مروان قبلان - العربي الجديد
منذ اندلاع ثورات الربيع العربي، أواخر العام 2010، أخذت السعودية تتخلى عن نهجها الدبلوماسي الذي يتسم بالهدوء عموماً، وتنحو باتجاه سلوك هجومي، وصل إلى حد تحدي السياسة الأميركية في ملفات إقليمية، أبرزها الموقف من ثورة 25 يناير في مصر.
وشكلت ثورات الربيع العربي، بالنسبة إلى السعودية، تهديداً على مستويين: الأول، باعتبارها تغييراً على شكل ثورةٍ من الأدنى يستهدف أنظمة الحكم. ولدى السعودية، للتذكير، حساسيات قديمة من فكرة الثورة، بعضها موروث من أيام المد القومي العربي، عندما شاهدت الرياض كيف تساقطت عروش من حولها تباعاً، بعد انتقال عدوى ثورة (انقلاب) 23 يوليو/تموز 1952 من مصر إلى العراق (1958) واليمن (1962)، بعد أن زارت الأردن لماماً (1957). لكن المفصل الأهم الذي راكم كل النفور من قضية الثورة لدى السعودية جاء من طهران عام 1979، فاتحاً عليها وعلى المنطقة "بوابتي جهنم" القومية والطائفية.
وعلى الرغم من أن السعودية استنفرت بعد نجاح الثورة التونسية، وردت عليها باستضافة الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، إلا أن استشعار الخطر بدأ فقط مع انتقال المد إلى القاهرة. بالنسبة إلى السعودية التي شكلت لها مصر في سنوات حكم حسني مبارك، خصوصاً منذ الغزو العراقي للكويت عام 1990، حليفها الأقليمي الأهم، فإن ثورة في القاهرة كان يمكن أن تعيد الأمور إلى أيام الحرب الباردة العربية والصراع مع مصر عبد الناصر، في وقت تنشغل فيه الرياض بصراع وجودي مع إيران. من هنا، قررت السعودية دعم مبارك، ثم نظامه، حتى النهاية.
المستوى الآخر الذي كان يثير قلقاً لا يقل أهمية لدى السعودية من ثورات الربيع العربي، هو أن البديل للأنظمة الساقطة، كان، في الغالب، تيارات الإسلام السياسي، وفي مقدمته الإخوان المسلمين. وللسعودية مع هؤلاء قصة حب بدأت في خمسينات القرن العشرين، بسبب معارضتهم نظام عبد الناصر، لكنها انقلبت عدواة بعد وقوف "الإخوان" في صف العراق في أثناء غزو الكويت عام 1990. لكن، ليس هذا الأمر فقط ما جعل الرياض تقرر العمل مع أركان دولة مبارك لإسقاط نظام حكم الإخوان في القاهرة، والوقوف عموماً في وجه طموحاتهم في الوصول إلى الحكم في بلدان الربيع العربي، بل، أيضاً، لأن الإخوان يشكلون تحدياً "للتفسير" السعودي للإسلام (INTERPRETATION)، وبالتبعية قيادتها الإسلامية.
ومن جهة أخرى، يسهم صعود "الإخوان" في تعزيز مواقع النموذج الإسلامي الأكثر نجاحاً في المنطقة، أي تركيا، والتي أخذت بوجود قيادة كارزمية من وزن رجب طيب أردوغان، تتصرف وكأنها زعيمة للتيارات الإسلامية في المنطقة، في ظروف الربيع التي صعّدت بعضها الى السلطة. وقد بدا ذلك واضحاً للسعودية في زيارات أردوغان إلى دول الربيع العربي عام 2012، وخصوصاً مصر، على الرغم من أن نصائحه بشأن علمانية الدولة وغيرها لم ترق حينها كثيراً للإخوان المسلمين.
وهكذا شكل الربيع العربي بالنسبة للسعودية تحدياً أيديولوجياً (ممثلاً بالإخوان وقيادتهم دولة بوزن مصر يمكن أن تزاحم على زعامة العالم الإسلامي) وجيوسياسياً (انتقال مصر من خانة التحالف إلى خانة المنافسة، إذا لم نشأ وصفها بخانة العداء، وإسهام ذلك في تعزيز مواقع تركيا على امتداد الاقليم، في وقت كانت تستميت فيه إيران في الدفاع عن نفوذها في الهلال الخصيب، وتحاول إحكام الخناق على السعودية). تصرفت الرياض على أساس أنها مهددة بوجودها، ووضعت نصب عينيها كسب هذه المعركة. ولكن كيف؟
حرب على الجميع
ما حصل أن السعودية اتبعّت استراتيجية، غريبة بعض الشيء، ابتغت إسقاط خصومها جميعاً دفعة واحدة! ففي وقت كانت تواجه فيه قوى المعسكر الإيراني في شمال الجزيرة العربية وجنوبها (نظامي نوري المالكي وبشار الأسد وميليشيات حزب الله والحوثيين وغيرهم)، دخلت السعودية في مواجهة لا تقل شراسة مع معسكر تركيا والإخوان على امتداد المنطقة. أي أن الرياض كانت تقاتل على جبهتين واسعتين، في آن معاً، وهو أمر بدا محفوفاً بمخاطر شديدة، خصوصاً وأن الثقة بواشنطن كانت في أدنى مستوياتها، بعدما برهن الأميركيون، مرة جديدة، مدى استعدادهم للتخلي عن حلفائهم (مبارك) من جهة، واستماتتهم في سبيل التوصل إلى اتفاق مع إيران، خصمهم الذي بدا أنهم يكنون له احتراماً أكبر، من جهة ثانية.
لكن الحرب التي أعلنتها السعودية على الإخوان، وإن أسهمت في تحجيم النفوذ التركي، بعد نجاح انقلاب الثالث من يوليو/تموز 2013 في مصر، إلا أنه تبين أنها صبت، في نهاية المطاف، في مصلحة إيران. فالضربة التي تلقاها التجمع اليمني للإصلاح (تنظيم الإخوان المسلمين في اليمن) انتهت بسيطرة الحوثيين على مقاليد الحكم في صنعاء، ومن ثم تعزيز مواقع النفوذ الإيراني في جنوب شبه الجزيرة العربية. الأسوأ أن غزلاً لم يلبث أن نشأ بين نظام العسكر وعموم أطراف المعسكر الإيراني، بدافع الخصومة لتيارات الإسلام الحركي، من إخوان وسلفيين وغيرهم.
بذلت السعودية الكثير في سبيل الظفر بمصر، باعتبارها الحليف الذي لا غنى عنه، في ظروف الصراع الإقليمي مع كل من إيران وتركيا، وعلى الرغم من أنها بدت أكثر ارتياحاً بانتهاء حكم الإخوان، إلا أن سقوط اليمن لا بد وأنه أيقظها على محدودية إمكانات مصر في لعب دور الموازن للنفوذ الإيراني في عموم المشرق العربي، خصوصاً بعد سقوط العراق وسورية.
غفلت السعودية، وهي تخوض معركتها ضد الإخوان عن حقيقة أن مصر قد غدت دولة ضعيفة بنيوياً، وأنها قد تكون دفعت ثمناً أكبر بكثير من المردود المتوقع، حال استعادتها حليفاً، وأن مصر من ثم قد تشكل عبئاً أكثر منها سنداً في أي علاقة تحالفية، خصوصاً في ظروف معركة شرسة، طرفها الآخر ليس إلا إيران. هذه الحقيقة بدأت تعيها السعودية مع اقتراب نضوج "صفقة" النووي الإيراني، حيث تستخدم إدارة باراك أوباما في واشنطن حربها على تنظيم الدولة الإسلامية، داعش، أداة رئيسة لبلوغ هذه الصفقة التي ستشكل باباً لإعادة تأهيل إيران على الساحة الدولية، واعادة تكليفها بمهام شرطي المنطقة.
فرص مصر في مواجهة إيران
يجب أن ينصب هم السعودية الأول، الآن، على منع سقوط مصر في دائرة النفوذ الإيراني (الروسي)، وليس في الاعتماد عليها لصد هذا النفوذ. ووفق معادلات القوة السائدة في المنطقة، فإن مواجهة إيران تتطلب إمكانات لا تتوفر لدى مصر. إن النظر إلى مصر من باب كثرتها العددية أمر خادع إلى حد كبير، فعدد السكان الكبير في الحالة المصرية عبء وليس ميزة، وهو نقطة ضعف وليس نقطة قوة.
ووفق المعطيات الراهنة، تبدو فرص مصر في تأدية دور قيادي في المنطقة أقل من أي وقت مضى. وللدلالة على مدى العطب الذي أصاب مصر ودورها، ينبغي أن نقارن التجربة المصرية بالتجربة الإيرانية خلال ال 35 عاماً الماضية. ففي العام الذي قامت فيه الثورة الإيرانية ودخلت معها إيران في ظروف العزلة والحصار (1979) وقعت مصر معاهدة السلام مع إسرائيل، وبدأت تتلقى جرعة مساعدات سنوية أميركية تصل إلى 2.2 مليار دولار.
وفي الوقت الذي يفترض أن مصر وضعت عن كاهلها عبء الصراع مع إسرائيل، وبدأت تقطف ثمار السلام والتنمية، دخلت إيران في حرب الثماني سنوات مع العراق، بتكلفة تقدر بمئات مليارات الدولارات، فضلا عن خسائر بشرية، قدرت بمليون قتيل ومعاق.
وفي الوقت الذي كانت تتعرض فيه إيران لسياسة الاحتواء المزدوج، وتمنع عنها كل وسائل النهوض الاقتصادي والصناعي، كانت مصر تتلقى مساعدات دولية وخليجية، تقدر بمليارات الدولارات مكافأة لها على وقوفها ضد الغزو العراقي للكويت، ومساهمتها في صنع "السلام" عبر الضغط على الفلسطينيين للقبول بالشروط الإسرائيلية، والتزامها منقطع النظير بتنفيذ اتفاقية كامب ديفيد. فماذا كانت النتيجة بعد 35 سنة سلام مصرية، تقابلها 35 سنة حصار إيرانية؟
النتيجة أن مصر ذات ال 90 مليون نسمة حققت ناتجاً إجمالياً قومياً يصل إلى 272 مليار دولار، بحسب أرقام صندوق النقد الدولي لعام 2014، ما يضعها في المرتبة 41 عالمياً بعد الفلبين وتشيلي ونيجيريا، وهي تقترب من اليونان التي تصغرها مساحة وسكاناً 10 مرات، وتعاني فوق ذلك من أزمة اقتصادية طاحنة. فوق ذلك كله، تعاني مصر من ارتفاع معدلات الأمية والبطالة والفقر، وهيمنة الجيش على الاقتصاد الوطني، وتوزيع ريعه جوائز ترضيةعلى ضباطه العاملين والمتقاعدين. يضاف إلى ذلك كله تهاوي نفوذ مصر العربي والإقليمي والإفريقي، وتجرؤ حتى إثيوبيا على تجاهلها في قضايا بناء السدود على النيل.
في المقابل، وصل الناتج الإجمالي القومي لإيران المحاصرة، ذات الثمانين مليون نسمة، بحسب إحصاء 2013، إلى 350 مليار دولار، ما يجعلها في المرتبة الثانية والثلاثين على مستوى العالم. وعلى الرغم من ظروف العزلة والمواجهة مع الغرب، تمكنت إيران من بناء نفوذ يشمل معظم الإقليم الممتد من أفغانستان شرقاً وحتى البحر المتوسط غرباً، وصولاً إلى اليمن والقرن الأفريقي جنوباً. وتفاوض إيران على ملفها النووي كل القوى الكبرى في العالم (5+1).
وهي فوق ذلك كله، تقترب من امتلاك المعرفة (know how) اللازمة لتصنيع سلاح نووي، أي أنها بلغت الدرجة التي تصبح معها مسألة الحصول على السلاح النووي مسألة قرار سياسي. وتعد الجامعات الإيرانية، بمناسبة الحديث عن البحث العلمي هنا، من أفضل الجامعات إنتاجاً في شتى فروع المعرفة. هذه المقارنة تجعل من الصعب تصور تحول مصر إلى دولة إقليمية قادرة على لعب دور موازن للدور الإيراني المتغول، لا بل الأرجح ان مصر ستتحول إلى عبء كبير على عاتق حلفائها، قبل أن تقع، في نهاية المطاف، في دوائر نفوذ إقليمية ودولية أخرى.
فرص تركيا في مواجهة إيران
هنا، تبرز تركيا قطباً اقليمياً وحيداً قادراً على مواجهة إيران، فتركيا التي يبلغ عدد سكانها نحواً من 70 مليون نسمة يفوق ناتجها الإجمالي القومي 830 مليار دولار، وهي تشكل بذلك الاقتصاد ال 17 في العالم، وتحافظ، منذ عقد، على معدل نمو سنوي يتراوح بين 5-6%، ويتجاوز أحيانا 8%، ولديها نظام سياسي مستقر وقاعدة صناعية متطورة وقوة بشرية متعلمة. ولدى الحكومة التركية خطة طموحة للتحول إلى الاقتصاد العاشر في العالم بحلول عام 2023، عندما تحتفل بالذكرى المئوية لإعلان الجمهورية التركية، ما يعني أنها ستتجاوز، في هذه الحالة، كوريا الجنوبية والمكسيك وإسبانيا وأستراليا وحتى كندا.
ويمثل الاقتصاد التركي، بوضعه الحالي ضعفي الاقتصاد الإيراني وثلاثة أضعاف الاقتصاد المصري وأكثر من مجموع الاقتصادين معاً. فوق ذلك، تملك تركيا القاعدة الصناعية الأكثر تطوراً في المنطقة وعموم العالم الإسلامي. ويشكل جيشها ثاني أكبر جيوش حلف الناتو بعد الولايات المتحدة. ومن الناحية الجيوبوليتيكة، تتموضع تركيا بين أوروبا والشرق الأوسط وروسيا، ما يجعلها تتحكم بأقصر الطرق البرية والبحرية بين هذه المناطق الثلاث. نقطة ضعف تركيا الأساسية افتقارها إلى موارد طاقة، لكن هذه المشكلة يمكن التغلب عليها إذا تغيرت التحالفات السياسية في المنطقة، خصوصاً تلك المرتبطة بالصراع على سورية، وتحررت تركيا من الابتزاز الروسي والإيراني في مجال إمدادات النفط والغاز.
فيما يتعلق بالحرب على تنظيم الدولة، تعد تركيا، لأسباب جغرافية وأيديولوجية وعسكرية وسياسية، القوة الإقليمية الوحيدة القادرة على مواجهة "داعش" واحتواء نفوذه، فهي، من جهة، قوة سنية، وتحكمها حكومة إسلامية قدمت نموذجاً ناجحاً في إدارة الحكم والاقتصاد، ولديها القوة العسكرية القادرة على التدخل وإدارة معركة على الأرض في مواجهة تنظيم الدولة. إن معركة ضد داعش لا تتعاون فيها تركيا خاسرة. من هذا المنطلق، وبناء على هذه المعطيات، يتضح لنا لماذا يجب على السعودية أن تنشد علاقات تحالفية وثيقة مع تركيا، حتى لو خسرت مصر.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس