ترك برس - الجزيرة
محمد السادس، من أواخر سلاطين الدولة العثمانية، ولد سنة 1861م، تولى الحكم عام 1918 وكانت الإمبراطورية تمر بأحلك أوقاتها بعد خسارتها في الحرب العالمية الأولى، واحتلال الحلفاء إسطنبول وسيطرتهم على البحار المحيطة بها، وتقاسمهم الأراضي التابعة للعثمانيين.
وحاول السلطان الحفاظ على علاقة جيدة مع إنجلترا خوفا من خسارة إسطنبول، الأمر الذي انعكس سلبا على علاقته بالكفاح الوطني والحركة القومية، فدخل في صراع مرير مع "القوميين" (الحركة الوطنية الساعية للاستقلال)، أدى إلى تأسيس حكومة ثانية في أنقرة عام 1920، لا تعترف بالحكومة التابعة للسلطان.
وبعد عامين ألغت الحكومة الجديدة السلطنة، وتولت إدارة شؤون الدولة، ودعت إلى محاكمة محمد السادس بتهمة الخيانة، فاضطر لمغادرة البلاد بمساعدة بريطانيا خوفا على حياته، واستقر في مدينة سان ريمو بإيطاليا، وعاش في عوز حتى توفي في 16 مايو/أيار 1926.
ولم يتم تسليم جثمانه من قبل السلطات الإيطالية إلا بعد شهر كامل، حين استطاع الورثة تسديد ديونه، ثم نُقل إلى دمشق حيث دفن في مسجد السليمانية.
المولد والنشأة
ولد وحيد الدين محمد السادس ابن السلطان عبد المجيد في الرابع من يناير/كانون الثاني 1861م في قصر دولمة بهجة بمدينة إسطنبول عاصمة الخلافة العثمانية.
وكان الابن الثامن للسلطان عبد المجيد الأول، وقد نشأ يتيم الوالدين، حيث توفي والده وهو لا يزال رضيعا في الشهر السادس من عمره، ولم يحظ بوقت طويل في رعاية والدته "جوليستو"، إذ فقدها كذلك وهو في الرابعة، فربته زوجة أبيه شيست هانم، وقام على رعايته شقيقه الأكبر السلطان عبد الحميد الثاني، وكان يكبره بـ9 سنوات، فأصبح بمقام والده.
وخلال فترة حكم عبد الحميد الثاني الطويلة، عاش محمد السادس حياة منعزلة في قصر "تشينجل كوي" الذي أهداه له أخوه، وبقي فيه حتى أصبح سلطانا.
وكان صبورا كريما، قليل الحديث سريع الغضب والانفعال، متشائما وكثيرا ما يظهر عابسا وصارما. كما كان غير حاسم في كثير من الأحيان، وكان يقع تحت تأثير حاشيته وخاصة أولئك الذين يثق بهم.
انتمى مثل والده إلى الطائفة النقشبندية من أنصار عمر ضياء الدين الداغستاني، وكان يولي التقاليد الدينية أهمية كبيرة.
تزوّج لأول مرة من أمينة نازك إيدا، التي أنجبت له ابنتين، ثم أُبلغت أنها لن تتمكن من الإنجاب مرة أخرى، فتزوج بعد ذلك 4 زوجات هن شادية مودت وانشراح ونوارة ونعمت نوزاد.
ولم ينجب إلا ولدا واحدا هو أرطغرل محمد، وكان له 3 بنات هن منيرة وفاطمة علوية ورقية صبيحة.
الدراسة والتكوين العلمي
كان محمد السادس ذكيا واسع الاطلاع سريع البديهة، وكان وفقا لعادات القصور العثمانية يتلقى كغيره من الأمراء دروسا خاصة من معلمين مؤهلين، كما تلقى بعض الدروس في مدرسة الفاتح.
وقد تخصص في علم الفقه، فأصبح مؤهلا بما يكفي للتدخل في القضايا الدينية التي تعرض عليه بعد أن اعتلى العرش، وكان يجيد اللغات العربية والفارسية والفرنسية، كما كان شغوفا بالأدب والفن، حيث أصبح خطاطا بارعا، وعازفا على البيانو والقانون، بالإضافة إلى كونه شاعرا يؤلف الأغاني ويلحنها.
وأثناء وجوده في الطائف كتب ولحن العديد من القصائد، وقد تم العثور على 63 منها، تغنَّى في غالبها بالحنين إلى الوطن.
التجربة السياسية
بعد انتحار ولي العهد الأمير يوسف عز الدين أفندي في الأول من فبراير/شباط 1916م، أُعلن محمد السادس رسميا وريثا للعرش العثماني، ومثّل السلطانَ في جنازة الإمبراطور النمساوي المجري عام 1916، وكذلك لبّى دعوة الإمبراطور الألماني بزيارة رسمية في أواخر عام 1917، استمرت نحو 3 أسابيع، رافقه فيها مصطفى كمال أتاتورك مساعدا له.
وعندما توفي السلطان محمد رشاد الخامس في الثالث من يوليو/تموز 1918م تم تنصيب محمد السادس السلطان الـ36 للدولة العثمانية، وكان يُعرف باسم السلطان وحيد الدين، وكان عمره آنذاك 57 عاما.
وبعد أن أدى اليمين أمام مجلس الأمة، أسس منظمة خاصة للموظفين في القصر، وأعلن أنه سيحارب الجوع والغلاء، وأثار مطلبه بإلغاء المحاكم العرفية خارج ساحة المعركة رضى الناس.
ولكن الظروف العامة للدولة لم تكن في صالحه، فقد تسلَّم الحكم وهي في حالة حرب منذ 4 سنوات، وكانت الأنباء القادمة من ساحات المعارك كلها تتحدث عن خسائر وهزائم، فقد خسر العثمانيون فلسطين وسوريا، وكانت الأناضول تحت التهديد.
ثم تلقى السلطان برقية في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 1918م من مصطفى كمال أتاتورك، الذي حصل على لقب المساعد الفخري للسلطان، أخبره فيها أنه لم يبق شيء لفعله سوى السلام.
وأمر السلطان حينئذ باستقالة الحكومة الاتحادية، وكلف مساعده أحمد عزت باشا في 14 أكتوبر/تشرين الأول 1918م بتشكيل حكومة جديدة، وتولى أحمد عزت كذلك وزارة الحرب وضمَّ حسين رؤوف أورباي وعلي فتحي أوكيار من مجموعة أتاتورك إلى مجلس الوزراء.
هدنة الاستسلام "مودروس"
أصبح السلطان في موقف صعب قبل إكمال الشهر الرابع من حكمه، واضطر أن يدفع عواقب حرب لم يختر الدخول فيها، وأن يوافق على هدنة استسلام، وأراد السلطان إحضار صهره فريد باشا لرئاسة لجنة الهدنة، ولكن رئيس الحكومة لم يقبل ذلك.
ووقّع الوفد التركي هدنة "مودروس" برئاسة وزير البحرية رؤوف بك والوفد الإنجليزي برئاسة الأدميرال سوميرست كالثورب، قائد أسطول البحر الأبيض المتوسط البريطاني، في 30 أكتوبر/تشرين الأول 1918م، على ظهر بارجة بريطانية بميناء "مودروس" في جزيرة ليمنوس ببحر إيجة.
وكانت الحكومة جديدة ولم تتسلم الإدارة إلا منذ أسبوعين، وكان همّها الأول والأخير هو إنهاء الحرب المدمِّرة، ولذلك ظهر واضحا أن الوزير أُعطِي صلاحيَّات كبيرة للاستسلام تحت أيّ شرط، وكانت شروط الاستسلام قاسية للغاية، مما أدى إلى شلل الدولة العثمانية بالكامل، ومما تضمنته بنود الهدنة:
سيطرة الحلفاء على مضيقي البوسفور والدردنيل، والسماح لسفنهم فقط بالمرور منها.
تفكيك الجيش العثماني.
السماح للحلفاء باستخدام كافّة الطرق الحديديّة في الدولة.
استسلام القوّات العثمانية في الولايات العربية كلّها (اليمن، العراق، الشام، الحجاز).
من حقّ الحلفاء احتلال أيَّة مواقع إستراتيجية في داخل الدولة العثمانية إذا استجدت ظروف تهدد أمنهم.
إعادة أسرى الحلفاء بدون أيَّة شروط، وإبقاء أسرى العثمانيين تحت تصرف الحلفاء.
من حقّ القوّات الإنجليزية الدخول إلى المناطق الأرمينية في شرق الأناضول لإعادة النظام إليها في حال حدوث اضطرابات.
على الدولة العثمانية أن تمد قوَّات الحلفاء بالفحم، والمؤن الغذائية مجانا.
وكانت هذه اتفاقية مبدئية، لم تُرسّم فيها حدود، ولم تُحدَّد فيها علاقات مستقبلية، ولكنها كانت فقط لإنهاء الحرب، وذلك إلى أن يُعقد مؤتمر كبير لاحقا، لإقرار الوضع النهائي للدولة العثمانية، وعلاقاتها بالأقطار التي كانت تابعة لها قبل انتهاء الحرب، وكانت الاتفاقية مهينة بشكل كبير للدولة العثمانية، وتمت آلياتها بشكل يُسبب الإذلال المتعمَّد.
النفوذ الأجنبي في إسطنبول والأناضول
وفي غضون ذلك فرّ الأعضاء القياديون في "حزب الاتحاد والترقي" من البلاد، وقد كانوا المسؤولين الرئيسيين عن مأساة دخول الدولة العثمانية هذه الحرب المهلكة، بينما كانت مدينة "إسطنبول" تمر بأسوأ أوقاتها منذ فتحها على يد السلطان محمد الفاتح.
ففي 13 نوفمبر/تشرين الثاني 1918م رسا أسطول الحلفاء المكوّن من 60 سفينة على سواحل إسطنبول، وتمت السيطرة على المدينة ثم تقسيمها إلى 3 إدارات تتبع كل منها إلى إحدى دول الحلفاء: بريطانيا وفرنسا وإيطاليا.
وشكّل السلطان حكومة جديدة برئاسة فاروق باشا حصلت على ثقة مجلس النواب، وأدلى السلطان ببيان للصحافة، ذكر فيه أن مسؤولية ما حدث خلال الحرب يقع على حزب الاتحاد والترقي، وأنه سيعمل بكل قوته للحفاظ على الصداقة مع إنجلترا، وكان يخشى أن تضيع إسطنبول وأن تلغى الخلافة والسلطنة، فأراد ضمان صداقة ودعم بريطانيا من خلال اتصالات غير رسمية.
ودخلت الحكومة والبرلمان في صراع بسبب رغبة الحكومة في محاكمة الاتحاديين، وحينئذ تدخّل السلطان وحلَّ البرلمان في 21 ديسمبر/كانون الأول 1918م، مستخدما سلطته وفقا للدستور، وبالمقابل ضغطت بريطانيا وفرنسا على الحكومة لتسليمهما الاتحاديين، مما أدى إلى استقالة رئيس الحكومة توفيق باشا إذ لم يستطع الصمود أمام الضغوطات.
وأجّل السلطان الانتخابات النيابية التي كان من المفترض إجراؤها في غضون 4 أشهر، وذلك لأن البلاد كانت ترزح تحت الاحتلال، وكانت دول الحلفاء تتدخل في كل أعمال الحكومة.
وفي أواخر عام 1918م احتلت القوات البريطانية والفرنسية عدة مدن في جنوب شرق الأناضول، وفيما بعد سلّمت بريطانيا كل المدن التي احتلتها لفرنسا لتصبح منطقة نفوذ فرنسية.
وفي هذا الوقت دعا الحلفاء الحكومة إلى مؤتمر باريس الذي بدأ في 18 يناير/كانون الثاني 1919م، واستمر 6 أشهر كاملة، وكان الحدث الرئيسي الذي يعوّل عليه لتحديد تفاصيل الهدنة، وقرر السلطان حضور المؤتمر بنفسه، ولم يثق بفريد باشا، لذلك ضمّ توفيق باشا إلى الوفد، ولكن الوفد عاد إلى إسطنبول بدون أي نتائج إيجابية.
وكان الوفدان الإيطالي واليوناني قد اختلفا في مؤتمر باريس، حيث كانت الأطماع اليونانية في غرب الأناضول كبيرة، وكانت إيطاليا تُنافس اليونان في هذا الشأن، وانتهى الأمر لصالح اليونان بعد وقوف بريطانيا وفرنسا إلى جانبها، كما دعمت أميركا اليونان، التي بدأت في احتلال إزمير في 15 مايو/أيار 1919م، وفرضته أمرا واقعا على إيطاليا.
ولم يتحمّل الأتراك دخول الجيش اليوناني إلى أراضيهم، وكان ذلك بمثابة القشَّة التي قصمت ظهر البعير، فاندلعت المواجهات، وكانت نذيرا بقيام حركة المقاومة.
وللحد من المواجهات وإخماد الشغب أرسلت الحكومة أتاتورك مفتشا للجيش التاسع، وكانت وظيفته الحفاظ على القانون والنظام الذي اشتكى منه البريطانيون، وشملت سلطته الأناضول بأكملها، وكان لديه سلطة إصدار الأوامر للموظفين المدنيين والإداريين.
الصراع بين السلطان والكماليين
بدأ أتاتورك منذ وصوله إلى سامسون في 19 مايو/أيار 1919م بالدعوة إلى تحرير البلاد من الاستعمار، وعمل على تجميع أنصار التحرير من عامَّة الشعب، كذلك شارك معه جماعة من كبار رجال الدولة، كان أهمُّهم رؤوف بك وزير الشؤون البحرية السابق.
وضمّ أتاتورك مجموعة من رجال الجيش، أبرزهم قائدان عسكريان هما علي فؤاد باشا قائد الفرقة الـ20 المتمركزة في أنقرة، وكاظم كارابيكير قائد الفرقة الـ15 المتمركزة في أرضروم، وكانت أهمية هذين القائدين أنهما انضما إلى الحركة بجنودهما، مما أعطاها قوَّة عسكرية كبيرة.
وأخذت المقاومة المسلحة بالانتشار في أجزاء كبيرة من الأناضول، وضغط البريطانيون على السلطان والحكومة من أجل إعادة مصطفى كمال أتاتورك، واستجاب للضغوطات، واستقال كمال باشا من منصبه، وواصل نشاطه بشكل فردي.
ومع ذلك زاد نشاط حركة التحرير، واشتعلت الروح القومية لدى الأتراك، وتم عقد مؤتمر سيواس الكبير في الفترة بين 4 و11 سبتمبر/أيلول 1919م، وكان الحضور كلُّهم من عرقية تركية.
وأُقرّ في المؤتمر "الهيئة الرسمية المتحدثة باسم الحركة الوطنية التركية"، ووُضِع على رأسها أتاتورك، وكانت تبدو في تشكيلها كأنها الحكومة المستقبلية لتركيا، كما أُصدر "الميثاق الوطني"، وهو عبارة عن الوثيقة التي تحدد المنطلقات المهمة التي ستسعى الحركة إلى تحقيقها.
وفي هذا الميثاق أُعلن بوضوح أن "الدولة التركية" هي التي يعيش عليها الأتراك، وأيضا الأكراد في الأناضول وإسطنبول وتراقيا الشرقية، أما البلاد العربية وتراقيا الغربية وقارص وأرداهان وباطوم، فمصيرها متروك لأهلها، وفقا لاستفتاء يتم إجراؤه، ويمكنها إذا أرادت أن تنفصل عن الدولة التركية أو تتبعها.
وكانت المخابرات البريطانية تنشر أن السلطان وحكومته هم من يقفون وراء المقاومة الوطنية التي نشأت في الأناضول، وطالب البريطانيون بإعلان أتاتورك متمردا، وبعد صراعات طويلة، أصدر رئيس الحكومة قرارا -لم يتم تنفيذه- باعتقال أتاتورك ورؤوف بك وإرسالهما إلى إسطنبول.
ثم أقال السلطان الحكومة وعين علي رضا باشا رئيسا للحكومة الجديدة في الثاني من أكتوبر/تشرين الأول 1919م، واستطاعت الحكومة التواصل مع الثوار، وكرست جهدها للمصالحة بين الأناضول وإسطنبول، وخلال الاجتماعات التي عقدت في أماسيا تم الاتفاق على جميع القضايا، وخاصة الانتخابات البرلمانية، وتم التوقيع على بروتوكول الاتفاق في 22 أكتوبر/تشرين الأول.
وفي الجانب العسكري، كانت القوَّات المسلحة للحركة الوطنية قد بدأت حربها ضد الفرنسيين في مدينة كهرمان مرعش، وحققت أول نصر عسكري لها، حيث انتهت الحرب بسيطرة الثوار على المدينة في 11 فبراير/شباط 1920م.
وفي خضم ذلك؛ افتتح البرلمان في 12 يناير/كانون الثاني 1920، وبعد نحو شهر اعترف بالميثاق الوطني، مما أثار حنق الحلفاء، فاحتلوا إسطنبول في 16 مارس/آذار 1920م.
واستول الحلفاء على عدة مراكز حيوية؛ منها وزارة الحربية ووزارة البحرية، ثم أعلنوا الأحكام العرفية وداهموا البرلمان، واعتقلوا عددا من النواب ونفوهم إلى مالطا، وقطعوا الاتصال بين الأناضول وإسطنبول، واعتقلوا القادة القوميين ثم أرسلوهم إلى المنفى، وضغطوا على السلطان لإعادة فريد باشا رئيسا للحكومة وحلّ البرلمان.
وكان حلّ السلطان لبرلمان إسطنبول قد أعطى شرعية للبرلمان الذي كان يدعو إليه مصطفى كمال أتاتورك في أنقرة بعد احتلال إسطنبول ومداهمة برلمانها، ولم يستطع السلطان احتواء الثورة واستخدامها ضد الإنجليز، وعلى العكس أصدر فرمانا بعصيان أتاتورك، ودفع شيخ الإسلام (مفتي الدولة) إلى إصدار فتوى بأن الجماعات الوطنية في الأناضول هم من البغاة، وأن قتلهم واجب على المسلمين.
ورغم ذلك، تمت الانتخابات التي دعا لها مصطفى كمال، وتأسس مجلس النواب الذي أُطلق عليه اسم "الجمعية الوطنية التركية الكبرى" في 23 أبريل/نيسان 1920، وانتُخب أتاتورك رئيسا، وبعد 5 أيام شكل المجلس الحكومة التركية الأولى، وأعلنت للعالم أجمع أنها الممثل الوحيد لتركيا.
وهكذا أصبحت في تركيا حكومتان: الأولى في إسطنبول برئاسة السلطان، والثانية في أنقرة بقيادة أتاتورك، الذي أصدر السلطان عليه حكما بالإعدام مع جماعة أنصاره من القادة القوميين.
معاهدة سيفر
بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى أجبرت الدولة العثمانية على التوقيع على معاهدة سيفر في العاشر من أغسطس/آب 1920م، وكانت شروط المعاهدة مجحفة ومذلة، ولم يكتفِ الحلفاء بسلخ الولايات العربية عن الدولة العثمانية، ولكن قطّعوا الأناضول وغيرها من المناطق التابعة للدولة العثمانية، ووزعوا مناطق النفوذ بينهم.
كما وضعوا قيودا على الدولة تحول دون سيادتها، فحلوا الجيش العثماني، ومنعوا السلاح الجوي، وحددت البحرية العثمانية بـ7 بارجات و6 طوربيدات فقط بدون سلطة لها على المضايق والموانئ، وفرضت تعويضات على الحكومة، وشكُلت لجان من الحلفاء للتحقيق في جرائم القتل والتهجير بالدولة العثمانية.
وكشفت المعاهدة الضعف الشديد الذي أبداه السلطان والحكومة أمام الإنجليز، مما زعزع ثقة الشعب بهما، كما أشعل الظلم الكبير الذي وقع على الدولة الروح الوطنية عند الأتراك، فاجتمع مجلس النواب الجديد في أنقرة، وأعلنوا رفض المعاهدة جملة وتفصيلا، وأصدروا مرسوما يطالب بمحاكمة السلطان بتهمة خيانة الوطن.
حرب "الاستقلال" التركية
لم يكتفِ مجلس أنقرة بشجب معاهدة سيفر، وإنما اتخذ قرارا بالبدء فيما عُرِف بـ"حرب الاستقلال التركية"، وهي الحرب التي ستكون على 3 جبهات: الأولى ضد أرمينيا في شرق الأناضول، والتي تدعمها فرنسا وبريطانيا، والثانية ضد فرنسا في جنوب الأناضول، والثالثة ضد اليونان في غرب الأناضول وتراقيا الشرقية التي تدعمها بريطانيا.
وأدرك الحلفاء أن تطبيق معاهدة سيفر سيكون صعبا للغاية في ظل الأوضاع شديدة الاضطراب في الأناضول، فطلب من السلطان تشكيل حكومة يمكن أن تتفق مع الأناضول، وعيّن السلطان توفيق باشا رئيسا للحكومة في 21 أكتوبر/تشرين الأول.
وبقيت المحادثات قائمة بين الحكومة والجمعية الوطنية الكبرى بدون الوصول إلى تفاهم، حيث أصرّت الجمعية الوطنية على عدم الاعتراف بحكومة إسطنبول، وأوضح أتاتورك باشا أيضا أن منصب السلطان في الخلافة أصبح شاغرا بقبوله المعاهدة، وفي غضون ذلك، حققت "حركة التحرير" أول انتصار على اليونانيين في "إينونو" في العاشر من يناير/كانون الثاني 1921.
ثم كانت معركة سكاريا في الفترة الممتدة من 23 أغسطس/آب إلى 13 سبتمبر/أيلول 1921م نقطة تحول في مسار الحرب التركية اليونانية، إذ اضطر الجيش اليوناني إلى الانسحاب، وترحيل السكان اليونانيين معه.
وكذلك استطاعت "الحركة الوطنية" تحقيق نجاح جديد في الشهر التالي مباشرة لمعركة سكاريا، وهو عقد معاهدتين مهمَّتين، الأولى مع روسيا، بحضور ممثلين عن جمهوريات أرمينيا وجورجيا، وأذربيجان وفيها رُسِّمت حدود المنطقة الشرقية مع كل من أرمينيا وجورجيا، واستطاعت الحركة توسيع الحدود الشرقية بضم مدينتي قارص وأردهان اللتين لم تكونا داخل حدود تركيا وفقا للميثاق الوطني.
وأما المعاهدة الثانية فكانت مع فرنسا، وفيها أقرَّت فرنسا بتسليم مدن الأناضول الجنوبية: أضنة، ومرعش، وعنتاب، وأورفا، وماردين، ونصيبين، وجزيرة ابن عمر، ووقف أي أعمال عدائية بين الطرفين، وكانت المعاهدة نصرا مهما "للحركة الوطنية".
وعلى الجبهة اليونانية، واصل القوميون نضالهم فاستطاعوا استعادة أَفْيُون وإسكي شهير وأيدن ومانيسا وإزمير وبورصة على التوالي، وبحلول 15 سبتمبر/أيلول 1922م كان الجيش اليوناني قد خرج بالكامل من الأناضول.
وفي 11 أكتوبر/تشرين الأول 1922م استطاعت "الحركة الوطنية" تحقيق إنجاز من خلال معاهدة "مودانيا" وقعتها مع بريطانيا وفرنسا وإيطاليا واليونان، حيث تم إجبار اليونان على الانسحاب من تراقيا الشرقية.
إلغاء السلطنة
عززت هذه الانتصارات القومية التركية، ومكنت للجمعية الوطنية، واكتسبت حكومتها ثقة الشارع التركي، على حساب السلطان والحكومة التابعة له، ما شجع الجمعية الوطنية على إرسال رفعت باشا مندوبا عنها إلى السلطان، يطالبه بحل الحكومة والاعتراف الرسمي بالجمعية الوطنية، الأمر الذي رفضه السلطان.
وكان الخوف من خسارة إسطنبول قد منع السلطان من إقامة علاقات وثيقة مع "الحركة الوطنية"، واعتبر استيلاء الجمعية الوطنية في أنقرة على إدارة البلاد تمردا ضده، وكان يرى أنه قد أرسل أتاتورك إلى الأناضول بنفسه، ولكنه تمرّد عليه علانية.
ولمّا دعت دول الحلفاء إلى مؤتمر لوزان للسلام كلا من حكومة إسطنبول والجمعية الوطنية التركية الكبرى، قررت حكومة إسطنبول المشاركة، وعندئذ سَنَّت الجمعية الوطنية قانونا ينص على فصل الخلافة عن السلطنة في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 1922م، فأُلغيت السلطنة وأُبقي على الخلافة منصبا دينيا لا علاقة له بالحكم.
وقررت الجمعية الوطنية محاكمة السلطان، وأخذت الصحف تنشر أخبارا عن خيانته، وأنه تخلى عن عرشه وهرب، واستقال توفيق باشا من منصبه رئيسا للحكومة، لذلك اتهمه السلطان فيما بعد بأنه رجل أتاتورك، وأنه تركه وحيدا في أصعب أيامه.
ورفض السلطان القرار، وأعلن أنه لا يمكن أن تكون هنالك خلافة بلا سلطة، وشعر أنه تُرك وحده يواجه مصيره، وكان لأول مرة بعد إلغاء السلطنة يحضر خطبة الجمعة ولا يُذكر فيها اسم السلطان، فقرر أن يغادر إسطنبول، وأرسل إلى البريطانيين يخبرهم بأن حياته مهددة، وأنه يطلب حمايتهم.
السلطان في المنفى
غادر محمد السادس إسطنبول صباح الجمعة 17 نوفمبر/تشرين الثاني 1922م من قصر يلدز على متن السفينة البريطانية "مالايا" إلى مالطا، ولم يحمل معه سوى أمتعته الشخصية، ورفض عرض زكي بيك بأخذ آثار الخلافة المقدسة، قائلا إنها هدايا أجداده للأمة التركية.
وعقب مغادرته إسطنبول بيومين مع ابنه الصغير أرطغرل و10 أفراد مقربين من حاشيته، تم تعيين عبد المجيد أفندي خليفة، واتهم الخليفة محمد السادس "بخيانة وطنه وتلطيخ شرف السلالة العثمانية".
لم يرغب محمد السادس في الاستقرار في مالطا، وطلب نقله إلى قبرص أو حيفا، ولكن السلطات البريطانية لم توافق، ثم بدعوة من الشريف حسين، الذي كان قد تمرد على الإمبراطورية العثمانية، ذهب محمد السادس إلى مكة في 15 يناير/كانون الثاني 1923م، حيث أقام فيها ما يقارب شهرا ونصف الشهر، ثم انتقل إلى مدينة الطائف، لكنه لم يرغب بالاستقرار في الحجاز، فطالب بالذهاب إلى فلسطين فلم تقبل بريطانيا، وكذلك رفضت عرضه بالذهاب إلى قبرص، ولم تستطع إرساله إلى سويسرا حيث كان مؤتمر لوزان لا يزال مستمرا.
وأخيرا أرسل إلى إيطاليا، حيث استقبلته الحكومة الإيطالية بحفل غير رسمي في ميناء جنوة في الثاني من مايو/أيار 1923م، ثم استقر في مدينة سان ريمو وعاش في فيلا مستأجرة بمساعدة مالية من أمير من العائلة المالكة المصرية.
وعاش السلطان المعزول وحيدا 16 شهرا، ولم يكن معه من عائلته سوى الأمير محمد أرطغرل، إلى حين إلغاء الخلافة في الثالث من مارس/آذار 1924م، ومصادرة ممتلكات الأسرة العثمانية ونفي جميع أفرادها، عندئذ تمكن من لمّ شمل عائلته، وشكل "إسطنبول صغيرة" في المنفى.
ولكن محمد السادس كان قد استنفد جميع مدخراته، التي كانت في الأساس غير كافية، فقد غادر إسطنبول ومعه 20 ألف جنيه إسترليني، ولم تعله سوى 3 سنين.
ومع وصول عائلته اضطر لبيع جميع ممتلكاته، حتى إنه اضطر لعرض شارة السلطنة الذهبية للبيع، لكنه اكتشف أنها مزورة، لذلك طلب محمد السادس توكيلا رسميا من أفراد الأسرة العثمانية ليعمل على استعادة ممتلكات الأسرة خارج تركيا.
وفي 13 مايو/أيار 1926 قررت مصر عقد مؤتمر للتباحث بشأن الخلافة، فأرسل رسالة إلى رئيس اتحاد العلماء المصريين، يبلغه فيها أنه لم يتنازل عن حقه في الخلافة، كما كتب رسالة أخرى إلى شيخ الأزهر، يطلب استقباله خليفة في إحدى الدول الإسلامية.
وكذلك بعث ببيان إلى مؤتمر الخلافة محتجا على الاستعدادات، وذكر أنه لم يتنازل عن حقوقه في السلطنة والخلافة، ولكنه لم يحظ بفرصة متابعة ما تمخض عنه المؤتمر، حيث توفي أثناء انعقاده.
وفاته
توفي السلطان محمد السادس نتيجة نوبة قلبية في 16 مايو/أيار 1926، في مدينة سان ريمو، وكان مدينا بـ200 ألف فرنك لأصحاب المتاجر، فأغلق ضباط المصادرة الجثة المحنطة في غرفة مع جميع المتعلقات التي عثروا عليه، ولم يسمح الإيطاليون بالدفن حتى تم سداد الديون بالكامل.
وبعد شهر سلّمت الجثة بعدما باعت ابنته صبيحة مجوهراتها وسددت الدين، ونقلت جثة السلطان على متن سفينة إلى بيروت بإشراف الأمير عمر فاروق أفندي، ومن هناك إلى دمشق، حيث أقيمت له جنازة بحضور الرئيس السوري أحمد نامي بيك، ودفن في الثالث من يوليو/تموز 1926م في مسجد السليمانية بدمشق.
وكان محمد السادس قد دوَّن مذكراته في الأيام الأخيرة من حياته خلال استقراره في سان ريمو، ولكنه لم يكملها، وتم نشرها عام 1998 بعد 72 عاما من وفاته.
وكان النص بمثابة تعليق على الأحداث وليس مذكرات مفصلة، دافع فيها عن نفسه ورد على وصمه بالخيانة، وبيّن الظروف التي أحاطت بمجريات الأحداث في فترة حكمه.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!