
ترك برس
تناول مقال تحليلي للكاتب والإعلامي التركي توران قشلاقجي، الأبعاد التاريخية والجيوسياسية لأربعة خطوط حدودية مرسومة في جنوب آسيا هي؛ خط مكماهون، وخط المراقبة، وخط السيطرة الفعلية، وخط ديورند.
ويسلط قشلاقجي في مقاله بصحيفة القدس العربي الضوء على كيفية تحول هذه الحدود المصطنعة من أدوات للتقسيم الاستعماري إلى مراكز دائمة للتوتر والصراع بين الهند وباكستان، وكذلك بين الهند والصين.
ويشرح كيف أن هذه الخطوط لا تُحدد فقط الجغرافيا، بل تُقيد السيادة، وتُؤثر في الهويات الوطنية، وتُهدد الأمن الإقليمي، محذراً من أن تجاوز هذه الحدود لا يكون بإعادة رسمها فقط، بل بتحرير السياسات والعقليات من إرثها الثقيل.
وفيما يلي نص التقرير:
لا يخفى على أحد أن حدود الدول الحديثة غالبا ما رُسمت بقلم السياسة، وليس الجغرافيا. وفي هذا الصدد، تخوض الهند وباكستان في جنوب آسيا، التي تشهد واحدة من أعمق التوترات الجيوسياسية في العالم الحديث، صراعاً من أجل الوجود تحت ظل هذه الحدود المصطنعة. عند تحديد التوجهات الاستراتيجية والسياسات الأمنية، يبدو أن كلا البلدين أسيران للخطوط الأربعة التالية؛ خط مكماهون، وخط المراقبة، وخط السيطرة الفعلية، وخط ديورند. هذه الخطوط ليست حدودا مادية فحسب، بل هي أيضا انعكاسات ملموسة للصراعات التاريخية والمآزق السياسية وأزمات السيادة.
وقد تشكلت «هذه الجغرافيا المقسمة بالخطوط» بفعل الإملاءات التي خلفتها الإمبراطورية البريطانية، حيث تحولت هذه الخريطة الهشة الممتدة من خط مكماهون إلى خط ديورند، إلى أحد أعتى العقبات أمام السلام والاستقرار في آسيا اليوم. والصراعات التي تتطور وراء هذه الحدود لا تُشكِّل فقط الأمن القومي للهند وباكستان، بل تُؤثر أيضا على البنية الأمنية للصين، وهكذا، يتكشف «ما وراء الخط الفعلي» مواجهة جيوسياسية كبرى تربط بين ثلاث قوى نووية.
كلّ واحدٍ من هذه الخطوط المصطنعة المرسومة بين الهند وباكستان اليوم هو، إما إرث من إمبراطورية استعمارية، أو أثر هشّ خلَّفته حرب ما. لكن هذه الحدود لم تمزِّق الخرائط فحسب، بل جرحت بعمقٍ الذاكرة الجمعية للشعوب، والهويات الوطنية، وأنظمة الأمن الإقليمي. إن الاستقلال الاستراتيجي الحقيقي لا يتحقق إلا بتجاوز هذه الخطوط، ليس على المستوى الجغرافي فحسب، بل على المستوى الذهني والسياسي أيضا. والآن، دعونا نتعرف بإيجاز على هذه الحدود، التي تبدو في جنوب آسيا وكأنها «خطوط دفاع»، لكنها في الواقع تحولت إلى «خطوط استعباد»، ضمن سياقاتها التاريخية والجيوسياسية:
1 ـ خط مكماهون: إرث استعماري وتوتر قائم
رُسم خط مكماهون عام 1914 من قبل بريطانيا بين التبت والهند، بشكل خارج عن إرادة الصين، ولذلك لا يعترف الصينيون إطلاقا بهذه الحدود. وترى الصين أن ولاية أروناشال براديش جزء من أراضيها، في حين تعتبر الهند هذا الخط حقيقة موروثة من الماضي. وقد أدى هذا الخلاف إلى اندلاع الحرب الصينية -الهندية عام 1962، ولا يزال حتى اليوم أحد الأسباب الرئيسية للتوترات العسكرية المستمرة على طول الحدود.
2. خط المراقبة: الشاهد الصامت على الصراع
ظهر خط المراقبة بعد عام 1947، ليصبح رمزا للتقسيم الفعلي لإقليم كشمير. هذا الخط الذي لا يتمتع باعتراف دولي، يتحول باستمرار إلى ساحة للمواجهات العسكرية والهجمات المتفجرة، ويخلف معاناة عسكرية ومدنية على حد سواء. فبينما تستخدم الهند هذه الهجمات ذريعة لفرض مزيد من القمع على المسلمين الكشميريين، تتهم باكستان من جهة أخرى بدعم الإرهاب. وكان هجوم «باهالغام» في 22 أبريل 2024 أحدث حلقة في سلسلة التوتر هذه، ولا شك أن خط المراقبة لا يمثل السلام، بل يمثل جبهة هشة تعيش في حالة إنذار دائم.
3. خط السيطرة الفعلية: الجبهة الباردة للغموض
يمثل خط السيطرة الفعلية الحدود المتنازع عليها فعليا بين الصين والهند. في تضاريس جبال الهيمالايا الوعرة، لا يزال مسار هذا الخط غامضا. وقد كشفت مواجهة «وادي جالوان» عام 2020 إمكانية تحول التوتر في هذه المنطقة إلى حرب ساخنة. وتستمر منشآت البنية التحتية والمشاريع المائية الاستراتيجية في تأجيج الصراع بين الجانبين.
4. خط ديورند: تقسيم شعب إلى نصفين
رُسم خط ديورند عام 1893 بين بريطانيا وأفغانستان، فقسّم البشتون إلى نصفين وشكّل الحدود الحالية بين باكستان وأفغانستان. لم تعترف أفغانستان بهذا الخط رسميا أبدا، وكانت الدولة الوحيدة التي صوتت ضد انضمام باكستان إلى الأمم المتحدة عام 1947. ولا يزال هذا الخط يمثل انقساما عرقيا وسياسيا، وليس مجرد حدود جغرافية مثيرة للجدل.
ختاما؛ هذه الخطوط الأربعة ليست مجرد حدود مرسومة على الخريطة، بل تمثل إرثا من الحسابات التاريخية العالقة، وأزمات الهوية الوطنية، والمآزق الأمنية الإقليمية المستمرة. وطالما ظل سعي الهند وباكستان نحو السيادة مقيدا بهذه الحدود المصطنعة، فلن يكون بمقدورهما تطوير سياسة خارجية سليمة ومتوازنة. كما أن النزاعات الحدودية مع جيران مثل الصين وباكستان وأفغانستان، ليست مجرد قضايا إقليمية، بل يمكن أن تشكل محفزات قادرة على إعادة تشكيل موازين القوى العالمية. السلام والاستقرار الحقيقيين لا يكمنان في قبول الحدود المصطنعة، بل في تحرير العقول والسياسات والاستراتيجيات من قيودها. وحين تتمكن الهند وباكستان من تجاوز هذه الخطوط الأربعة، فحينها فقط ستمتلكان القدرة على تحقيق السلام ليس بينهما فحسب، بل في المنطقة بأسرها.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!