ياسين أقطاي - الجزيرة
في حملاته الانتخابية لاقتراع يوم الرابع عشر من مايو/ أيار ٢٠٢٣، يجرّب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان طريقة مختلفة للغاية عن طرقه السابقة؛ حيث يعلن في كل تجمع تقريبا عن افتتاح مشروع جديد، وهذه الافتتاحات لا توصل للناخبين رسالة بأن "ما قمنا به في الماضي هو ضمان لما سنفعله في المستقبل"، بل تتجاوز ذلك لتولّد انطباعًا مباشرا بأن المسار الموجود الآن هو طريق لا يمكن لتركيا العودة عنه.
في الواقع؛ لم تكن هذه المشاريع مؤجلة لأغراض الحملة الانتخابية، فقد افتتحت مشاريع كثيرة منذ الانتخابات السابقة، وما أعلن عنه خلال الحملة الانتخابية هي تلك المشاريع التي صادفت وقت الحملة الانتخابية فحسب. ربما نسي البعض تلك المشاريع التي افتتحت خلال الأشهر السابقة، ولكن الإعلان عن افتتاحات جديدة في إطار الحملة الانتخابية يذكرنا بما أنجز من مشاريع سابقة أيضا.
وهنا، لا يمكن فهم من ينتقد استخدام افتتاح المشاريع أو الإعلان عن الإنجازات في ثنايا الحملة الانتخابية، فإذا لم يتم استخدام هذه أو تلك فكيف سيدرك الناخبون ما تم إنجازه وما يمكن أن ينجز، وكيف سيشرح ذلك لهم؟!
هل هي منافسة غير عادلة؟
السؤال إذن: هل تشكل مبادرات وافتتاحات أردوغان للمشاريع منافسة انتخابية غير عادلة؟
قد تشعر المعارضة بأن هذه نقطة ضعف كبيرة لديهم، وعليه يرونها مجالا للمنافسة غير العادلة. الأمر طبيعي للغاية؛ فليس لدى زعيم المعارضة كمال كليجدار أوغلو أي إنجازات مثبتة. بل إذا راجعنا تاريخه، لن نجد إلا إدارة بيروقراطية فاشلة للغاية وعشرات الانتخابات التي خسرها، دون أية سيرة ذاتية يمكن تقديمها. في هذه الحالة؛ تكمن فرصته الوحيدة للتنافس مع أردوغان في اللجوء إلى العدميّة المبهمة التي تخفف من إنجازات ومشروعات الحكومة.
ويمكنه أن يقول، مثلاً، إنه سيجلب "300 مليار دولار نظيفة" للبلاد، ثم يعلن بعد ذلك أن هذه الأموال النظيفة هي في الواقع أموال أباطرة وتجار المخدرات؛ حتى أنه قال في وقت سابق إنه جلب هذا المال بالفعل. وإذا طُرحت أسئلة مثل: كيف جلبها؟ وأين وضعها؟ وكيف أقنع أصحابها؟، ستكون قد وصلت إلى عالم الواقع. وعند هذه النقطة، قد لا يتقبل الناس مثل هذه الأسئلة بسهولة، لذلك لا تسأل عن التفاصيل.
غير أن فم الشعب ليس كيساً يمكن ربطه، فسيوجد من يسأل الأسئلة، وعليك أن توضّح، وكلما قام بالتوضيح، زاد الغموض! لماذا قد يمنحك أباطرة المخدرات والرأسماليون وخاصة المرابون البريطانيون المال؟! وإذا قدموه لك، ماذا ستعطيهم مقابل ذلك؟ مثل هذه الأسئلة تسقط على العقل مثل المطر.
وعود كليجدار أوغلو ليست موجهة للشعب
أحد أقوى عناصر القوة في حملة أردوغان الانتخابية هي سياساته في مجال الصناعات الجوية والفضائية، والتي أقام لها سنويا مهرجان "تكنوفيست" لتكنولوجيا الطيران والفضاء. تعتبر هذه السياسة في الواقع وطنيّة للغاية وتحظى باحترام الجميع، ولا يمكن لمواطن يميني أو يساري أن يعارضها. لكن صاحب هذه السياسة هو أردوغان، ونجاحها يجب بالضرورة أن يُنسب له مثلما هو الحال مع جميع المشروعات الأخرى.
ولو كانت المعارضة أكثر ذكاءً، لاستطاع كليجدار أوغلو تحويل "تكنوفيست" من ورقة رابحة في يد الرئيس أردوغان إلى ورقة رابحة في يده، إذا تبني المشروع بنفسه لكسب أصوات غير متوقعة، لكن السياسة لا تتم دائمًا بالعقل، وربما لدى الرجل منطق آخر دفعه إلى سلوك مختلف؛ إذ تزامنًا مع إقامة المهرجان السنوي في مطار أتاتورك حيث استقبل أكثر من مليون زائر، قدم وعدًا غريبٕاً: "بعد وصولنا إلى السلطة مباشرة، سنحول مطار أتاتورك إلى مركز للطيران والفضاء، وسنطور مكوكاتنا الفضائية، وقد تحدثت بالفعل مع مسؤولي شركة سييرا نيفادا (SNC) في الولايات المتحدة الأمريكية حول هذا الأمر".
مهما كان المنظور الذي ترى منه هذا التصريح، لن يسعك تصحيح ما فيه من انحراف، فكما يقول المثل التركي "إذا رمى مجنون حجرا في بئر فليس بوسع أربعين عاقلا إخراجه"، وهكذا لن تستطيع أن تجد نوايا حسنة تفسر بها الشر.
والانحراف في تصريح كليجدار أوغلو هو أن تركيا بدأت بالفعل عبر "تكنوفيست" في تحقيق نجاحات تتجاوز بكثير ما يعد به، والمنطق يقول أنك إذا أردت أن تنافس ما هو قائم فعليك أن تعد بما هو أكبر منه، ولكن كليجدار أوغلو لا يعرف المستوى الذي حققته تركيا في هذا المجال، وخياله متأخر جدا عن الحقائق.
والجنون أيضا أن يفترض مرشح أنه بسبب وجود مطار في منطقة، فإنه يمكن استخدامه للذهاب إلى الفضاء، ثم أخيرا يظهر الشر في تصريحه هذا وتصريحات أخرى في ذلك الإصرار على أن يسلم للأجانب المهام التي أثبتت تركيا أنها قادرة على إنجازها بمواردها البشرية، وتجاهل الثقة بالنفس التي حققتها تركيا بعد مئة عام من تأسيس الجمهورية ومحاولة قمعها عبر إعادة رفع الوعي الاستعماري الذاتي الذي يعتقد أن الشعب التركي ل يمكنه تحقيق شيء بمفرده.
الحملة الانتخابية لكليجدار أوغلو إذن ليست موجهة للشعب التركي، بل للقوى الأجنبية التي تسعى لاستعمار تركيا، فمن الواضح أن المرشح يتطلع للحصول على تأييد هؤلاء الأجانب، وليس لأصوات الشعب، ويعتقد أن تأييدهم سيجلب له أصواتًا مهمة. فماذا عن حزب الشعوب الديمقراطي؟ وعن تنظيم فتح الله غولن؟ هل من وعد آخر يمكن أن يزيد من حماسهم وأملهم؟ وهل هناك شخص آخر سيسعد بهذا الوعد غيرهم؟
معارضة أردوغان بإنجازات أردوغان!
بعد آخر يثير الانتباه؛ فبعض الوعود "المعقولة" لكليجدار أوغلو ليست في جوهرها إلا وعودا بتحقيق إنجازات "حققها بالفعل" الرئيس أردوغان خلال السنوات العشرين الماضية؛ فعلى سبيل المثال؛ الخروج غير المفهوم لكليجدار أوغلو في فيديو يقول "أنا علوي"، فهل كان يحاول مثلا التعامل مع مشكلة انتمائه المذهبي الذي دفع بعض شركائه للتشكك في قدرته على الفوز وذلك عبر الإعلان عنه بشكل صريح؟ وهل ساهم هذا الإعلان الذي قام به في حل المعضلة أم زادها تعقيدا؟
بغض النظر عن الإجابة، فالمفارقة أنه لولا المبادرات التي كافح من أجلها الرئيس أردوغان على مدى ٢٠ عاما لما كان بوسع كليجدار أوغلو أن يخرج ليقول "أنا علوي". واليوم ليس فقط العلويين، بل الأكراد والأقليات الأخرى أيضًا يستطيعون التعبير عن هوياتهم بحرية، والانخراط في السياسة بموجب هذه الهويات.
وبعبارة أخرى، فما فعله السيد كليجدار أوغلو ليس إلا معارضة لأردوغان باستخدام بطاقات من حقيبة أردوغان نفسه التي تضم إنجازاته، فحقيقة أنه يستطيع القول "إنني علوي" هي قصة نجاح سيتم تسجيلها باسم أردوغان، وليس باسمه. ولكن بالطبع من جانب آخر، فإن هذا الموقف يروي قصة بؤس المعارضة بشكل عام.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس