د. عطية عدلان - الجزيرة مباشر
لا يوجد اليوم على واجهة الأخبار العالمية وقائمة الاهتمامات الدولية ما يمكن أن يكون مقدَّمًا على ما يجري في غزة، فعلى الرغم من تزاحم الأحداث على فُوَّهة هذه اللحظة من عمر البشرية استطاعت أحداث غزة أن تخطف الأبصار تجاهها وتلوي الأعناق نحوها، إلى حدّ أنّ العالم ربما لا يعلم إلا قليلًا عن الحمم التي يلقيها نظام الأسد على إدلب بجنون وإجرام يفوق والوصف، ولا عن ازدياد وتيرة الهجمات الروسية على أوكرانيا، ولا عن تصاعد التحرشات الصربية تجاه كوسوفو والبوسنة؛ وما ذلك إلا لأنّ الحدثَ جوهريٌّ ومركزيٌّ، وله -بما يحمله من دلالات وخلفيات- آثار غاية في العمق والخطورة.
في كلّ مرة تنتفض فيها المقاومة الفلسطينية في أيّ جهة من جهات الأرض المحتلة لا تسفر النتائج -مهما بلغت- عن شيء فوق زعزعة الاستقرار للكيان المحتل، وبعث رسالة إلى الصهاينة ومن يقف وراءهم مفادها أنّ المقاومةَ باقية، أمّا هذه المرّة فقد استطاعت المقاومة بسنّ الرمح ونصل السيف أن ترفع إلى قائمة الاحتمالات -بلغة الأرقام والحسابات- زوال دولة إسرائيل، ولعل هذا الإنجاز تحديدًا هو الذي استفزّ الرئيس الأمريكيّ، إلى الحدّ الذي جعله يتبنى مقولات عن “أطفالٍ مُقَطَّعِي الرؤوس” أشبه ما تكون بـ”الحواديت” ويصرّ عليها حتى بعد نفي البيت الأبيض، ويطير بنفسه إلى تل أبيب بعد أن ساق بين يديه حاملات الطائرات الأكثر إرهابًا في الدنيا، ويستنفر معه العالم المسيحيّ؛ في سلسلة من الردود الصليبية التي لم يحسب لها أيّ حساب، حتى للوقار والمكانة واعتبارات الشيخوخة.
إنْ قلت إنّ المقاومة في غزة بطوفانها هذا اقتلعت الأساطير الإسرائيلية من جذورها، أو قلت إنّها بضرباتها الرشيقة المتتابعة دَقَّت المسمار الأخير في نعش النظام الدوليّ، بعد المسمار الذي دَقَّتْهُ أحداث أوكرانيا، ودَقَّت المسمار الأخير في نعش جامعة الدول العربية -التي قام أمينُها العام يتهم حماس بالإرهاب دون أن يقدم شيئًا للشعب الفلسطيني الأعزل- بعد المسامير التي دقتها الأحداث الأخيرة في ليبيا واليمن والسودان، وبعد أن لعقت الجامعة بشَّارًا بعد بصقها له، أو قلت إنّ جملة الأحداث -من لدن طوفان الأقصى إلى هذه الليالي الأكثر بشاعة- تمثل صيحة كصوت الحادي أو كنداء المؤذن، سيكون لها سريان في جيل أقعده اليأس كسريان مادة الحياة في الشجرة الجرداء؛ إن قلت شيئًا من ذلك أو تجشمت قول ذلك كله؛ فلن تكون راكبًا متن الشطط، ولا ممتطيًا من الزعم نَشَزًا نائيا.
بعد أن طوى طوفان الأقصى جميع اتفاقيات التطبيع وحَوَّلَها في صبيحةٍ عابرة إلى أطلال غابرة، وأفرغها من محتواها وجردها من جدواها، وجعلها “خارج الخدمة” في العمق العربيّ والإسلاميّ كله؛ إذْ لا جدوى لتطبيع لا تتشربه الشعوب؟! بعد هذا الأثر البالغ العمق هل يمكن أن نقول إنّه قد آن الأوان لأن تتجاوز الشعوبُ الأنظمة؟ ولا سيما بعد بروز التباين الشديد في المواقف، هل هذا هو أوان التخطّي الذي يمكن أن يستلهم طوفان الأقصى لاستعادة المسار، ولكن بأمواج أعلى وهدير أقوى؟ هذا توقُّعٌ يصدقه أو يكذبه مدى فهم الكبار لدورهم، وقَدْر ما قدموه من رصيد.
وعلى الجانب الآخر إن قيل: إنّها فرصة وما عاد هناك سبيل للعودة؛ فلتكن هذه الأحداث بمثابة حرق المراكب، فبعد أن ضرب الزلزال بنيان الثقة بكل أبعادها، ونزع من قلوب المستوطنين الأمن إلى يوم الدين، ما عاد هناك ما تسكب الدموع عليه؛ فما الذي يدفع نتنياهو إلى المضيّ قدمًا لتحقيق صفقة القرن وفرضها بالقوة، وها هي أمريكا قد أعطت ظهرها لكل شعاراتها الكاذبة وأقبلت عليهم بدعمها المباشر وغير المباشر، وها هي الأنظمة العربية والإسلامية تتدثر بالصمت وتخلد إلى سرير الموت، أمّا إيران فأمريكا تعلم كيف تدفعها لاستدامة التهديدات والتصريحات دون أن تخوض في الممنوعات، وهذا أيضًا تَوَقُّعٌ يصدقه أو يكذبه مدى استعداد الحكومة الإسرائيلية والحكومات الغربية لتخطي الديمقراطية.
منذ أن صدر عن الأمم المتحدة الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان في أعقاب الحرب الثانية لم تشهد الساحة تدافعًا بين الشعوب والأنظمة أعنف مما نراه الآن، كأنّ مخزون الغضب المتراكم لدى الشعوب تفجر جملة واحدة، فلم تلبث إلا قليلًا تلك الحملة التي أججها الإعلام الغربيّ ضد المقاومة الفلسطينية، وسرعان ما انكسرت وارتدت على أعقابها أمام سيل الاستنكار الإنسانيّ العام الذي جاء كطوفان الأقصى؛ ليقتلع ما تبقى من وشائج الثقة بين الشعوب والأنظمة، ألا إنّ هناك في أعماق الإنسانية صحوةً عاطفيةً تستنكر العدوان والبطش، تواكب الصحوةَ العقلية التي تستنكر الإلحاد والشذوذ، إنْ دلت على شيء فإنّما تدل على أنّ الفطرة تَضْمُر ولكن لا تبيد؛ فهل من مستفيد؟
هذا تدافع عنيف وعنيد، وعلى التوازي يوجد تدافع آخر أكثر ضراوة لكنّه أخفض صوتًا، بين يمين متطرف اجتاح إسرائيل ويهدد أمريكا بالاجتياح، يحاول أن يستلهم من النبوءات التوراتية وقودًا للتمرد، وبين علمانية قد شاخت وتحطمت قواعدها، وتحاول بشقّ الأنفس أن تستعيد ذكريات عصر الأنوار وما تلاه من مواثيق ومعاهدات؛ لعلها تستطيع كبح جماح التطرف اليميني وإيقاف مدّه المتنامي؛ فهل سنشهد حروبًا أهلية في أمريكا وانشقاقات في الجسد الصهيونيّ المحتل، لا يستبعد شيء من ذلك إطلاقًا.
لم أتعجب عندما مزّق سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة قرار لجنة حقوق الإنسان بإدانة إسرائيل، فما أكثر ما ألقوا بقرارات مجلس الأمن الذي يعدّ الجهة الأكثر نفوذًا في سلة المهملات، لكنّ العجيب هو أنّ هذا السفير ذاته دعا بكل صراحة ووقاحة إلى اتحاد العالم اليهودي والمسيحي لتحقيق الوعد الربانيّ، هكذا تفكر إسرائيل ولا سيما في ظل اليمين، في حين ينتظر المسلمون وعدًا صادقًا بأنّ عودة الخلافة ستكون في الشام وفي القلب منه القدس، وانطلاق نور الإسلام منها ليملأ الأرض عدلًا بعد أن ملئت ظلمًا وجورًا، الكل ينتظر، والقرآن يتحدى: {وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} (هود: 122).
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس