاريخية التي كانت من أهم مراكز العلم في يوم من الأيام، دون أن أعرّف بالإمام البركوي.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس