مروان قبلان - العربي الجديد
ما زالت الحرب الروسية على أوكرانيا تكشف عن جوانب في أوضاع روسيا الداخلية وأحوال نخبها السياسية والأمنية والعسكرية، حجبتها حتى عن أقوى أجهزة المخابرات الغربية، البروباغاندا المتقنة للأوليغاركية التي سيطرت على مفاصل السلطة في روسيا خلال العقود التي تلت انهيار الاتحاد السوفييتي، وبشكل خاص خلال فترة حكم فلاديمير بوتين الممتدّة منذ نحو ربع قرن، فبعد انكشاف الأداء الهزيل للقوات الروسية، وإخفاقاتها على كل المستويات، الاستراتيجية والعملياتية والتكتيكية، وضعف قدراتها الاستخبارية، وسوء تقدير قياداتها السياسية والعسكرية، أماطت حرب أوكرانيا الأسبوع الماضي اللثام عن حقيقة وضع الرئيس بوتين، وصراع مراكز القوى داخل أحد أكثر أنظمة العالم تسلّطا ومركزية.
في أدبيات الثورة والحرب، غالبا ما يؤدّي الفشل أو سوء الأداء على الجبهات الى ارتداداتٍ داخلية قوية تأتي على شكل ثورات، أو انقلابات عسكرية، تتسبّب بها انقساماتٌ وصراعاتٌ بين نخب الحكم وأجهزة السيطرة، تتقاذف المسؤولية عن الفشل. حصل هذا في فرنسا (1789) بعد هزيمتها في حرب السنوات السبع أمام بريطانيا وبروسيا، وفي روسيا نفسها (1917) في ضوء الأداء الضعيف لجيوش القيصر في الحرب العالمية الأولى، وفي سورية ومصر نتيجة الهزيمة في حرب فلسطين (1948)، حيث عرفت الأولى أول انقلابٍ عسكريّ في تاريخها الحديث (1949) وشهدت الثانية إطاحة الجيش الملكية وتأسيس جمهورية يوليو. حصل هذا أيضا في العراق بعد حرب الكويت (1991)، حيث ثار الشيعة والأكراد في شمال البلاد وجنوبها. ما جرى في روسيا، يوم السبت الماضي، لم يخرُج عن هذه القاعدة، التي لها طبعا، كما كل قاعدة، استثناءات، حيث كرّست هزيمة 1967 مثلا نظامي الحكم في سورية ومصر.
منذ تبيّن مقدار الفشل في الحرب الأوكرانية، والذي فاجأ الجميع، بمن فيهم رئيس الأركان الأميركي، مارك ميلي، الذي توقّع أن تسيطر روسيا على كييف خلال 72 ساعة (فيما كانت تقديرات المخابرات الأميركية تفيد بأنها ستسيطر على كل أوكرانيا خلال ثلاثة أسابيع) بدأت تظهر تصدّعات بين القيادات المحيطة بالرئيس بوتين، وكان سلوك مموّل مليشيا "فاغنر"، يفغيني بريغوجين، أبلغ تعبير عنها. حاول الرئيس بوتين إدارة الصراعات بين مراكز القوى المحيطة به بطريقة تحفظ التوازن بينها، خصوصا بين قيادات الجيش والمليشيا التي صنعها بنفسه لتكون أداة السيطرة الرئيسة لروسيا خارج حدودها، لكن تركه الصراع يمضي أبعد مما ينبغي أفقده السيطرة عليه، مهدّدا بإدخال البلاد في حربٍ أهلية.
السهولة التي استولت فيها "فاغنر" على مقرّ القيادة الجنوبية للجيش الروسي في روستوف، وزحفها السريع نحو موسكو، من دون أن تعترضها مقاومة حقيقية، يرجّح وجود تضامن، وربما تنسيق، مع "فاغنر" وبريغوجين داخل أجهزة السلطة الروسية، بما في ذلك داخل القوات المسلحة وأجهزة الأمن. وأشارت حالة الهلع والارتباك التي بدت واضحةً في الساعات الأولى للتمرّد إلى أن بوتين لم يكن يعرف تماما من يقف معه ومن يقف ضدّه في أزمة "فاغنر".
الآن وقد حصل بوتين على فرصة للتفكر، تقف روسيا وسلطته تحديدا أمام أحد سيناريوهين: الأول، أن يستغلّ تمرّد "فاغنر" لإطلاق حملة تصفياتٍ واسعةٍ داخل أجهزة الجيش والأمن تشبه التي قام بها الرئيس التركي، أردوغان، عقب المحاولة الانقلابية الفاشلة في 15 يوليو/ تموز 2016. لكن تجب هنا ملاحظة أن أردوغان نجح في تطهير أجهزة الدولة من المشكوك بولائهم مستفيدا من موجة التعاطف الشعبي الواسع التي أعقبت المحاولة الانقلابية، وكذلك من دعم النخب السياسية له في مسعاه إلى إبعاد الجيش عن السياسة. وعندما قام أردوغان بذلك أيضا، لم تكن تركيا في حالة حرب، ومهدّدة بهزيمة، كما حال روسيا اليوم. هذا يقودُنا إلى السيناريو الثاني، حيث يقرّر بوتين ترك الأمور على حالها في الوقت الحاضر، خوفا من تجرّؤ المشكوك بولائهم عليه، بعد انكشاف ضعفه أمام تمرّد "فاغنر"، ولأن أي تصفياتٍ سريعةٍ قد تضرّ بشدة بالعملية العسكرية في أوكرانيا في وقت تقوم فيه هذه الأخيرة بهجومها الواسع الذي تخطّط له منذ أشهر بمساعدة حلف الناتو. إذا رجح هذا السيناريو، فهذا يعني أن أيام بوتين في السلطة قد لا تكون طويلة، كما كنّا نعتقد قبل 24 يونيو/ حزيران 2023.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس