صالحة علام - الجزيرة مباشر
تساءلنا في مقال نُشر على موقع الجزيرة مباشر قبل الاستحقاق الانتخابي في تركيا عن مدى قدرة تحالف الأمة، على الصمود حتى انتهاء مراحل العملية الانتخابية المنتظرة، ويبدو أن ما توقعناه من احتمال تفككه قد أصبح واقعا ملموسا، بعد أن فشلت أحزابه مجتمعة في تحقيق الأغلبية المطلوبة التي تؤهله للسيطرة على البرلمان، وإدارة عملية وضع التشريعات والقوانين الكفيلة بتحقيق رؤيته الخاصة، لتغيير النظام السياسي المعمول به في الدولة من رئاسي إلى برلماني وزاري.
وهو ما أدى إلى حدوث انشقاقات داخلية نتيجة لحجم التباينات الأيدولوجية الموجودة بين أحزاب التحالف، والتي ازدادت حدتها مع انتهاج كل منها خطابا انتخابيا يتعارض في مضمونه مع رؤية الآخرين اتجاه نفس القضايا، الأمر الذي تسبب في ظهور العديد من التصدعات والتشققات في بنائه.
حيث بدأت سلسلة لم تنقطع حتى الآن من الاستقالات التي يُقدِم عليها مؤسسو هذه الأحزاب، وأعضاء هيئاتها العليا، رفضًا للممارسات العنصرية الفجة التي أصبحت علامة مميزة للحملة الانتخابية للتحالف، ولتبني خطاب لا يحمل في مضمونه أي رؤية للمستقبل، أو آلية لإخراج البلاد من أزمتها الاقتصادية، إذ يقتصر الحديث فقط على سعيهم الدؤوب لإعادة اللاجئين، وكأنها المشكلة الوحيدة التي تواجهها تركيا.
وقد ازداد الأمر سوءًا بدخول حزب الشعب الجمهوري بشكل منفرد في تحالف ثنائي مع حزب الشعوب الديمقراطي، الذراع السياسي لحزب العمال الكردستاني الذي يخوض حربا انفصالية ضد الدولة، وبدْء تسرّب عدد من الوعود والتعهدات التي قطعها لهم كليجدار أوغلو حال فوزه بالرئاسة، طمعا في استقطاب قاعدتهم التصويتيه في الانتخابات؛ إذ كشف سري أوندر النائب عن حزب الشعوب الديمقراطي أن من جملة هذه التعهدات حصولهم على الحكم الذاتي، دون توضيح المنطقة التي سيتم فيها تحقيق هذا الوعد.
وهو نفس ما سبق أن صرح به جنكيز شندر الكاتب الصحفي والبرلماني الكردي، إلا أنه حدد أن الحكم الذاتي الذي وعدهم به كليجدار أوغلو سيكون في الشمال السوري كانعكاس للحركة السياسية في سوريا، وتلبية لرغبة الكثير من الأكراد في تركيا الذين يشعرون بأنهم جزء من هذه الحركة.
الكشف عن هذا التعهد من جانب كليجدار أوغلو، إلى جانب وعده بالإفراج عن جميع المعتقلين الأكراد، وعلى رأسهم صلاح الدين دميرطاش رئيس حزب الشعوب الديمقراطي، وعبد الله أوجلان رئيس حزب العمال الكردستاني، أدى إلى حالة من الغضب المتفاقم من جانب القوميين الأتراك ضد حزب الشعب الجمهوري، الذي اتهموه بالخيانة بعد تعاونه مع قتلة أبناء الشعب التركي دون أدنى مراعاة لحق الشهداء ولدمائهم، وهو الاتفاق الذي دفع ثمنه فادحا حزب الجيد القومي، الذي خسر الكثير من قياداته وأعضائه.
وفي محاولة لاسترضاء الغاضبين بدأ كليجدار أوغلو الحديث عن مكافحته للإرهاب، وإعلاء شأن القومية التركية كما كان عليه الحال أيام مصطفى كمال أتاتورك، بل بدأ يرفع يده بعلامة الذئب الرمادي المعروفة لدى القوميين الأتراك.
لم يكتف كليجدار أوغلو بما سببته تصرفاته وتصريحاته المتناقضة من تمزيق لتحالف الأمة، وانهيار بنيانه من الأساس، بل أحجم عن بذل أي جهد في سبيل لم الشمل، والمحافظة على التحالف قائما، وإعادة النظر بموضوعية فيما يقدمه من وعود لناخبيه، وما يقوم به من تحالفات يرفضها شركاؤه.
وعوضا عن ذلك قرر المضي قدما في الطريق الذي اختاره، متجاهلا كافة التحذيرات التي صدرت حتى من داخل بعض قيادات حزبه، فالرجل أصبح مصرًّا على تحقيق الفوز مهما كانت التضحيات التي يمكن أن يقدمها، ومهما خسر من حلفاء أو شركاء خلال هذه الرحلة.
وفي سبيل تحقيق هذا الهدف سارع كليجدار أوغلو إلى عقد اتفاق ثنائي آخر مع حزب النصر المعروف بعنصريته، ورفضه المطلق وجود اللاجئين في تركيا، بل قام بتبني خطاب عنصري أكثر حدة وعدائية ضد الوجود الأجنبي داخل تركيا، مستهدفا العرب والأفارقة عموما، واللاجئين السوريين على وجه الخصوص، رافعا شعار ” سيرحل السوريون… اتخذنا القرار” في دعايته للمرحلة الثانية من الانتخابات الرئاسية.
وذلك في سبيل إرضاء أوميت أوزداغ رئيس حزب النصر، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع حدة العداء والاستنفار بين المواطنين على مختلف طبقاتهم الاجتماعية، وشجعهم على التعرض لكل من هو أجنبي، حتى وصل الأمر إلى الاعتداء على الناس في الشوارع لمجرد الشك في كونهم من أصل سوري أو أفغاني، ولعل حادثة الاعتداء بالضرب على السائح الإسباني وزوجته دليل على مدى عمق الأزمة، وتردي الوضع، الذي أصبح يهدد مستقبل تركيا السياحي.
تحالف كليجدار أوغلو مع أوميت أوزداغ جاء ردًّا على قرار المرشح الرئاسي سنان أوغان، الذي أعلن عقب انتهاء الجولة الأولى من الانتخابات، وحصوله على نسبة 5.2%، دعمه لمرشح تحالف الشعب رجب طيب أردوغان في المرحلة الثانية من الانتخابات الرئاسية، طالبا ممن صوتوا له السير على خطاه، بعد أن فشل تحالف الأمة في إقناعه بدعم مرشحه، خصوصا أن الرجل المعروف بتشدده العلماني القومي حمل في لقاءاته مع المتنافِسَين ثلاثة مبادئ، معلنًا دعمه لمن يتبناها، وهي: محاربة الإرهاب، وتعزيز مؤسسات الدولة واستحداث وزارة للأزمات، ووضع جدول زمني لعملية إعادة اللاجئين.
وهو القرار الذي جاء بمثابة رصاصة رحمة أُطلقت على تحالف الأمة، خصوصا أن ما طرحه أوغان من مبادئ يتنافى مع توجهات التحالف فيما يخص مسألة محاربة الإرهاب تحديدا، لأن هذا يعني تلقائيا خسارته لأصوات حزب الشعوب الديمقراطي الكردي المتهم رسميا بدعم الإرهاب وعناصره.
تبني الخطاب العنصري من جانب كليجدار أوغلو، والترويج له، وضع رئيسي حزبي المستقبل أحمد داود أوغلو، والديمقراطية والتقدم علي باباجان في موقف حرج أمام العديد من مؤسسي الحزبين، خصوصا أولئك الذين ينحدرون من أصول سورية، إلى جانب قاعدتهم الانتخابية ذات التوجه الإسلامي، لتتوالى الاستقالات من الحزبين، ويفقد كل منهما عددا لا يستهان به من الأعضاء، وفي هذا الإطار كتب توهان الماس أحد مؤسسي حزب الديمقراطية والتقدم معبرا عن رفضه لهذا التصعيد ضد اللاجئين في خطاب استقالته: “لست في حاجة إلى جنة تعد ملايين الأبرياء بإلقائهم في الجحيم… أتمنى التوفيق لهؤلاء الذين يرون ألا غضاضة في سلك كافة السبل من أجل الفوز، لكن بعض الطرق ليست عادلة بالنسبة لي”.
واستشعارًا لغرق مركب تحالف الأمة، بدأت عمليات الاستعداد للمرحلة اللاحقة تجري على قدم وساق بين الأحزاب المشاركة فيه، إذ أعلن علي باباجان رئيس حزب الديمقراطية والتقدم استعداده التام للتفاوض مع تحالف الشعب، والتنسيق معهم من أجل إجراء تعديل على بعض مواد الدستور بما يخدم مصالح الدولة التركية، بعد أن اقتنص من الشعب الجمهوري 14 مقعدا برلمانيا بدخوله الانتخابات ضمن قوائمه.
كما يعقد حزبا المستقبل والسعادة اجتماعات مكثفة بهدف التوصل إلى صيغة لعمل كتلة برلمانية إسلامية، بعد أن نال المستقبل 14 مقعدا في البرلمان، ونال السعادة 10 مقاعد، حصلا عليها بعد أن خاضا الانتخابات البرلمانية على قوائم حزب الشعب الجمهوري أيضا.
أما حزب الجيد فقد دعت رئيسته ميرال أكشنار إلى عقد جمعية عمومية لانتخاب هيئة عليا جديدة الشهر المقبل، سيكون من أولى مهامها إعادة النظر في تحالفات الحزب السياسية خلال المرحلة المقبلة.
وذلك في حين ينتظر أعضاء الشعب الجمهوري انتهاء المرحلة الثانية من الانتخابات الرئاسية لتصفية حساباتهم مع رئيسهم الحالي، إذ يتصارع حاليا كل من أكرم إمام أوغلو رئيس بلدية إسطنبول، ومنصور يافاش رئيس بلدية أنقرة، وجنان كفتانجي رئيسة الحزب في إسطنبول على رئاسة الحزب بعد رحيل كمال كليجدار أوغلو.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس