سمير صالحة – خاص ترك برس
كل المؤشرات والتطورات المتلاحقة على الارض سياسيا وعسكريا تؤكد تقدم مشروع اعلان الكيان الكردي المستقل سياسيا وإداريا في شمال سوريا والمرتبط رمزيا بدمشق بانتظار إنجلاء الامور في مناطق شمال العراق وتحضير الاجواء في جنوب شرق تركيا تمهيدا للكشف عن الهدف الحقيقي .. الدولة الكردية في الشرق الاوسط .
المشكلة كانت المنفذ البحري لهذه الدولة ويبدو انها سويت بالتفاهم مع الادارة الاميركية عبر التمدد والانتشار الاخير لدمج شمال غرب سوريا بالمشروع الذي يجري بالتنسيق الكردي مع واشنطن في المنطقة ويحقق لها انتصارا استراتيجيا اقليميا جديدا تعثر بسبب التعنت التركي والعربي والمساومات الايرانية الاقليمية التي تشهد اخر مراحلها بعد تفاهم لوزان النووي كما يبدو .
فما هي ابرز هذه المؤشرات والدلائل على تقدم مشروع الدولة الكردية واقترابه من خط النهاية ؟
مطلب انقرة الدائم منذ اكثر من عامين حول المنطقة الامنة في شمال سوريا بدا يتحقق هذه المرة ولكن ليس لحماية المعارضة السورية او تسهيل عودة مئات الالاف من اللاجئين السوريين المتواجدين في تركيا الى الداخل السوري او قطع الطريق على النظام في دمشق في استهدافهم ومهاجمتهم بل من اجل تسهيل اعلان المنطقة الكردية الامنة التي ستتحول سريعا الى منطقة عازلة بين مناطق سيطرة قوات المعارضة السورية ودمشق وبين الكيان الكردي الموعود .
مسالة اسقاط النظام والتغيير في سوريا التي دعمتها واشنطن في العلن والتي لم تتحرك لترجمتها على الارض بعد ستدخل على الخط هي الاخرى قريبا بعد انجاز اعادة انتشار وتمركز النفوذ الكردي في شمال سوريا وهو ما كانت تنتظره الادارة الاميركية وتعطيه الاولوية في سياستها السورية وربما هذا ما يعكسه التصعيد والرد التركي الاخير .
أنقرة ترفض محاولات إقامة كيان كردي أو أي محاولات من شأنها التأثير على بنية المنطقة في شمال سوريا. ما حذرت منه انقرة باستمرار ولم تاخذ به واشنطن حول مخاطر موجات النزوح الكبيرة وضرورة منع حركات النزوح والإفراغ العرقي في سوريا كانت اخر مؤشرات تقدمه وتمركزه معركة كوباني ثم مسرحية تل ابيض التي سيعقبها الفصل الاخير في شمال غرب سوريا في اعزاز باتجاه البحر هذه المرة حيث نستسلم جميعا لمحاولات التأثير والتلاعب بالنسيج الاجتماعي في المنطقة.
" الاشتباكات " الاخيرة التي شهدتها بلدة تل ابيض بين عناصر تنظيم داعش وقوات تنظيم حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري في منطقة محاذية للحدود التركية السورية حملت معها الكثير من الاستفسارات حول الهدف المنشود وغير المعلن كرديا لكن الذي لم يكن يعرف هو حجم الدور الاميركي في التخطيط والإدارة والمشاركة في التنفيذ .
مسالة اخرى شبه واضحة المعالم اليوم هي ان سيناريو شمال العراق يتكرر في شمال سوريا وهي مسالة معروفة لدى الجميع لكن موقع ودور تنظيم داعش فيها هو الذي كان مجهولا حتى الان فتوضح هو الاخر في معركة تل ابيض والانسحاب السريع لقوات التنظيم التي قاتلت حتى النهاية في كوباني قبل الانسحاب دون الاستسلام . داعش هي " بلاك ووتر" اميركي ينفذ لواشنطن ما تريد لان مصالحه تفرض عليه ذلك .
كلام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي تحدث عن مخاطر ما يجري في شمال سوريا " يؤسفني أن أقول بأن طائرات التحالف تدعم عناصر تنظيم (PYD) للسيطرة على منطقة تل أبيض السورية من خلال تنفيذ هجمات جوية وإجبار سكان هذه المنطقة الأصليّين من عرب وتركمان وأكراد على النزوح تجاه الأراضي التركية، كي تسنح الفرصة لعناصر هذا التنظيم بالسيطرة على هذه المنطقة. فكيف لنا أن ننظر بإيجابية لما تقوم به قوات التحالف في هذه المنطقة. كيف لنا أن نثق بالغرب. إنّها مستجدات لا تبشّر بالخير". يحمل اكثر من استنتاج وموقف . انقرة باتت متاكدة من حجم التنسيق الكردي الاميركي في سوريا وهي منزعجة من لعب ورقة واشنطن للورقة الكردية في سوريا كما فعلت في شمال العراق وتتابع عن قرب خيارات واشنطن القديمة الجديدة في الاستفادة من الانفتاح والتقارب مع كل العناصر والقوى التي هي في مواجهة مع تركيا ومنها التحالف الجديد بين القوى الكردية في سوريا التي يشكل حزب العمال الكردستاني قوة اساسية فيه رغم انه في تصنيفات واشنطن هو حزب ارهابي .
انقرة تتابع التطورات العسكرية والأمنية المتلاحقة في مناطق شمال سوريا وتحديدا في تل ابيض حيث الوحدات الكردية تسيطر على المنطقة بعد القضاء على تنظيم داعش فيها. تصريح رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو "إن ما يراد من موجة الهجرة الاخيرة من شمال سوريا هو تغيير التركيبة السكانية هناك ورسم خارطة الشرق الأوسط بكامله من جديد" ليس بدون مبرر .خصوصا وان البعض مازال يتمسك بورقة اتهام تركيا بالتورط في دعم تنظيم داعش دون أي دليل أو برهان .
بالمقياس التركي للتطورات تبين اليوم ان الاستراتيجية الكردية المُتّبعة في شمال سوريا تهدف إلى ربط المناطق التي يسيطر عليها تنظيم حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (PYD) ببعضها البعض، وذلك من أجل فتح ممر آمن باتجاه الساحل السوري وتحضير الأرضية لإعلان مناطق الادارة الكردية .
انقرة ترى ايضا بأنّ الذين يقومون بدعم تنظيم (PYD) لتحقيق هذا الهدف، إنّما يسعون إلى تغيير وجهة تصدير نفط شمال العراق ليمر عبر شمال سوريا بعد إيصاله الى منفذ بحري هناك باشراف القوى الكردية . السيطرة على منطقة تل أبيض ذات الأغلبية التركمانية والعربية، هدفها الاول ليس محاربة عناصر تنظيم الدّولة هناك، بل لإجبار سكان المنطقة الأصليين على النزوح باتجاه الأراضي التركية كي تسنح لهم الفرصة في تغيير التركيبة الجغرافية للمكان .
قناعة تركية اخرى هي ان قوات التحالف الدّولي من خلال تركيز ضرباتها الجوية على منطقة تل أبيض، تسعى إلى تقديم المزيد من التسهيلات لعناصر الـ PYD الذين يسعون إلى إخراج العرب والتركمان من هذه المنطقة على اعتبار أن تل أبيض تعتبر من المناطق الفاصلة بين بلدة "جزرة" التركية وعين العرب "كوباني" السورية.
والداعم الاول والاهم باتجاه تحقيق هدا المشروع هو الغارات الجوية للتحالف الدّولي التي تتركّز على المناطق الواقعة بين كوباني وعفرين، بهدف إجبار التركمان والعرب القاطنين في هذه المناطق على النزوح عن أراضيهم تجاه تركيا، وذلك من أجل تسهيل عملية السيطرة على هذه المناطق من قِبل تنظيم (PYD) وربط منطقة عفرين بمنطقة كوباني . القوى الكردية تخطط لجلب آلالاف من أكراد كوباني وشمال سوريا وإسكانهم في هذه المنطقة.
في العلن لم تكن تمثل كوباني أية أهمية بالنسبة لتنظيم الدولة الإسلامية، لكن رغم هذا خاض فيها معارك شرسة، كذلك لم تكن المدينة الصغيرة والمجهولة مهمة لأمريكا، لكن واشنطن وعلى رأس التحالف العالمي قادت فيها حرب ومعارك شرسة. وقد أعطت هذه الحرب صبغة الشرعية لحزب العمال الكردستاني وذراعه السوري باسم وحدات حماية الشعب الكردي، فقد تسابقت أمريكا مع الدول الغربية في تلميع اسم هذه الأحزاب وأمدتهم بكل أنواع السلاح والدعم المالي واللوجستي وكانت تنظم لهم الغطاء الجوي الدائم لنكتشف لاحقا ان حرب كوباني لم تكن سوى تمهيد اميركي كردي لحرب اخرى في شمال سوريا . وان المنتصر الوحيد من افتعال تنظيم الدولة الإسلامية لمعركة كوباني وتل ابيض ولاحق حرب اعزاز هم الأكراد، وهم الآن مدينون بنجاحتهم للتنظيم . فلماذا يقدم داعش مثل هذه الخدمات لاكراد سوريا ؟
داعش اثبت مع الوقت بأنه المتضرر الاول من السياسة التركية والمضر بها في الوقت نفسه . فنراه أكثر من أضر بخطط وتحركات بالمعارضة السورية التي تدعمها تركيا، ونراه يساعد تنظيم الأسد الذي تعاديه تركيا، ونراه يُقدم الهدايا لاكراد سوريا على اكثر من جبهة . واصوات تركية بدات تتعالى مشيرة الى ان خيارات انقرة لا بد ان تلتقي كلها عند نقطة قطع الطريق على هذا المشروع الذي يتقدم بالتنسيق بين واشنطن والاحزاب الكردية في سوريا بمعرفة حكومة اربيل وايران .
الان توضحت اسباب اعتراض ومماطلة الادارة الاميركية في مسالة المنطقة الامنة التي طرحتها انقرة قبل اعوام تقريبا فهي كانت تعد لانشاء المنطقة العازلة الكردية خصوصا بعد دمج الكانتونات الكردية الجديدة في شمال غرب سوريا بهذا المشروع . الغيرة الأميركية في تل ابيض لم تظهر عندما تعلق الأمر بتقدم داعش في تدمر مثلاً . شبح التقسيم في سوريا يتحول إلى أمر واقع، خصوصا مع دفع الولايات المتحدة في هذا الاتجاه من خلال دعمها الوحدات الكردية في معاركها بوجه «داعش»، وهو ما تردده تركيا منذ ايام رغم معرفتها ان ذلك سيؤثر مباشرة على علاقتها بواشنطن .
أكراد تركيا مدعومين بفوزهم في الانتخابات البرلمانية الاخيرة التي حولت المشهد السياسي في تركيا باتجاه جديد اكثر تعقيدا وتشابكا يذكرون الان ان لا عودة الى ما قبل في السياسات الكردية وان استئناف عملية السلام لانهاء ثلاثة عقود من الصراع لا يمكن ان تنتهي دون الحصول على جائزة الترضية التي سيتم الاعلان عنها قريبا . لا احد في تركيا يستبعد بعد الان احتمال تصعيد حزب العمال عسكريا مجددا وعودته الى العملي العسكرية خصوصا وانه وللمرة الثالثة خلال شهرين قامت مجموعة من عناصر حزب العمال الكردستاني "بي كي كي" الموصوف بالإرهابي في تركيا بشن هجوم مسلح على قاعدة داغليجا العسكرية بولاية هكّاري شرق البلاد.
تركيا العضو في حلف شمال الاطلسي وحليف الولايات المتحدة الاميركية ربما هي الان تدفع ثمن رفضها أن تأخذ دورا متقدما في قوات التحالف التي تقودها الولايات المتحدة ضد الدولة الإسلامية دون طرح مسالة مستقبل نظام الاسد في المعادلة نفسها، كونها ترى ان سقوط الرئيس السوري بشار الأسد فقط يمكن أن يحقق السلام الدائم في سوريا . وانقرة هي منحت بسبب موقفها هذا الاحزاب الكردية اليسارية فرصة الدخول على الخط للاستفادة من لعب ورقة داعش والحصول على تنازلات وخدمات أميركية في ملف الكيان الكردي في سوريا ليتحول الامر تدريجيا الى فرض أمر واقع كردي وتشكيل إقليم "شمال سوريا"، على غرار إقليم "شمال العراق"، لا سيما عقب طرد تنظيم داعش من مدينة عين العرب .
تركيا لا يمكن لها أن تسمح بإقامة إقليم "شمال سوريا"، على غرار إقليم "شمال العراق"، واندماج الإقليمين، وتشكيلهما دولة واحدة، تفصل تركيا عن سوريا والعراق . فالمعادلة في غاية البساطة تركيا ايضا وعلى الرغم من رصد عودة العشرات من السوريين الذين كانوا قد فرّوا لتركيا في الأيام الماضية فإن متابعين للملف الكردي وللتطورات العسكرية والميدانية ينبّهون من تحوّل شبح التقسيم إلى أمر واقع، خصوصا مع دفع الولايات المتحدة في هذا الاتجاه من خلال دعمها الوحدات الكردية في معاركها مع داعش. ورغم ان اكراد سوريا يرددون ان المخاوف التركية العربية لا مبرر لها كما يقول بيان «الديمقراطي الكردي» حول ان «ترتيب البيت السوري هو شأن داخلي سوري يجب أن لا يزعج الآخرين.. ومن البديهي أن سوريا الديمقراطية المستقرة لن تشكل خطرًا على أحد، بل ستكون مثالاً للديمقراطية والاستقرار في مجمل منطقة الشرق الأوسط، وعضوًا فعالاً في ترسيخ دعائم الاستقرار في المنطقة». فان الرسائل هنا تحمل قراءة اخرى مشابهة تماما للحالة في شمال العراق وهي اعتراف قادة القوات الكردية التي دخلت المدينة بأنهم استولوا عليها من دون جهد عسكري فعلي. " كان انتصاراً سهلاً». وهذا يعني ان السكان المدنيين، ومعظمهم من العرب السنّة، الذين فروا الى تركيا، انما فعلوا ذلك ليس بسبب المعارك، بل نتيجة التهديدات الكردية هناك . هذا ناهيك عن حجم التقارب والتنسيق بين «وحدات حماية الشعب»، الذراع العسكرية لحزب «الاتحادالديموقراطي» الكردي بقيادة صالح مسلم، مع نظام بشار الأسد ووالده من قبله. مهمة داعش في شمال سوريا كانت فتح الطريق امام القوات الكردية لكن المخطط عبر داعش ضد تركيا كان محاصرة العدالة والتنمية بجملة من السلبيات في الداخل والخارج للتخلص من حركة العصيان والتمرد على " الحليف " الاميركي .
الن تقول القيادات الكردية في سوريا شيئا حول اسباب رفض اعلان موقفها الواضح من النظام في دمشق وإصرارها على تقديم نفسها بالقوة الثالثة المستقلة في المشهد السوري تماما كما حدث في المشهد العراقي ؟البعض من الاقلام الليبرالية التركية المقربة من واشنطن تحذر من اي محاولة تدخل تركي عسكري في سوريا وتقول ان انقرة تدفع ثمن موقفها من تنظيم داعش لكنه ينسى ان يسال اكراد سوريا عما يفعلوه حيال القرى العربية والتركمانية هناك .تفاهم بعض المثقفين الاتراك والعرب المقربين من الادارة الاميركية وسياساتها الاقليمية يحاول تحويل الأنظار نحو الداخل التركي و" التخلص " من هيمنة اردوغان وتفرده . هي ابعد من ان تكون لعبة أميركية للانتقام من " العدالة والتنمية " باسم ان " تركيا الحديثة هي التي أتت بأردوغان وهي التي ستجعله يرحل " .
هل سينتقل مركز القيادة الاقليمية في الملف الكردي من اربيل الى القامشلي ام انه سيذهب مباشرة الى دياربكر بعد الان كما يعد البعض ؟
احتمال انزعاج واشنطن من السياسات التركية والانفتاح الاستراتيجي على روسيا هو الذي نقراه اليوم من قبل بعض الكتاب العرب الذين يتساءلون متى ستطرد واشنطن تركيا من حلف شمال الاطلسي . لماذا تكون تركيا هي من يدفع ثمن قيام الكيان الكردي في سوريا ولا يتساءل هؤلاء عن فقدان سوريا لوحدتها في اطار المشروع الاميركي الذي يستهدف انقرة بدل التمسك بمقولة ان اميركا تريد اسقاط اردوغان على حساب الشعب السوري ؟
عندما تنتهي مهمة داعش تكون الجغرافيا قد تغيرت في المنطقة وبدأنا نقاشات جديدة حول الكيانات والكنتونات التي ستطال الداخل التركي ايضا وربما هم لا يريدون سقوط النظام في دمشق قبل انجاز التفاصيل المهمة في المخطط . ربما صعود بارومتر الائتلاف الحكومي بين حزبي العدالة والحركة القومية حلقة في الرد التركي على هذا المشروع الذي سيكون مقدمة لمفاجآت اخرى إقليمية .
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس