د. سمير صالحة - تلفزيون سوريا
كلما زاد التوتر بين أنقرة وموسكو، فرح النظام في دمشق أكثر. هو لا يفعل ذلك باسمه وحده، بل باسم طهران أيضا. وكلما زاد التصعيد على جبهات القرم وفي البحر الأسود وجدت تركيا صعوبة في مواصلة سياستها الانفتاحية المتوازنة حيال كييف وموسكو أولا، وحيال الغرب وموسكو ثانيا. هذا ما يريده البعض في أكثر من مكان.
فرح بشار الأسد لتركيبة الطاولة الرباعية التي أجلسته جنبا إلى جنب مع القيادات التركية. كان يراهن على ضغوطات روسية إيرانية تدفع أنقرة لتقديم تنازلات طالما أنها تريد الخروج من "الورطة" السورية. لكن أردوغان اختار التريث وسماع ما ستقوله واشنطن قبل أن يحسم موقفه ويذهب إلى قمة التحول الكبير في سياسة تركيا السورية من خلال اللقاء ببشار الأسد. أقدم الرئيس التركي على أكثر من خطوة انفتاحية على الغرب في التوسعة الأطلسية أولا، وتسليم الضباط الأوكرانيين المتواجدين في تركيا في إطار تفاهمات مع موسكو ودون تردد للرئيس زيلينسكي خلال زيارته لأنقرة ثانيا، وصعد مع موسكو في موضوع حوض البحر الأسود والمضائق التركية وهو يعرف حاجته للتنسيق مع موسكو في هذه البقعة المائية ثالثا.
"ارحل ارحل يا بشار" من السويداء والساحل السوري. ثم اشتعال جبهات دير الزور بين قسد والعشائر العربية. هل هذا ما كان يراهن عليه وينتظره أردوغان بعد خروجه منتصرا في الانتخابات وتوجهه إلى قمة الناتو؟ هل كان يريد سماع الجديد من إدارة الرئيس جو بايدن والقيادات الأوروبية حول المقايضات والصفقات الإقليمية والمسار الجديد في الملف السوري، المصحوب باحتمال حصول تفاهمات تركية أميركية حول شرق الفرات وتوسيع مساحة المنطقة الآمنة لتشمل حلب، مما يستدعي التروي وعدم التسرع في منح موسكو ما تريده في سوريا؟
بعد أيام فقط على نفي كبير مستشاري الرئاسة التركية عاكف تشاغطاي قيليش، فتور العلاقات بين أنقرة وموسكو، وإعلانه أن المباحثات مستمرة حول موعد زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى تركيا، أعلن المتحدث باسم حزب العدالة والتنمية عمر شليك أن أردوغان سيتوجه قريبا إلى سوتشي لمقابلة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وتابع يقول هناك احتمال حدوث تطورات جديدة في موضوع اتفاقيات نقل الحبوب الموقعة بين أوكرانيا وروسيا برعاية تركية أممية.
يريد أردوغان أن يسجل اختراقا ما قبل توجهه إلى قمة العشرين في الهند وبعدها إلى نيويورك للمشاركة في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة وقبل أن يتحدث إلى المجتمع الدولي من منصة المنظمة الدولية ويلتقي القيادات هناك. لكنه يحتاج إلى دعم وضوء أخضر روسي. ذهابه هو إلى سوتشي للقاء بوتين الذي تراجع عن الحضور إلى أنقرة يصب في هذا الاتجاه.
توجه وزير الخارجية التركي هاكان فيدان على الفور إلى كييف للقاء الرئيس الأوكراني زيلينسكي وهو ينهي زيارته للعراق دون التعريج على أنقرة. كان مستعجلا لنقل رسالة أردوغان المصحوبة بموقف روسي جديد كما يبدو. ففيدان هو الذي بحث مع نظيره الأميركي بلينكن شيئا ما دفعه للترديد من العاصمة الأوكرانية أن تركيا تتحرك اليوم على جبهتين: إعادة تفعيل اتفاقية الحبوب وإقناع طرفي النزاع في القرم بالعودة إلى طاولة الحوار السياسي.
بين أولويات أردوغان إقناع بوتين أن ملف الحبوب والحرب في القرم باتا متداخلين ومتشابكين. وأن الخطورة هي في اتساع رقعة الحرب وانتقالها بشكل متدرج إلى حوض البحر الأسود. وأن ما يريده البعض هو المواجهة التركية الروسية المباشرة التي نجحت في تبني سياسة الخط الهاتفي المفتوح بين القيادات في الجانبين. وأن تفريط أي جانب بالجانب الآخر لن يخدم مصالحهما السياسية والأمنية والاقتصادية. وإقناع روسيا أن سياستها السورية ومصالحها هناك لن تتعارض مع مسألة التغيير وتسهيل المرحلة الانتقالية السياسية والدستورية بعد الحراك الشعبي الجديد في الجنوب ومناطق الساحل السوري.
ما سيقوي الموقف التركي أو يعرقله هو واشنطن أولا وأخيرا. بقدر ما على أردوغان بذل الكثير من الجهد لإقناع بوتين، عليه أن يبذل جهدا مضاعفا لإقناع بايدن أيضا. فهل تطلق واشنطن يد أنقرة باتجاه إنجاز تحرك سياسي دبلوماسي جديد على خط كييف – موسكو وربما على خط أنقرة – موسكو في سوريا؟
كانت أنقرة تمني النفس بزيارة ثامنة لبوتين خلال 9 سنوات، لكنه لم يحضر. هو لن يبدل رأيه في آخر لحظة لأن المسؤولين الأتراك أعلنوا أن أردوغان هو من سيذهب إلى سوتشي. ليس مهما بالنسبة لأردوغان من يأكل العنب المهم بالنسبة له هو التوقف عن ضرب الناطور.
انسحاب موسكو من اتفاقية الحبوب في منتصف تموز المنصرم لم يكن مناورة أو محاولة الضغط على الغرب لمنحها ما تريد. بل محاولة إسقاط ورقة الحبوب من يد أنقرة نفسها بعد الخدمات المفاجئة التي قدمتها لأوكرانيا والغرب، وطالما أن بوتين تراجع في السابق مرتين عن قرار تجميد المشاركة في اتفاقيات الحبوب بسبب إصرار أردوغان على منحه المزيد من الوقت لإقناع واشنطن بتسهيل تنفيذ الشق المتعلق بروسيا في الصفقة لكن دون نتيجة.
يقول وزير الخارجية الأوكراني ديمترو كوليبا إن أردوغان هو الوحيد القادر على إقناع بوتين بالعودة إلى اتفاقية الحبوب. أردوغان لن يفعل ذلك بالمجان يريد تنازلات واضحة محددة لصالح موسكو كما تعهدت بنود اتفاقية آذار 2022 في إسطنبول، والهدف هنا هو حماية مصالح تركيا من خلال ذلك.
توجهت الأنظار أكثر من مرة نحو القمة التركية الروسية المتوقعة في أنقرة لكنها لم تعقد. الرهان هو على سوتشي هذه المرة لتنجح في جمع أردوغان وبوتين بعد أسابيع طويلة من التريث والانتظار. كل جانب عنده ما يقوله وسيكون مختلفا عما قيل في السابق. فهناك الكثير من التحولات والمستجدات على أكثر من جبهة تعني البلدين، بينها إعلان أنقرة أنه تم تنبيه موسكو بالطريقة الدبلوماسية لحادثة إيقاف السفينة التركية شكري أوكان في مياه البحر الأسود وتفتيشها.
على جدول أعمال موسكو الموقف السياسي والعسكري المعلن في 18 تموز المنصرم وبعد قرار الانسحاب من اتفاقية الحبوب والذي يحول كل السفن التي تدخل وتغادر الموانئ الأوكرانية إلى أهداف مستباحة في حوض البحر الأسود لأنها تهدد الأمن القومي الروسي. الرسائل هي لأوكرانيا في العلن لكنها بشكل غير مباشر تعني أنقرة أيضا. لذلك هناك قلق تركي متزايد من اتساع رقعة المعارك وانتقالها إلى هذا البحر الذي تشكل المضائق التركية منفذه البحري الوحيد. هناك بالمقابل قلق تركي حول مصير السفن التجارية التركية المحاصرة أمام الموانئ الأوكرانية مع طواقمها منذ أسابيع.
كلا الرئيسين التركي والروسي براغماتي وعملي ومفاوض حتى النهاية. احتمال تفاهمهما كبير جدا كما حدث في السابق. من يتنازل أو يتراجع مهم طبعا لكن الأهم هو كيف ستكون ارتدادات ذلك في واشنطن. لم تحصل أنقرة على ما تريده من الإدارة الأميركية في سوريا والقوقاز والبحر الأسود وشرق المتوسط. بحثت عن البديل عند الجانب الروسي فوجدته هناك فموسكو تواصل رسائل الغزل باتجاه أنقرة وتذكرها بين الحين والآخر بعرض تحويل الأراضي التركية إلى مركز تخزين وعبور للطاقة في المنطقة. تحاول واشنطن بالمقابل وبشكل جاد هذه المرة تلافي الأخطاء وتقديم العروض بهدف إبعاد أنقرة عن موسكو. هذا ما تعرفه تركيا وروسيا أيضا. فمن الذي سيسبق الآخر في تسجيل اختراق سياسي واقتصادي استراتيجي البعد يرضي الأتراك؟
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس