محمود علوش - القدس العربي
أظهرت قمة حلف شمال الأطلسي الناتو في العاصمة الليتوانية فيلنيوس هذا الأسبوع كيف أن الحرب التي يشنها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أوكرانيا منذ ما يقرب من عام ونصف تحصد نتائج عكسية. إذا كان بوتين قد صمم هذه الحرب لقطع الطريق على مساعي انضمام أوكرانيا إلى الناتو والحد من توسع الحلف باتجاه روسيا، فإنها تعمل على نحو متزايد في تعميق العلاقات بين كييف والغرب. كما أتاحت لحلف الناتو إحداث موجة توسع جديدة. تزايدت احتمالات انضمام السويد إلى الحلف بعد الاتفاق الذي أبرمه الرئيس التركي رجب طيب اردوغان ورئيس الوزراء السويدي عشية قمة فيلنيوس. في حال نجح الاتفاق، فإن السويد ستُصبح العضو الثاني والثلاثين في الحلف وستكون ثاني دولة بعد فنلندا تنضم إلى الناتو منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية.
رغم ذلك، فإن الحيوية الكبيرة التي ينشط فيها الحلف منذ الحرب لا تُخفي أنّه لا يزال مُتردداً في قبول أن تكون أوكرانيا عضواَ فيه.
تعهّدات بالمزيد من الدعم
كان الرئيس فولوديمير زيلينسكي، الذي شارك في القمة، يأمل من الغرب تقديم ضمانات أمنية قوية لبلاده والمزيد من الأسلحة وخريطة طريق واضحة للانضمام إلى الناتو، لكنّه بدلاً من ذلك، لم يحصل سوى على تعهّدات بالمزيد من الدعم العسكري لمساعدة أوكرانيا في الدفاع عن نفسها. إنّ أهم شيء تتوقعه كييف من أصدقائها الغربيين وهو عضوية الناتو، لا يزال بعيد المنال على الأرجح. لا ينبغي أن تكون معارضة الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية لضم أوكرانيا إلى الحلف في ظل الحرب أو تقديم جدول زمني واضح لها للانضمام مفاجئة زيلينسكي أو حتى لروسيا. تُدرك إدارة الرئيس جو بايدن بوضوح أن قبول أوكرانيا عضواً في الناتو سيُلزم الحلف بالدفاع عنها عبر المادة الخامسة من معاهدة الدفاع المشترك الخاصة بالحلف، وهو أمر لا يُحبّذه كثيرون في الغرب بمن فيهم الدول التي تُطالب بانخراط أكبر في دعم أوكرانيا، لأنّه قد يؤدي ببساطة إلى إشعال حرب عالمية ثالثة.
من جهة أخرى، بدا أن واشنطن وبعض الدول الغربية لا تزال حريصة على تجنب خطوات من شأنها تعقيد فرص التوصل إلى تسوية سياسية للحرب مثل تقديم جدول زمني واضح لعضوية أوكرانيا في الناتو. وأظهرت مُخرجات قمة فيلنيوس كيف أن الناتو يوازن بين زيادة الضغط على روسيا لدفعها إلى التفكير في مزايا السلام وبين تجنب مخاطر توسيع رقعة الصراع. مع ذلك، تُعمق حسابات الموازنة هذه من الأزمة التي يواجهها الناتو في مُعضلة أوكرانيا. ويبدو زيلينسكي محقاً بإحباطه من عدم دعوة بلاده للانضمام إلى الناتو في قمة فيلنيوس لأن ذلك سيُعطي رسالة واضحة للرئيس فلاديمير بوتين بأن الناتو لا يزال يُفكر بعواقب ضم أوكرانيا له بقدر أكبر من المزايا المحتملة لهذا الضم. وفي الواقع، لقد ساهم الناتو نفسه بصنع هذه المُعضلة على مدى عقدين من الزمن وبالتحديد عندما وعد بضم جورجيا وأوكرانيا في قمة بوخارست في عام 2008. وبدلاً من أن يجعل هذا الوعد أوكرانيا وجورجيا آمنتين من روسيا، فقد أدى إلى نتيجة معاكسة. في نفس العام، ردت روسيا على هذا الوعد بغزو جورجيا وفصل إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية عنها. وبعد ذلك بستة أعوام، ضمت شبه جزيرة القرم الأوكرانية. وجعل تردد الناتو في الوفاء بوعد الضم روسيا تشعر بأنها قادرة على مواجهة عواقب تهديدها لجوارها.
مأزق الناتو في أوكرانيا
لم تكن موسكو لتشن حرباً واسعة على أوكرانيا بعد ثماني سنوات من ضم القرم لولا أنها استمدت جرأتها من مأزق الناتو في أوكرانيا. لأن بوتين اعتقد، وكان مُحقاً في ذلك، أن الناتو لا يملك الجرأة على ضم أوكرانيا، فقد افترض أن عواقب حربه الواسعة على أوكرانيا ستكون محدودة.
وبدا أن الدول الغربية سعت مؤخراً إلى إيجاد بعض المخارج من هذا المأزق. وأعلنت مجموعة الدول السبع الكبرى، التي تضم ستة أعضاء في الناتو واليابان، تقديم ضمانات أمنية مؤقتة لكييف حتى تٌصبح عضواً في الناتو. وقال مسؤولون أمريكيون وأوروبيون إن إطار العمل الأمني الجديد لمجموعة السبع يسعى إلى مساعدة أوكرانيا في بناء جيش يمكنه الدفاع عن نفسه وردع أي هجوم في المستقبل من خلال التزامات أمنية طويلة الأجل من قبل الدول الفردية. حتى وعود الناتو بضم أوكرانيا في نهاية المطاف لا تزال غير مؤكدة. وتعهد بيان قمة فيلنيوس بتوجيه دعوة لأوكرانيا للانضمام إلى الحلف عند استيفاء الشروط، بما في ذلك التغييرات الديمقراطية والقطاع الأمني. ويبدو الحديث عن مثل هذه الشروط ذريعة مناسبة لترك ملف عضوية أوكرانيا مُعلقاً لفترة غير مُحددة. ومع انتهاء قمة فيلنيوس، يتطلع الغربيون إلى كيفية استجابة روسيا لها، لكنّه من غير المُرجّح أن يؤدي التردد الغربي في تقديم جدول زمني واضح لعضوية أوكرانيا في الناتو إلى تغيير حسابات بوتين في الحرب.
الوحدة الغربية في مواجهة روسيا
يتركز الرهان الروسي على ثلاثة أمور: أولاً، إفشال الهجوم المضاد الذي بدأته أوكرانيا قبل فترة ضد القوات الروسية وبدا أنه يسير ببطء شديد ويجد صعوبة في تغيير موازين الصراع لصالح كييف. وكلما طال أمد هذا الهجوم من دون نتائج قوية على الأرض كلما ساعد ذلك بوتين في فرض الواقع الجديد في أوكرانيا على الأرض بعد ضم أربعة أقاليم أوكرانية للاتحاد الروسي. ثانياً، مواصلة قعقعة السيوف النووية مُجدداً من أجل ترهيب الغرب من خلال نشر دفعة من الأسلحة النووية في بيلاروسيا. وثالثاً، تعليق آمال على الانتخابات الرئاسية الأمريكية العام المقبل، والتي في حال أدت إلى عودة الرئيس السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، فإنها ستُشكل على الأرجح انتكاسة كبيرة للوحدة الغربية في مواجهة روسيا. لقد وعد ترامب بالفعل في إنهاء حرب أوكرانيا بفترة قياسية في حال عودته إلى السلطة. ولا يملك ترامب عصا سحرية لإقناع بوتين بإنهاء الحرب، لكنّه سيتمكن من إعادة زرع الشقاق بين دول الناتو وتقليص الانخراط الأمريكي في دعم أوكرانيا على نحو كبير. بالنسبة للرئيس بايدن والحلفاء الغربيين الآخرين، فإن إطالة أمد الصراع حتى فترة الانتخابات الرئاسية الأمريكية دون دفع بوتين إلى الهزيمة أو على الأقل رضوخه لسلام وفق شروط غربية وأوكرانية، ينطوي على الكثير من المخاطر. قد يؤدي رفع وتيرة الدعم العسكري الغربي لأوكرانيا إلى تقوية يد القوات الأوكرانية على الأرض، لكنّ الرهان على هذا الدعم وحده لقلب موازين الصراع بطريقة تؤدي إلى هزيمة روسيا محفوف بالمخاطر.
تركيا وفنلندا والسويد
إن استمرار وتيرة العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا بالطريقة التي تسير بها في الوقت الراهن يُشكل مُشكلة كبيرة لبوتين ويُعمق من مأزقه، لكنّه أيضاً يُعمق من مأزق الغرب كذلك. مع اقتراب فصل الشتاء، من المرجح أن تعود المصاعب الاقتصادية التي تواجه الدول الأوروبية على وجه التحديد خصوصاً على صعيد الطاقة التي تشتد الحاجة إليها للتدفئة وترتفع أسعارها من جديد.
واستطاع الأوروبيون النجاة من اختبار الشتاء الماضي، لكنّ قدرتهم على فعل ذلك مُجدداً في فصل شتاء جديد في ظل الحرب لا تبدو مؤكدة. علاوة على ذلك، فإن العقوبات الصارمة التي فرضها الغرب على روسيا منذ اندلاع الحرب لا تزال عاجزة في دفع الاقتصاد الروسي إلى الانهيار. في ظل ظروف يصعب فيها على كل من روسيا والغرب دفع الصراع حول أوكرانيا إلى الطريق الذي يُريده كل منهما، فإن الحرب ستواصل استنزاف روسيا بالقدر الذي تواصل فيه أيضاً استنزاف الغرب اقتصادياً وعسكرياً. لقد كشفت الحرب نقاط ضعف كبيرة لدى روسيا خصوصاً في قدراتها العسكرية ومدى قوة نظام الرئيس فلاديمير بوتين في الداخل خصوصاً بعد تمرد مجموعة فاغنر. لكنّها كشفت أيضاً أن الغرب لا يزال عاجزاً باستجابته الكبيرة لهذه الحرب في دفع نظام بوتين إلى شفا الهزيمة في أوكرانيا.
على هامش قمة فيلنيوس، كانت الصفقة التي أبرمها الرئيس التركي رجب طيب اردوغان مع رئيس الوزراء السويدي إحدى المفاجآت الكبيرة. وأعطت انطباعين رئيسيين، الأول أن معضلة عضوية السويد في الناتو في طريقها إلى الحل والثاني أن تركيا بدأت انعطافة في سياستها الخارجية نحو الغرب. ولا يزال نجاح هذه الصفقة غير مؤكد بطبيعة الحال ويسوده الكثير من الشكوك. وفي أعقاب انتهاء قمة الناتو، استبعد اردوغان أن يُصادق البرلمان التركي على عضوية السويد قبل شهر تشرين الأول/أكتوبر المقبل، ما يزيد من مخاطر تُفشل الصفقة على غرار المذكرة الثلاثية التي تم إبرامها بين تركيا وفنلندا والسويد في قمة الناتو السابقة في مدريد في حزيران/يونيو الماضي.
وفي العلاقات التركية الغربية المضطربة منذ سنوات، لا توجد أي ضمانة لإمكانية عكس المسار. كما أن الافتراض الغربي السائد بأن محاولة استيعاب طموحات تركيا ومنح اردوغان ما يحتاجه من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على غرار صفقة مقاتلات إف ستة عشر أو تحديث الاتحاد الجمركي بين تركيا والاتحاد الأوروبي وتحرير التأشيرة، سيدفعه إلى التخلي عن العلاقة الوثيقة التي أقامها مع بوتين منذ منتصف العقد الماضي، لا يبدو واقعياً تماماً.
علاوة على أن تركيا من غير المرجح أن تتخلى عن نهج التوازن الذي تتبناه في الحرب الروسية الأوكرانية ولديها مصالح واسعة مع روسيا في مجالات حيوية متعددة من تجارة الطاقة إلى التعاون الجيوسياسي بين البلدين في كثير من المناطق، فإن الخلافات بين أنقرة والغرب لا تزال عند مستويات يصعب فيها الاعتقاد بأنّ مرحلة جديدة يُمكن أن تنشأ ببساطة. مع ذلك، قد تؤدي الصفقة الجديدة ـ في حال نجاحها ـ إلى إعادة تشكيل العلاقات التركية الغربية على نحو مستقر، وهي حاجة حيوية لاردوغان لمعالجة الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها البلاد وإنجاح عملية التوازن الدقيقة بين موسكو والغرب. وسيكون لما يبدو أنه تحول في مسار العلاقات التركية الغربية آثار كبيرة لن تنحصر فقط على الطرفين بل ستمتد لتشمل الجغرافيا السياسية بين روسيا والغرب. وسيعمل ضم السويد للناتو على تأسيس إطار أمني جديد بدأ يظهر بالفعل العام الماضي رداً على الحرب. مع تخلي فنلندا والسويد عن عقود من الحياد وتعميق حلفاء الناتو لتنسيقهم مع كييف بعد شحن دبابات وصواريخ وأسلحة أخرى بقيمة مليارات الدولارات، أصبحت فكرة بوتين عن منطقة عازلة بين روسيا والغرب جزءًا من التاريخ.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!