ممدوح الولي - الجزيرة مباشر
الفائز الأكبر بالانتخابات البرلمانية والرئاسية التي جرت بتركيا مؤخرا هو الشعب التركي، حين أقبل بكثافة على التصويت مع احترام أنصار كل طرف للآخر خلال الانتخابات وبعدها، في مشهد حضاري يساهم في تحسين صورة تركيا خارجيا، بما يصب في صالح مناخها الاستثماري المباشر، وكذلك استثمارات الحافظة بالبورصة التركية، ونشاطها السياحي وهي إحدى الدول العشر الكبرى المستقبلة للسياحة بالعالم، كما يساهم في تحسين الخدمات الصحية والتعليمية بها.
وتمتد الآثار الإيجابية لعدم حصول الرئيس التركي على النسبة المقررة للفوز التي نقص عنها بنسبة نصف بالمائة فقط، رغم أن حكومته هي التي تدير العملية الانتخابية، إلى الرد العملي على المزاعم التي رددها الكثير من وسائل الإعلام الغربية عن دكتاتورية أردوغان وتسلطه، وأن فوز المعارضة سيجلب الديمقراطية إلى البلاد.
كما حقق زهوًا للكثيرين بدول العالم الإسلامي حين رأوا تجربة ديمقراطية حقيقية، مثلما شاهدوها في الانتخابات الأمريكية والأوربية، وذكّرهم بنسبة 51.7% التي حصل عليها الرئيس محمد مرسي عام 2012 في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، بعد حصوله على 24.8% في الجولة الأولى بين 13 مرشحا.
كما تعطي جولة الإعادة رسالة عملية للشباب التركي الذي تعرض لحملات إعلامية داخلية وخارجية، تصور له الرئيس التركي على أنه حاكم مستبد يحكم البلاد منذ عشرين عاما ويجب تغييره للتحول الديمقراطي، مستندة إلى الروح المتمردة للشباب ورفضه للواقع، لتجيء الإعادة ليرى الرئيس المتهم بالاستبداد يحترم نتائج الصناديق، التي أسفرت أيضا عن تراجع عدد مقاعد حزبه بالبرلمان عما كان عليه في الانتخابات السابقة.
كذلك تعيد النتائج النظر في مسألة الاعتماد على استطلاعات الرأي التي تركز على المدن الرئيسية، أو على مناطق جغرافية مناصرة لأي من الأحزاب المتنافسة للحصول على نتائج جيدة بالنسبة لحزب معين، تساهم في توجيه الكتلة التي لم تحدد خياراتها، والتي عادة ما تعطي أصواتها لمن لديه فرصة أكبر بالفوز.
وفضلًا عن ذلك فإن الأحزاب المنافسة القوية أكثر إفادة للحزب الحاكم من الأحزاب الضعيفة، لتعرضه من انتقادات تشير إلى أوجه القصور في الأنشطة المختلفة الاقتصادية والاجتماعية، بل إنه يمكن اعتبارها بشكل عملي جهدا بحثيا عمليا إضافيا غير مكلّف، لما يقوم به الحزب الحاكم من بحوث ودراسات واستطلاعات.
وعلى الرغم مما قد يصدر عن المعارضة من المبالغة في النقد أو التجريح والتسفيه، فمن المؤكد أن في مقولاتها ودراساتها ومؤتمراتها وإعلامها قدرا من الوقائع الحقيقية، وحتى لو كانت نسبة تلك الوقائع 20% أو حتى 10% فإنها تعد أمرا جيدا تمكن الاستفادة منه للتطوير والتعديل والتغيير.
وتشير النتائج إلى أهمية أن تصغي الحكومة إلى صوت الشارع الحقيقي، المختلف عما تنقله لها وسائل الإعلام الموالية لها أو الأجهزة الرسمية، والاهتمام أكثر بوسائل التواصل الاجتماعي بعد أن أصبحت لها السيادة مقارنة بوسائل الإعلام التقليدية، على أن يخاطب الشبابَ من الجنسين شبابٌ آخرون يعيشون أحوالهم سواء من ناحية العمل أو التعطل أو الالتزام الأخلاقي أو الانفلات الأخلاقي أو الشريحة الاجتماعية والاقتصادية لأن هذا هو المجتمع الشبابي الحقيقي.
وهو ما يرتبط بسرعة إتاحة المجال للعديد من القيادات الشابة لتولي الملفات المختلفة لاكتساب الخبرة، وملء الفراغ الذي يمكن أن يحدث في حالة تعرض رئيس الحزب لأي أمر عارض، خاصة أن المعارضة قد أعطت الفرصة لأجيال أخرى، مثل عمدتي أنقرة وإسطنبول. وهو ما يعطي صورة إيجابية عنها للشباب التركي، كما يطمئن أنصار حزب الشعب باستمرار المسيرة في حال تخلي كمال كليجدار عن المسؤولية في أي وقت.
والاستفادة من نقاط الضعف التي كشفت عنها العملية الانتخابية، لا تقتصر على مستوى معرفة الأنصار والمعارضين، ولكن الأهم هو معرفة أسباب تلك المواقف وجذورها التاريخية أو حتى المزاجية، ومن ذلك أن الحكومة مهما حققت من مشروعات قومية تفيد الأمة وتعلي من قدرها بين دول العالم، فإن الأولوية لدى المواطن هو ما يعود عليه شخصيا في معيشته اليومية.
وأذكر هنا تجربة عملية عشتها عندما كنت أمينا لصندوق نقابة الصحفيين المصرية أي مسؤولا عن الشق المالي بها، ووضعت لنفسي هدف تحقيق الاستقلال المالي للنقابة، التي تعتمد على الدعم الحكومي بشكل رئيسي، ومن بين عدة وسائل سعيت لتنفيذها، قمنا بفرض رسم جنيهين على بعض الخدمات المالية الإضافية التي تقدمها النقابة مثل عمل فيزا كارد بقيم مالية غير مدفوعة، أو الحصول على قرض مصرفي بفوائد أقل من أسعار السوق ونحو ذلك.
وقابلني صديق صحفي لديه خلفية اقتصادية يشكو من فرض تلك الرسوم، وبدأت في شرح الموقف المالي للنقابة وكبر حجم العجز، وبعد أن فرغت تبين لي أن الصديق لم يكن مصغيا إطلاقا لحديثي، بل قال أنا لا يهمي أن تعالج العجز المالي، ولكن ما يهمني أنني حتى الآن قد دفعت عشرة جنيهات كرسوم -وكان مبلغا له قيمته حينذاك- وتعلمت الدرس، بعدم تكرار فرض رسوم إضافية على الزملاء، لأنهم ينتظرون من أعضاء مجلس النقابة المزيد من المنافع والخدمات وليس فرض الرسوم.
وهكذا كان لمعدلات التضخم المرتفعة التي عاشها المواطن التركي أثرها في التصويت، وهي مرتبطة بانخفاض الليرة وظهور سعر مواز للسعر الرسمي للصرف في بعض الأوقات، والإقبال الشعبي على الذهب للتحوط بما يستهلكه ذلك من دولارات، ببلد به عجز تجاري مزمن بسبب تدني نسب الاكتفاء الذاتي من الطاقة سواء النفط أو الغاز الطبيعي.
وأتصور أن من أهم دروس الذهاب إلى جولة الإعادة بالانتخابات الرئاسية ظهور أهمية الاتصال الشخصي المباشر بين الحزب الحاكم والمواطنين، بصرف النظر عن توجهاتهم لأنه حتى لو يكن الشخص مؤيدا فيمكن تحييده ولو نسبيا، لأن نجاح القرارات الحكومية مرتبط بأن تكون تمثل أولوية لدى الجمهور ومرهون دائما برضا الناس، فعندما تزداد درجة الغضب لدى الناس فإنهم لن يقبلوا القرارات الحكومية ولن يرضوا عنها، حتى ولو كانت تصب في صالحهم، كما يمكنهم تفسيرها بشكل مغلوط لغيرهم.
وربما لو كان هناك موقع إلكتروني لكل مدينة أو لكل قرية يعبر عن قضاياها المحلية، ويعزز الترابط بين سكانها الذين تختلف ثقافتهم وترفيهمم ورياضتهم وأسواقهم عن المدن الأخرى على المستوى الإقليمي والقومي، إلى جانب استيعابها جانبا من نسب البطالة التي ما زالت مرتفعة.
ولعلي لا أبالغ حين أقول إنه حتى لو خسر الرئيس التركي جولة الإعادة، فلا يعد ذلك نهاية العالم بل لهذا الأمر منافعه أيضا، فالمشاكل الاقتصادية كبيرة وستكشف مدى قدرة المعارضة الحقيقية على تنفيذ الحلول العملية لها، وهذا سيصب في مصلحة حزب العدالة والتنمية حينذاك، صحيح أن الدول الغربية ستغدق المعونات والقروض على المعارضة عندما تتولى السلطة، لكن عمق المشاكل الاقتصادية لا تكفي معه المعونات والقروض الخارجية.
وها هو النظام بمصر قد تلقى معونات سخية وقروضا كبيرة، ورغم ذلك فهو يعاني من مأزق اقتصادي كبير حاليا، وها هي وعود عمدة إسطنبول لتحسين أحوالها التي لم يتحقق الكثير منها بعد توليه المنصب شاهدة على ذلك، وفي السياسة لا يوجد فريق منتصر بشكل دائم أو مُخفق بشكل دائم، وصدق الله تعالى {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس