د. سمير صالحة - أساس ميديا
ما دفع إبراهيم كالين للتنازل عن هواياته في الموسيقى والرياضة والكتابة والذهاب نحو غرف العمليات السرّية لجهازالاستخبارات التركية، ليتربّع على عرش هذا الجهاز رئيساً له، قد يكون هو نفسه الذي قاد هاكان فيدان للتضحية بتوصيف "رجل الظلّ" والانتقال إلى الطابق الأهمّ في مبنى الخارجية التركية، وقبول الجلوس في مكتب الوزير السابق مولود شاووش أوغلو، وزيراً لخارجية الدولة.
تفاعل العديد من الشخصيات السياسية ووسائل الإعلام العالمية مع قرار تعيين إبراهيم كالين. فاحتمال حدوث مناقلات وزارية وسياسية واسعة في حال فوز إردوغان وحزبه في الانتخابات كان مطروحاً ويُناقَش منذ أسابيع في الداخل التركي. وقرار تعيين كالين في هذا المنصب خلفاً لفيدان لم يكن مفاجئاً لأحد في تركيا. لأنّ كالين هو المدني الثاني الذي يقع الاختيار عليه للإمساك بخيوط اللعبة في جهاز الاستخبارات التركية منذ عقود.
ليس مألوفاً في منطقتنا تسليم مناصب من هذا النوع لمدنيين في مطلع الخمسينيّات من العمر، كي يتربّعوا على عرش أحد أهمّ الأجهزة الأمنية في الإقليم، خصوصاً أنّه يأتي من خارج السلك ومن أجواء بعيدة عنه، وتحديداً من منصبه كمتحدّث سابق باسم الرئاسة التركية. وفي هذا السياق غرّد على حسابه في تويتر بعد إعلان تعيينه: "نستمرّ في طريقنا، لا توقّف، من أجل بلدي الجميل".
أسلاف الرئيس الجديد
كانت القيادات السياسية والحزبية السابقة في تركيا تختار شخصيات أمنيّة أو عسكرية موثوقاً بها لتأتمنها على أسرار الدولة وملفّاتها الداخلية والخارجية. فما الذي جاء يفعله في عالم الاستخبارات، هذا المتخرّج من قسم التاريخ في كلية الآداب بجامعة إسطنبول، ثمّ الحاصل على ماجستير في الفلسفة الإسلامية من ماليزيا عام 1992، وعلى دكتوراه في الاختصاص نفسه عام 2002 من جامعة جورج واشنطن الأميركية؟ وهل يكفي أن يكون أكاديمياً أو رئيساً لمؤسّسة الأبحاث السياسية والاقتصادية والاجتماعية (سيتا) في أنقرة، وأوّل منسّق لمكتب رئاسة الوزراء للدبلوماسية العامّة، أو مستشاراً في رئاسة الوزراء، أو المتحدّث باسم الرئاسة التركية بعد عام 2012، وهي بداية تعاونه المباشر مع إردوغان، لوصوله بمثل هذه السرعة لموقع بهذه الأهميّة؟
ألا يثير ذلك غضب الحزبيّين القدماء في حزب العدالة والتنمية ويُقلق النخبة البيروقراطية والعسكرية التركية التي اعتادت تعاملاً قائماً منذ عقود فجاء إردوغان وقلب تعاملاتها رأساً على عقب مع مفاجأة هاكان فيدان أوّلاً، ثمّ خطوة إبراهيم كالين ثانياً؟
كاتم أسرار أردوغان
للإنصاف قبل كلّ شيء، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ كالين كاتم أسرار إردوغان والمؤتمن على أهمّ خبايا وخفايا الدولة وملفّات التفاوض مع العواصم والمنظّمات الإقليمية والدولية في قضايا سياسية وأمنيّة بالغة الأهمية في العقد الأخير، حاربته المؤسسات الإعلامية داخل تركيا وخارجها وعانى كثيراً بسببها. فقد أغضب صعوده السريع البعض وأغاظ البعض الآخر وأقلق الكثيرين.
فقد اتُّهم في خلفيّته الفكرية والسياسية ومحيطه المهني وبارتباطه العقائدي بأكثر من طريقة. لكنّه لم يعبأ كثيراً بكلّ ما قيل. واصل ممارسة هواياته الفكرية والفنّية والرياضية، ورأَس جلسات الحوار العاصف بحرّية وليبرالية جعلتاه يغرّد خارج السرب التقليدي المعمول به في حزب العدالة والتنمية وقواعده. الاستخبارات وحدها هي التي أقنعت كالين بالتراجع عن إقامة إحدى الحفلات الفنّية مع نخبة من نجوم العزف والغناء بعد تسلّمه المنصب. بغير ذلك كان مستحيلاً إقناعه لأنّ إردوغان وقف إلى جانبه ولم يتدخّل في خصوصياته ونمط عيشه.
هو ليس دبلوماسياً، لكنّ إردوغان فتح الطريق على وسعها أمامه بعدما عيّنه سفيراً من خارج السلك. وهو ليس من كوادر المؤسّسين لحزب العدالة، لكنّ الرئيس التركي أطلق يده من خلال الوقوف إلى جانبه حتى النهاية.
ما يملكه من سلاح فكري وثقافي وشخصية السياسي المفاوض، إلى جانب معرفته الطرف الآخر الذي يتحدّث إليه بلغته وبالعقلية التي يفهم بها، ربّما تكون أهمّ أسلحته.
أدواره الخفيّة
كان كالين شريكاً لفيدان وشاووش أوغلو على مدار الساعة في المحادثات التي غلبت عليها السرّية. اكتشفنا لاحقاً دوره الفاعل في التهدئة بين أنقرة وموسكو بعد حادثة إسقاط المقاتلة الروسيّة عام 2015، والتعامل التركي الخارجي مع المحاولة الانقلابية في صيف 2016، ثمّ أزمة الخليج بعد عام، والتوتّر التركي السعودي في ملفّ الإعلامي جمال خاشقجي، ولاحقاً التقارب التركي الإسرائيلي وانطلاق المحادثات الاستكشافية بين أنقرة والقاهرة. ثمّ تُوّج ذلك بجهود ووساطات تتعلّق بالحوارات الإقليمية في الملفّ الليبي والمفاوضات الروسية الأوكرانية والمساهمة في إنجاز تفاهم اتفاقية الحبوب الأوكرانية ومرحلة ما بعد الحرب في قره باغ والتوسعة الأطلسية والدبلوماسية المكّوكية مع واشنطن.
أبرز ما ينتظره من ملفّات: الأزمة السورية، التوسعة الأطلسية، العلاقة التركية اليونانية، لكنّ ما سيعمل على إنجازه في القريب العاجل هو القمم مع النظام في دمشق التي يدور الحديث عنها واللقاء الرئاسي التركي المصري وجولة خليجية محتملة لإردوغان في الأسابيع المقبلة. وبين ما ينتظره من ملفّات أيضاً مساعدة إردوغان على رسم خارطة طريق السياسة التركية الجديدة حيال الملف السوري والأزمة القبرصية والعلاقة مع اليونان وموضوع الطاقة والعلاقة مع روسيا وخطط التمدّد التجاري التركي في القوقاز وإنجاز عمليات المصالحة والتطبيع مع العديد من العواصم الغربية والعربية.
رافق كالين الرئيس في معظم جولاته الخارجية. هو الناطق باسم الرئيس شخصياً، وهذا يعني أنّ كلّ كلمة يقولها محسوبة على إردوغان. وربّما كان هذا سبباً إضافياً بين أسباب اختيار إردوغان له متحدّثاً باسم الرئاسة، الذي ينبغي أن تسود لديه في غالب الأحيان لغة الاعتدال والتوازن في التحليل والعرض. ومن بين صفاته أيضاً انفتاحه الفكري على الشرق من دون التفريط بضرورة حماية جسر التواصل مع الغرب، وهو الشعار الاستراتيجي الأوّل بالنسبة لتركيا في سياستها الخارجية الواجب حمايته وتحصينه والالتزام به، وهذا ما فعله كالين.
بدّل إردوغان الكثير من الأسماء في صفوف كتلته البرلمانية وفريق عمله الوزاري وأقرب معاونيه في الرئاسة، لكنّ إبراهيم كالين بين أبرز الذين واصلوا صعودهم في المناصب والمهامّ وسط عاصفة التغيير والتحديث التي أعقبت الانتخابات البرلمانية والرئاسية. إلى أين يصل ذلك؟ القرار يعود له وللرئيس إردوغان أوّلاً وأخيراً.
خلافة أردوغان في 2028؟
هدف كالين مواصلة طريق الصعود السياسي نحو الذروة. لكنّ هدف إردوغان هو لعب ورقة الثنائي فيدان - كالين من أجل الاستعداد لِما بعد عام 2028 وترتيب أولويّات الداخل الحزبي واختيار الفريق الذي سيقود الحزب والسلطة في تركيا بعد انتهاء مدّة رئاسته الدستورية.
المسألة أبعد من أن تكون رغبة إردوغان بإجراء تعديلات في مهامّ وأدوار الدائرة الأقرب المحيطة به منذ سنوات طويلة. هناك من يتحدّث عن ضرورة الاستعداد لأصعب المراحل في تاريخ تركيا السياسي وهي تقف على أبواب المئوية الثانية من عمر الجمهورية التي بناها أتاتورك.
كالين الذي لعب دور "الصندوق الأسود" إلى جانب إردوغان في أهمّ قراراته ومواقفه في ملفّات الداخل والخارج. هو بين 3 أسماء منحهم الرئيس التركي حقّ التحدّث باسمه ونيابة عنه عند الضرورة. كان حاضراً أمام طاولة تأزّم العلاقات التركية مع العديد من العواصم، لكنّه كان حاضراً أيضاً في اجتماعات ضرورة التهدئة والحوار وإعادة الأمور إلى سابق عهدها. آخر مهامّه السياسية والدبلوماسية كانت قيادة هيئة التفاوض التركية مع فنلندا والسويد في موضوع التوسعة الأطلسية.
كالين الذي قال قبل تسلّم مهامّه الجديدة: "مع الأسف نجد صعوبة في إعداد الكوادر التي تخدم مصالح الدولة"، بدّل صورته الموضوعة على صفحته في تويتر. اختار رسماً يتناسب مع منصبه الجديد. لكنّ ما ينتظره هو التحرّك لرفع مستوى جاهزية الجهاز وتفعيل نشاطاته داخل تركيا وخارجها.
فكيف سيفعل ذلك؟
خصوصاً أنّ البعض سيدعوه، وهو الذي كان يتكلّم على مدار الساعة أمام العدسات، إلى أن يكون صامتاً كتوماً بلا "أكشن" وذا معالم وجه جديد يخلو من ابتسامته المعهودة.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس