ياسين أقطاي - يني شفق
غزة هي قطعة أرض صغيرة. يعيش فيها 2.1 مليون شخص يتعرضون للحصار وجميع أنواع الحرمان منذ 17 عامًا. وفوق ذلك تهاجمها إسرائيل منذ 18 يومًا دون احترام لأي قواعد، مرتكبة جميع أنواع جرائم الحرب ضد الإنسانية بكل قوة وغضب. يمكن القول إن غضب إسرائيل قد أعماها، ولم تعد تعرف ما تفعله. وكلنا يعلم أن عاقبة الغضب هي الخسران. أفلا يجب على حلفاء إسرائيل في مثل هذه الحالات أن يحاولوا تهدئتها قليلاً؟
لكن حلفاءها لم يكتفوا بعدم تهدئتها، بل سارعوا إلى تشجيع تصرفاتها العدوانية، ودعمها في جرائمها ضد الإنسانية. فهذا رئيس الولايات المتحدة بايدن يزور إسرائيل، ثم يتبعه رئيس الوزراء البريطاني، ثم زعماء فرنسا وألمانيا وإيطاليا، ورؤساء الدول الأوروبية الآخرين، كلهم يتسابقون في زيارة إسرائيل التي جن جنونها من الغضب، والتعبير عن دعمهم لها.
سبق أن قلنا، إن ما يحصل اليوم في غزة ليس علامة على قوة إسرائيل أو سيطرتها على الوضع، بل هو علامة على انهيارها. سيكون انهيارها شديدًا يطال كل من يدعمها. لقد دفن العالم الأوروبي كل ما كان يدّعيه طوال القرنين الماضيين من قيم ومبادئ، دفنها في تلك الرقعة الصغيرة من الأرض التي تسمى غزة خلال أسبوعين فقط. في ظل توازن القوى غير المتكافئ إلى هذا الحد، كيف يمكن لإسرائيل أن تحتاج إلى أي مساعدة حتى يهرعوا لمساعدتها! إن قصف مدينة غزة التي لا حول لها ولا قوة، ورمي القنابل على المدنيين ينبغي ألا يكون بالأمر الصعب بالنسبة لإسرائيل، فكل ما تحتاجه لذلك هو التخلي عن الإنسانية. في كل قصف، يموت عشرات الأطفال والنساء والمدنيين، حيث تقصف المستشفيات والمدارس والأسواق، كما ترتكب أبشع وأفظع الجرائم ضد الإنسانية، جرائم لم يسبق لها مثيل في التاريخ. ولا تكتفي الولايات المتحدة وأوروبا، اللتان تتمتعان بالقدرة على إيقاف ما يحدث، بالوقوف مكتوفتي الأيدي، بل تساعدان الجاني وتدعمانه.
إن التواطؤ في مثل هذه الجريمة لا يمكن أن توافق عليه أي دولة إلا تحت ضغط أو ابتزاز. ولا يجهل أحد أن ألمانيا كانت رهينة هذا الابتزاز منذ الحرب العالمية الثانية. وهي اليوم في وضع لا يسمح لها بأن ترفع صوتها حتى في مواجهة أبشع جرائم إسرائيل وأشدها وضوحًا. ولكن ما الذي يحدث للدول الأخرى؟ ما هذا الابتزاز الذي تتعرض له حتى توافق على المشاركة في مثل هذه الجريمة النكراء؟
بالنسبة لبريطانيا -التي كانت سببًا في نشر بلاء الصهيونية في العالم- فهي لا تزال على علاقة وثيقة مع إسرائيل. ولكن ماذا عن فرنسا، وإيطاليا، وكندا؟ إن اتحاد أقوى وأعظم دول العالم في عدوان دنيء يهتك قيم الإنسانية، من أجل تدمير شعب صغير، سيكون وصمة عار وفضيحة لهم تلاحقهم لعدة أجيال. هذه هي حضارة الغرب وحقيقتها المخزية. فليتعظ أولئك الذين يعجبون بها، من المسلمين الحداثيين الذين يشوهون كتبهم بهذا الإعجاب.
إن هذه الصورة البشعة للحضارة الغربية، وهذا التحالف المشين على أبشع الجرائم، سيشكلان بداية لصحوة عالمية لا بد أن تبدأ قريبًا. لقد أصاب جنود غزة البواسل بأحجارهم الكيان الصهيوني في الصميم، كما أصاب داود بمقلاعه جالوت بين عينيه. لم تكن إسرائيل فقط هي التي فقدت صوابها فكشفت عن نقاط ضعفها ووجهها الحقيقي. وسقطت أيضًا أقنعة أولئك الذين يحمونها ويدعمونها. لذلك سيكون يوم السابع من أكتوبر بداية لتأسيس عالم جديد. قد يكون الثمن باهظًا فالحضارة الغربية التي جن جنونها ستستخدم كل تقنيات الأسلحة والذخيرة التي بحوزتها لاستهداف الأبرياء، متجاوزة كل القواعد. لكنها لن تتمكن أبدًا من كسر مقاومة أبناء غزة البواسل، الذين لم يستسلموا في أي وقت لأسلحتها وعدوانها ولسان حالهم يقول: " نحن مستعدون للموت دفاعًا عن وطننا. نحن لا نخشى الموت، لأننا نؤمن أن من يموت في سبيل الله فإن مصيره الجنة. سيأتي من بعدنا جيل جديد من الشهداء، يواصلون الكفاح حتى تحرير الوطن. لن نستسلم أبدًا ولن نتخلى عن وطننا".
ما الذي يمكن أن تفعله إسرائيل وأمريكا وإنجلترا وفرنسا وإيطاليا، أمام روح المقاومة هذه؟ لا شيء سوى الفشل والكشف عن حقيقتها المخزية.
روح المقاومة التي تحلى بها عمر المختار تتجلى الآن في غزة. تلك الروح التي تمثلت بقوله المأثور، عندما سأله الضابط الإيطالي: "لقد قاومتنا لمدة 20 عامًا، هل كنت تعتقد أنك ستنتصر؟". قال حينها: "كنت أقاتل من أجل إيماني، وهذا كافٍ بالنسبة لي، أما الباقي فهو بيد الله ... نحن لا نستسلم، ننتصر أو نموت، وهذه ليست النهاية، بل سيكون عليكم أن تحاربوا الجيل القادم والأجيال التي تليه، أما أنا فإن عمري سيكون أطول من عمر شانقي".
وفقًا لدراسة أجرتها مؤسسة "غالوب" في الولايات المتحدة في مارس الماضي، تبين أن تعاطف الديمقراطيين مع الفلسطينيين آخذ في الازدياد، وأصبح عدد أكبر من أعضاء الحزب الديمقراطي يشعرون بالتعاطف مع الفلسطينيين أكثر من الإسرائيليين. من حيث الأرقام، ارتفعت نسبة التعاطف مع الفلسطينيين إلى 49%، بينما انخفضت نسبة التعاطف مع إسرائيل إلى 38%، مما يعني أن الفارق هو 11% ضد إسرائيل. أجريت الدراسة أيضًا على أساس مقارنة بين الأجيال، واتضح أن هذا الاتجاه موجود في جميع الأجيال، ولكن بشكل خاص في الجيل الجديد، حيث زادت مشاعر العداء تجاه إسرائيل، ومن المتوقع أن تستمر في الازدياد في ضوء العدوان الإسرائيلي الأخير. في الواقع، يُنظر إلى هذا الموقف على أنه تعبير عن الإحباط المتزايد من السياسة الخارجية للولايات المتحدة، التي أصبحت رهينة لإسرائيل منذ فترة طويلة.
إسرائيل تهاجم الفلسطينيين بوحشية وبلا رحمة، في انتهاك تام للقانون الدولي والأخلاق الإنسانية. هذا الهجوم إبادة جماعية. ودعم الدول الأوروبية لإسرائيل أمر غير مقبول لدى الشعوب الأوربية نفسها. إسرائيل ليست الضحية في هذا النزاع، فهي ليست مظلومة ولا ضعيفة. والعدوان العشوائي الذي شنته وصل إلى حد التطهير العرقي. ودعم القادة الأوروبيين اللامتناهي لهذا العدوان أمر لا يعقل. على الرغم من أن هذا الدعم يبدو غير منطقي من منظور عقلاني، فقد بات سببه واضحًا من منظور الدين والمعتقد.
إن التداعيات الواضحة لهذه السياسة غير العقلانية هي الانقسامات المتزايدة في المجتمع الأمريكي. أما في أوروبا فسنرى ما سيؤول إليه الأمر. حتى الآن، لا يوجد لدينا سوى معلومات عن المشاركة الواسعة في احتجاجات لدعم فلسطين في بعض الدول.
كنا نواجه صعوبة في فهم الوضع الحالي لأننا كنا نتوقع أن يلتزم الغرب، الذي لكالما روج لفكرة العلمانية والفصل بين الدين والدولة، كنا نتوقع أن يلتزم بقواعده التي وضعها. لكن أظهرت التطورات الأخيرة ودعم أوروبا والولايات المتحدة لإسرائيل أن الغرب متطرف أكثر من أشد الجماعات تعصبًا.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس