ترك برس
تنطلق غداً الأحد دورة تشريعية جديدة للبرلمان التركي، تستهل أعمالها بكلمة للرئيس رجب طيب أردوغان الذي من المتوقع أن يركّز فيها على ضرورة إعداد دستور جديد بديل عن نظيره الحالي الذي يعود إلى ما بعد انقلاب 1980 بعامين. إلا أن السؤال الأبرز هو ذلك المتعلق بفرص نجاح الرئيس التركي في تمرير هذه الخطوة من البرلمان في ظل تشكيلته الحزبية الجديدة التي تضم أحزاباً متباينة أيديولوجياً.
وفي ذكرى انقلاب عام 1980، نظم حزب العدالة والتنمية مؤتمرا حول فرص إعداد دستور جديد للبلاد في الفترة التشريعية الحالية يخلص البلاد بشكل نهائي وتام من "دستور العسكر" المطبق حتى اللحظة في تركيا.
بعد الانقلاب بعامين، أي عام 1982، أعدت المجموعة العسكرية التي قامت بالانقلاب مشروع دستور جديد للبلاد بعد أن كانت علقت العمل بسابقه، وعرضته على الشعب في استفتاء عام، ليقر بنسبة تجاوزت 90%. وقد بقي هذا الاستفتاء ضمن النماذج النادرة في التجربة السياسية التركية على عمليات الاقتراع المشكوك بصحتها، إلى جانب انتخابات 1946 المزورة، حيث "أجري في ظل ظروف سياسية غير طبيعية" و"لم يحظ الشعب بفرصة التعبير عن رأيه بحرية" وفق كثيرين.
وقد شكّل دستور 1982 معضلة في الحياة السياسية التركية، إذ كان المقصود منه إبقاء حالة من الوصاية على القيادات السياسية المنتخبة والحياة السياسية عموما من خلال عدة أدوات في مقدمتها مجلس الأمن القومي الذي استحدثه، كما أبقى على مساحات من الخلافات المحتملة بين رئاسة الدولة ورئاسة الوزراء وهو ما حصل أكثر من مرة في السنوات اللاحقة، بحسب مقال لـ سعيد الحاج على "الجزيرة نت".
وفيما يلي تتمة المقال:
تعديلات غير كافية
خلال العقود الأربعة الفائتة، تعرض دستور 1982 لـ19 تعديلا، 9 منها قبل حكم حزب العدالة والتنمية و10 خلال عهده، آخرها إقرار الانتقال للنظام الرئاسي في البلاد عام 2017، وتعرضت فيها معظم مواد الدستور للتعديل بنسبة أو بأخرى. ورغم ذلك، ما زال الساسة في البلاد من مختلف الأحزاب والتوجهات يرون أن روح الوصاية العسكرية والانقلاب ما زالت حاضرة في مواده وقوانينه.
أكثر من ذلك، فقد فرض الانتقال للنظام الرئاسي تعديل عدد من القوانين للمواءمة مع النظام المستجد، وفي مقدمتها قوانين الأحزاب والانتخاب وما يلي العلاقة مع رئيس الدولة، وهي قوانين ستنتظر فيما يبدو صياغة دستور جديد بدل التعديلات الجزئية لأسباب يتقدمها خلاف الأحزاب الممثلة في البرلمان على مضمونها.
إضافة لما سبق، فإنه بسبب الدستور الأصلي والتعديلات اللاحقة وخصوصا الانتقال للنظام الرئاسي، توجد ضمن الدستور الحالي عدة قوانين ومواد متضاربة مع بعضها البعض وأخرى شبه "منسوخة" حيث لا يُعمل بها وإن كانت ما زالت منصوصا عليها.
لذلك، تتفق مختلف الأحزاب السياسية في البلاد على ضرورة صياغة دستور جديد. وقد كانت هناك بعض التجارب التي حاولت فيها الأحزاب السياسية التوافق على دستور جديد أو اقتراح مشاريع بخصوصه، مثل تجربة عام 2011-2013، ولكن التجربة الأوضح كانت تشكيل "لجنة توافق لصياغة الدستور" عام 2016 تمثلت فيها الأحزاب داخل البرلمان ولم تصل لتوافق نهائي أو مشروع مكتمل.
محاولة جديدة
قبل الانتخابات الأخيرة، وعدت المعارضة بإعادة البلاد إلى النظام البرلماني وصياغة دستور جديد بعد الفوز بأغلبية البرلمان. في المقابل، تحدث الحزب الحاكم عن وجود بعض الثغرات والمواد التي تحتاج تعديلا بعد خبرة تطبيق النظام الرئاسي. وخسرت المعارضة الانتخابات الرئاسية ولم تنجح في الحصول على أغلبية البرلمان، ما ترك مسؤولية صياغة دستور جديد على كاهل العدالة والتنمية وتحالف الجمهور في المقام الأول.
بعد الانتخابات، كرر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حديثه عن حاجة تركيا لـ"دستور مدني" بدل "دستور الوصاية" الذي ما زال ساريا في البلاد، ورأى أن الفترة الحالية تمثل فرصة مناسبة لذلك. وفي مؤتمر نظمه حزبه في ذكرى انقلاب 1980 خلال الشهر الجاري في متحف أقيم في سجن "أولوجان" سيئ السمعة في فترة الانقلاب في إشارة رمزية لا تخفى؛ أكد أردوغان على ضرورة أن يكون الدستور الجديد نتاج حوار ثم توافق سياسي ومجتمعي، ووعد بأن يطرق حزبُه أبواب الأحزاب السياسية الأخرى للوصول لهذه النتيجة. وأصدر الرئيس التركي ورئيس العدالة والتنمية نداءً لباقي الأحزاب السياسية قائلا "تعالوا لنتحدث، لنتحاور، لكن دعونا لا نتهرب من هذا الأمر".
وقال رئيس البرلمان نعمان قورتلموش إن "صياغة دستور جديد دَين في رقبة تركيا، وستكون خطوة مهمة تليق بالقرن الثاني للجمهورية". وعدَّ قورتلموش دستور 1980 "أحد أكثر آثار انقلاب 1980 ونتائجه ديمومةً"؛ حيث صيغ بهدف التحكم في المستقبل وتم تصميمه وفق ما يريده الانقلابيون.
ودستوريا، يحتاج إقرار دستور جديد لموافقة ثلثي أعضاء البرلمان، أو على الأقل موافقة نسبة 60% منهم لعرضه على استفتاء شعبي، ولا يملك حزب العدالة والتنمية وتحالفه الحاكم أيا من النسبتين حاليا. ولذلك، تتجه الأنظار اليوم، كما سابقا، لمواقف أحزاب المعارضة بحيث يمكن أن يساعد بعضها على الوصول لنسبة الـ%60 على الأقل وفتح المجال لاستفتاء شعبي.
فرص النجاح
في الحسبة السياسية، لا يتوقع أن يشارك حزب الشعوب الديمقراطي، الذي خاض الانتخابات الأخيرة تحت اسم حزب اليسار الأخضر، في عملية صياغة الدستور، إذ من غير المتوقع أن يطلب العدالة والتنمية دعمه ولا من المتوقع أن يقدمه إن طلب منه. كما أنه من المستبعد أن ينخرط حزب الشعب الجمهوري في هذا المسار بسبب منافسته الشرسة مع العدالة والتنمية واختلافه معه حول عدد من القضايا ومواد الدستور؛ فضلا عن رفضه للنظام الرئاسي وإجراء تحسينات في ظله.
ولذلك، يبقى نظريا من الأحزاب الكبيرة الحزب الجيد القومي، والذي يمكن أن يصل معه العدالة والتنمية لتوافق حول المسألة، لا سيما بعد خلافاته الأخيرة المعلنة مع الشعب الجمهوري وتشتت الطاولة السداسية المعارضة، وإن كان احتمال التوافق ليس كبيرا بالنظر لحرص الحزب الجيد على التمايز عن باقي الأحزاب جميعها وانتهاج سياسة مستقلة تعبر عن هويته الذاتية.
وعليه، يبقى الاحتمال العملي الأبرز -إن لم يكن الوحيد- هو توافق العدالة والتنمية مع الأحزاب المستجدة -الصغيرة- في البرلمان، وهي أحزاب الديمقراطية والتقدم والمستقبل والسعادة. ودخلت هذه الأحزاب البرلمان على قوائم الشعب الجمهوري؛ إذ كانت جزءا من الطاولة السداسية المعارضة، ولكنها أقرب أيديولوجيا وفكريا للعدالة والتنمية.
مسار معقد
وهنا يكمن التناقض الكبير؛ إذ يفترض بالتقارب الفكري والأيديولوجي أن يقرب بين هذه الأحزاب والعدالة والتنمية لكن السياسة تفرقهم بشكل كبير، إذ إنهم على النقيض السياسي منه، فقد خرج الحزب الحاكم من رحم أحدها بينما خرج الاثنان الآخران من عباءته هو، بما يجعل التعاون بين هذه الأحزاب صعبا وفيه بعض الحرج السياسي. كما أن هذه الأحزاب محسوبة على المعارضة، لكنها قد تكون طوق النجاة للعدالة والتنمية في موضوع الدستور، لا سيما أنها لا تختلف كثيرا مع الأخير على معظم بنود الدستور ومواده. إذ تملك هذه الأحزاب 35 مقعدا في البرلمان يمكن أن تزيد من فرص حصول أي مقترح على نسبة 60%.
من هنا نقول إن حزب الشعب الجمهوري أكبر أحزاب المعارضة لم يفشل فقط في رهانه على الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، ولكن أيضا قد يكون قدم للعدالة والتنمية الحل بخصوص صياغة الدستور الجديد من حيث لم يحتسب ويقدر. لكن ذلك سيتطلب من الحزب الحاكم والأحزاب الجديدة حسا عاليا من المسؤولية وترفعا عن الحساسيات السياسية المتوقعة في هذه الحالة وتغاضيا عن بعض محطات الماضي.
إن صياغة دستور مدني جديد يحل مكان الدستور العسكري الحالي لطالما كان حلما للأحزاب السياسية، ولا سيما تلك التي عانت منه وفي مقدمتها الأحزاب المحافظة والإسلامية. واليوم تلوح فرصة غير مسبوقة لإمكانية إنجاز ذلك، كما تلوح للرئيس التركي فرصة لأن يسجل إنجازا كبيرا كهذا في ولايته الرئاسية الأخيرة. فهل تتعاون الأحزاب المذكورة على مشروع دستور جديد للبلاد منحّية الخلافات جانبا؟ في الحسبة الرياضية ممكن جدا، لكن الحسابات السياسية قد تعيق ذلك وتعقد مساره
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!