القدس العربي
عاشت المعارضة التركية بأحزابها الثلاثة الفائزة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، وهي حزب الشعب الجمهوري وحزب الحركة القومية وحزب الشعوب الديمقراطي، لأكثر من اثني عشر عاماً، وهي معارضة لرئيس الوزراء التركي السابق السيد رجب أردوغان، الذي أصبح في10 أغسطس 2014 أول رئيس للجمهورية التركية ينتخب من الشعب مباشرة، ولم ينتخب من خلال مجلس البرلمان التركي، كما كان الحال قبل تعديل الدستور عام 2010.
وهذا بلا شك سوف يخلق للرئيس التركي العديد من المتاعب مع المعارضة، التي تتعامل معه بخلفيته الحزبية والفكرية والسياسية، وإن أصبح رئيسا للجمهورية ومنتخبا من كل الشعب التركي، وهو بحسب الدستور رئيس لكل الشعب، وأن ينظر إليه على أنه طرف محايد بين الأحزاب في الحكومة والمعارضة، وليس طرفاً في الانتخابات الأخيرة، كما يحلو لبعض الأحزاب والتحليلات السياسية أن تظهره.
من الإشكاليات المفترضة وربما الواقعة فعلاً، أن المعارضة التركية بأحزابها الثلاثة تنظر إلى رئيس الجمهورية وكأنه رئيس حكومة ورئيس حزب العدالة والتنمية، فهي اعتادت على أردوغان رئيساً للحكومة، ورئيساً للسلطة التنفيذية التي تقوم بمعارضتها في البرلمان، حتى أنها اعتبرت خسارة حزب العدالة والتنمية، ثقله البرلماني، في الانتخابات خسارة لأردوغان وهو خارج حزب العدالة والتنمية، وكأن أردوغان خسر قسماً من حقوقه في رئاسة الجمهورية، مع أن الدستور التركي يفصل بين المنصبين، ولكن أخلاق قادة أحزب المعارضة في التعامل مع أردوغان لا تنفك في التعامل معه بالإرث السابق، فهي ترى أنه لم يتمكن في الانتخابات الأخيرة من تشكيل الحكومة من حزب العدالة والتنمية وحده، وبالتالي فإن منافستها السياسية في تشكيل الحكومة الائتلافية ليست في مقارعة احمد داود اغلو، إذا تم تكليفه بتشكيل الحكومة أو غيره، وإنما مناكفة لأردوغان، وكأن المعارضة التركية اعتادت على أردوغان وهو منافس حزبي لها، وكأنه منافس حكومي أيضاً، أي وكأنها أحزاب معارضة لأردوغان وهو رئيس الجمهورية أيضاً، ولذلك فإن تعاملها مع رئيس الجمهورية قد يخرج عن قوانين التعامل مع رئيس الجمهورية وآدابه، وقد يتم التطاول عليه والاساءة لشخصه بحجة الاختلاف على تشكيل الحكومة الائتلافية، على الرغم من كونه في منصب رئاسة الجمهورية وليس طرفاً في الاختلافات الحزبية.
هذا السلوك غير السليم من المعارضة تشير إليه تصريحات قادة أحزاب المعارضة التركية، فالدعوات التي بدأت قبل أوانها من أجل إعادة محاكمة أربعة وزراء كانوا في حكومة أردوغان في السنوات الماضية، او مطالبة رئيس الجمهورية بتكليف أحزاب المعارضة الثلاثة بتشكيل الحكومة، بحجة انها تمتلك 60٪ من اصوات الناخبين في الانتخابات الأخيرة، كما مطالبة رئيس الحزب الجمهوري كمال كلجدار اغلو، وغيرها دليل على ذلك، متجاهلين ان حزب العدالة والتنمية شارك في هذه الانتخابات، وحاز المرتبة الأولى بين الأحزاب الفائزة، وبفارق كبير بالنسبة إلى غيره من الأحزاب بما فيها حزب الشعب الجمهوري، وبالتالي فلو شكل حزب العدالة والتنمية أي حكومة مع حزب معارض آخر فإنه سوف يشكل حكومة بأكثرية برلمانية، وبدون الحاجة لحزبين كما يتطلب الأمر من كل الأحزاب الباقية الثلاثة، إذا تم استثناء حزب العدالة والتنمية.
إن الفكرة الأساسية في الديمقراطية الحديثة والمعاصرة أن تلعب أحزاب المعارضة التركية اللعبة الديمقراطية كاملة، وليست مجتزأة وبما يخدم مصالحها أو مناكفاتها الحزبية والشخصية، فقد دخلت البرلمان من خلال الديمقراطية الانتخابية، وهي في مرحلة ما بعد الانتخابات، مطالبة ان تلعبها كما كانت قبل الانتخابات، فعلاقة المعارضة هي مع الحزب الحاكم أو مع الحكومة الائتلافية والحزبين الحاكمين، وليس في معارضة رئيس الجمهورية، ورؤيته في إدارة المرحلة الانتقالية لتكليف شخصية تركية بتشكيل الحكومة المقبلة، هذا ما ينص عليه الدستور التركي، ولذلك يطالب الدستور رئيس الجمهورية المنتخب الاستقالة من الحزب السياسي الذي ينتمي إليه، بغض النظر عن هذا الحزب، ولذلك فإن حزب العدالة والتنمية معني في خضم هذا التنافس الملبد بالإرث السابق بين الأحزاب السياسية في السلطة والمعارضة، أن يرسم سياسته المقبلة على قبول نتائج الانتخابات، وعدم التسرع إلى الانتخابات المبكرة، احتراماً للإرادة الشعبية أولاً، وعدم الوثوق بنتائج انتخابات مبكرة ثانياً، قد تستغل من قبل عناصر داخلية أو خارجية عابثة، وهي تسعى لتصوير حزب العدالة والتنمية بانه حزب انفرادي، او بعجزه عن الحكم إلا منفرداً، بدون النظر إلى الأسباب الحقيقية التي تختلقها المعارضة التركية ضده، إضافة إلى ان الانتخابات في غير موعدها تمثل ثقلاً على الدولة والشعب والأحزاب السياسية نفسها، وتعكس صورة غير ايجابية عن الديمقراطية التركية لدول العالم، وبالأخص للاتحاد الأوروبي، الذي تسعى تركيا لدخوله بعضوية كاملة.
من الراجح حتى الآن أن يقوم حزب العدالة والتنمية بتشكيل حكومة ائتلافية، والراجح لدى مقربين من حزب العدالة والتنمية ان تكون الحكومة الائتلافية مع حزب الشعب الجمهوري اولاً، فإذا تعذر ذلك فإن الفرصة الثانية والنهائية أن يكون التحالف مع حزب الحركة القومية، فخيارات مؤيدي حزب العدالة والتنمية لا تذهب إلى التحالف مع حزب الشعوب الديمقراطي، لأسباب ربما أرجحها أن أصوات الأكراد انفسهم كانت من أكبر الأسباب في تراجع نسبة التصويت لحزب العدالة والتنمية، إضافة إلى ان رئيس الحزب صلاح الدين ديمرطاش لم ينفك منذ صدور النتائج من توجيه الإساءات لحزب العدالة والتنمية وزعمائه بطريقة تبعث على الكراهية القومية، بدل تبديدها وإزالتها، وبالأخص بعد الانتخابات البرلمانية ودخول حزب الشعوب الديمقراطي بعدد من النواب يفوق حجمهم الطبيعي ضعفين على أقل تقدير، والأخطر من ذلك عودة حزب العمال الكردستاني إلى الأعمال الإرهابية، وكأنه يريد أن يفرض رؤيته بالتهديدات الارهابية على الأكراد قبل الأتراك، بعد نجاح تأثير التفجيرات التي وقعت في ديار بكر قبل الانتخابات على تصويت الأكراد لصالح حزب الشعوب الديمقراطي.
فإذا كانت خيارات حزب العدالة والتنمية بين حزب الشعب الجمهوري أو حزب الحركة القومية، فإن ذلك يتوقف على الأثمان التي يطالب بها كل حزب، وهو يدرك ان حزب العدالة والتنمية في مكانة ينبغي عليه ان يستجيب لدفع الأثمان، ولعل مشاركة حزب الشعب الجمهوري في الائتلاف الحكومي هو الأرجح، ولكن الحزب يرفع من سقف شروطه بهدف تحقيق أكبر قدر من المكاسب، فمطالبته بتشكيل الحكومة من أحزاب المعارضة فقط واحدة منها، وكذلك المطالبة بتشكيل حكومة ائتلافية مع حزب العدالة والتنمية، ولكن برئاسة رئيس حزب الشعب الجمهوري كلجدار اغلو ، فهي من هذا الباب أيضاً، مما يتطلب مرونة من حزب العدالة والتنمية في التعامل مع هذه المطالب ونسبة مكاسبها المرحلية، وفي كل الأحوال فإن حزب العدالة والتنمية مطالب بأن يجعل الحكومة الائتلافية قادرة على مواصلة مسيرة مشاريعها السابقة اولاً، وغير خاضعة لضغوط القوى الخارجية، وفي مقدمتها الدول التي تسعى لحرف السياسة التركية الخارجية عن أهدافها ثانياً، وفي تحديد موقفها من الكيان الموازي ثالثاً، الذي يتم التعامل معه قانونياً ومن خلال رؤية مجلس الأمن القومي التركي على أنه تنظيم إرهابي.
لقد قدمت الانتخابات البرلمانية الأخيرة صورة رائعة للديمقراطية التركية المعاصرة، وينبغي مواصلة تقديم هذه الصورة الديمقراطية في عملية تشكيل الحكومة الائتلافية، وبحسب الدستور التركي، الذي يجعل رئيس الجمهورية صاحب دور بارز ومهم ومؤثر في إدارة المرحلة الانتقالية، فالمعارضة السياسية ينبغي حصرها بين الأحزاب السياسية المتنافسة، وعدم توجيهها إلى رئيس الجمهورية، لأن ذلك يعرض البلاد إلى زلازل إضافية لا تخدم العملية الديمقراطية، بل قد تكون سلبية أكثر مما تتوقعه احزاب المعارضة التركية نفسها.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس