محمود عثمان - تلفزيون سوريا
ثمة إجماع بين الخبراء على أن الانتخابات التركية، المقرّر إجراؤها يوم الأحد المقبل في 14 مايو/ أيار الجاري، ليست جولة انتخابية عادية، وأنها تُعد من أهم الانتخابات في تاريخ تركيا الحديث، بالنظر لما قد يترتب على نتائجها من تحوّلات استراتيجية، واستحقاقات سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية، وأنها ستشكّل من خلال نتائجها علامة فارقة في التاريخ التركي الراهن، وأنها حاسمة كونها ستعكس قدرة الشعب التركي على هضم التحوّلات التي جرت خلال العقدين الماضيين، وكيفية التعاطي معها، وما هي أولوياته التي ستفصح عنها نتائج هذه الانتخابات المفصلية والحاسمة؟
الاهتمام بالانتخابات التركية لم يكن مقتصراً على الداخل التركي فقط. بل امتدت دائرته لتشمل الساحة الدولية، حيث نشرت صحيفة واشنطن بوست الأميركية تقريراً عنوانه "الانتخابات الأهم في العالم خلال عام 2023 ستكون في تركيا".
**أسباب ودوافع الاهتمام الغربي بالانتخابات التركية
يرتبط اهتمام واشنطن بالسياسة التركية بالاستراتيجية الأميركية الجديدة، التي تم إرساء قواعدها زمن الرئيس أوباما، والتي تقوم على مبدأ التفرغ للمنافس الأكبر المتمثل بالصين، على حساب الانسحاب من مناطق أقل أهمية بالنسبة لواشنطن، كمنطقة الشرق الأوسط، وتحويل إدارة تلك المناطق إلى شركاء إقليميين، وهذا يقتضي حكما أن تكون الحكومات في هذه البلدان، من النوع الذي يتجاوب مع واشنطن، دون شروط مسبقة، ودون المطالبة بأثمان مكلفة.
ولأن تركيا، خلال العقدين الماضيين من حكم العدالة والتنمية، قطعت شوطا كبيراً في مضمار بناء قدراتها الذاتية واستقلال قرارها الوطني، ونجحت في التحرر من مواريث الانقلابات والتدخل العسكري في السياسة، والتخلص من النفوذ الأجنبي في المعادلة السياسية الداخلية، وفي تحقيق انتقال سياسي سلس نحو نظام رئاسي ضمن لها قدراً أكبر من الاستقرار السياسي، قياساً بالنظام البرلماني السابق، الذي كان يفتح المجال واسعاً أمام القوى الداخلية والخارجية للتدخل والعبث في الشؤون السياسية التركية.
من ناحية أخرى، فقد اضطلعت تركيا بملفات إقليمية ودولية، جعلتها في حالة تنافس واشتباك مع العديد من القوى الدولية، على رأسها الحرب الأوكرانية، والقضية السورية، والملف الليبي، والملف الأذربيجاني، والملفات الإفريقية المتعددة والمعقدة.
**انعكاسات التدخل الغربي الفج
في صورة لافتة ومثيرة للدهشة، لم تخف الصحافة الغربية، بمختلف أقطارها ومشاربها وأيديولوجياتها وتوجهاتها السياسية، عداءها المطلق للرئيس رجب طيب أردوغان، لدرجة أن اللوبونت الفرنسية شبهت أردوغان ببوتين، بينما نشرت دير شبيغل الألمانية كاريكاتيراً فيه هلال مكسور وعرش متصدع، ووجه متجهم لأردوغان.. أما صحيفة "ذا إيكونوميست" البريطانية فقد دعت الأتراك صراحة إلى التصويت ضد أردوغان في الانتخابات المقبلة، لأن هزيمته ستكون قيمة جيوسياسية ضخمة للغرب.
في الجهة المقابلة، كان زعيم المعارضة كمال كليتشدار أوغلو يعد في مقابلة مع هيئة الإذاعة العامة البريطانية "بي بي سي" في نفس الوقت بأن تركيا حال فوزه سوف تُعطي الأولوية للغرب وليس لروسيا.
التحولات الاستراتيجية على الساحة الدولية، والدوافع التي حكمت التوجه التركي نحو حلف الناتو، بما يعزز الهوية الغربية لتركيا كمدخل للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، والبحث عن ضمانات للدفاع والأمن، لم تعد إطاراً حاكماً للسياسات الخارجية التركية.
كما أن ازدواجية المعايير الغربية، ومقارباتها السلبية تجاه تركيا، دفعت نحو تشكيل قناعة لدى جزء كبير من الشعب التركي، بأن الشريك الأميركي ليس ثقة، ولا يمكن الاعتماد عليه في الأزمات، خصوصا بعد قرار سحب الباتريوت في ظرف حرج، وتواطؤ حلف "الناتو" مع قادة الانقلاب، وحماية الولايات المتحدة الأميركية لمدبره فتح الله غولن ورفاقه، ورفضها تسليمه لتركيا تمهيداً لمحاكمته.
ثم جاءت الفترة الرئاسية الثانية للرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، لتشكل نقطة اللاعودة في مسار التباعد بين الغرب وتركيا، خصوصاً بعد إصرار واشنطن على دعم الميليشيات الانفصالية الكردية في سوريا، والتي تعتبرها أنقرة تهديداً مباشراً لأمنها الاستراتيجي، والقرار التركي بشراء منظومة S 400 الروسية، إذ رأت واشنطن أن تركيا لا تلتزم بالمعايير الأمنية والاستراتيجية لحلف الناتو.
من جهة أخرى أدت التوجهات الداخلية والخارجية التي كرسها الرئيس أردوغان، من خلال اعتماده استراتيجية التوازن بين القوى الدولية الفاعلة، دون الانحياز لأي منها، إلى قدر من تضارب مع المصالح والتوجهات الاستراتيجية الغربية. بالرغم من المنافع الكبيرة التي تحققت بسبب الانفتاح التركي على جميع أطراف النزاع في أوكرانيا، خصوصاً في مجال الطاقة، وتأمين تصدير الحبوب وغيرها.
وإذا تخطينا الحذر الغربي من انعكاس آثار أي تدخل صارخ في الانتخابات التركية على بعض الملفات الاستراتيجية، كالحرب على الإرهاب، وملف اللجوء، وفاعلية الدور التركي في أوكرانيا، فإن الوقائع الآنفة الذكر تظهر سلبية الموقف الغربي من الرئيس رجب طيب إردوغان.
وإذا ربطنا هذا الموقف بالوثيقة المشتركة المنبثقة عن الطاولة السداسية، التي لا يخرج موقفها من الملفات الحساسة عن إطار مراعاة الغرب، وجعل العلاقة معه في سلم أولوياتها، إضافة إلى إفراد الصحافة الغربية مساحة لتحليل الواقع المتعلق بالعملية الانتخابية مع الإشارة إلى تركيز هجومها على النظام الرئاسي، وانتقاد سياسات الرئيس أردوغان تجاه الغرب، فإن ذلك يظهر أن المعركة الانتخابية التي يخوضها أردوغان لن تكون في مواجهة مرشح المعارضة زعيم حزب "الشعب" الجمهوري كمال كليتشدار أوغلو فقط، وإنما في مواجهة منظومة تجمع بين عدد من الأحزاب التركية المعارضة، وتحالف غربي يريد التخلص من شخص أردوغان، صاحب القدرة الفائقة على توظيف الظروف الإستراتيجية المتاحة، لتحقيق استقلالية قرار تركيا السيادي، بما يضمن مصالحها وأمنها الاستراتيجي.
** الأثمان السياسية لتماسك الطاولة السداسية
لأول مرة في تاريخ تركيا، تجتمع أحزاب المعارضة، من مختلف التوجهات الأيديولوجية والسياسية، حول هدف واحد، هو إسقاط الرئيس أردوغان زعيم حزب العدالة والتنمية الحاكم، وصانع تحولات تركيا الحديثة. لكن سؤالاً يطرح نفسه بقوة، ما هو سر تماسك واستمرار تحالف الشعب، بالرغم من التناقضات البينية، وما هو الثمن السياسي الذي تم دفعه للمحافظة عليه ؟!.
من الواضح أن حجم المنح (الرشى السياسية) التي قدمت للأحزاب الصغيرة حديثة التشكيل، يفوق وزنها السياسي بأضعاف مضاعفة. إذ لا أحد يعلم على وجه التحديد ما هو الثقل السياسي الحقيقي لهذه الأحزاب، أحزاب "التقدم والديمقراطية" و"المستقبل" و"الحزب الديمقراطي" و"حزب السعادة"، التي لا تزيد نسبتها مجتمعة، على اثنين بالمئة من مجموع أصوات الناخبين، بحسب أكثر استطلاعات الرأي تفاؤلاً.
إذا ثمة قوى فوق سياسية، دفعت نحو تشكيل الطاولة السداسية، وتحالف الشعب، وبذلت ولا تزال جهودا كبيرة في سبيل تماسكه. تلك القوى نفسها التي أعادت ميرال أكشنار إلى الطاولة، بعد أن تركتها غاضبة، وفتحت نيرانها على كمال كليتشدار أوغلو، متهمة إياه بالفشل، بسبب إعلان ترشحه للرئاسة.
خلاصة، كثيرون داخلياً وخارجياً، في حالة ترقّب كبير لنتائج هذه الانتخابات، بحكم المكانة التي باتت تحتلها تركيا في المشهد الدولي الراهن، كدولة محورية في كثير من قضايا العالم والمنطقة، بفضل الإنجازات الكبيرة التي حققتها تركيا اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً، بقيادة الرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية، فهل سيمنح الشعب التركي فرصة إضافية لأردوغان حتى يكمل مشواره السياسي، أم يجرب المعارضة التي اتفقت على إسقاط أردوغان، لكنها أجلت/ رحلت كل شيء إلى مستقبل مجهول؟!..
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس