د. علي حسين باكير - عربي21
هدم العدوان الإسرائيلي المستمر على الفلسطينيين في غزة الغطاء عن الكثير من الأوهام التي كان يتم الترويج لها والأصنام التي كانت تعبد حول العالم حول النظام الدولي وحقوق الإنسان والمرأة والطفل وأجندة الحريات والديمقراطية، وإن كان البعض يعتقد أنّ ذلك ليس بجديد، إلا أنّ حجم الانكشاف هذه المرّة غير مسبوق كما يأتي في ظروف مختلفة للغاية أبرزها التراجع المهول للغرب ولاسيما الولايات المتّحدة الأمريكية على المستوى الدولي، واستكمال انهيار الأسس التي قام عليها النظام الدولي الذي أوجدته الدول الغربية بشكل أساسي بعد الحرب العالمية.
إحدى القضايا المهمّة في هذا الصراع اليوم هي التغطية الإعلامية الغربية للعدوان الإسرائيلي على غزة. وسائل الإعلام الغربية لم تتبن فقط الرواية الإسرائيلية ـ خاصة الرواية الرسمية على اعتبار أنّ الإسرائيليين مختلفين أيضا فيما بينهم ـ وإنما قامت بصناعتها واحتكار السردية وتسويقها بما يرتقي إلى المشاركة المباشرة في العدوان على الفلسطينيين.
وتقوم وسائل الإعلام الغربية بصناعة واحتكار السرديّة عبر تكتيكات مختلفة من بينها على سبيل المثال التقارير الانتقائية، حيث تقّرر أن تغطي بعض الأحداث أو التطورات المختارة بعناية مع تجاهل تام لأحداث وتطورات أخرى أكثر أهمّية تتمّ في نفس السياق والآن وذلك لتشكيل رأي عام عن طريق التحكّم في تدفّق المعلومات والزاوية المراد لها أن تترسّخ في الإدراك العام من خلال هذه التغطية بما يتوافق مع أجندة ومصالح هذه المؤسسات التي عادة ما يتم دعمها من قبل حيتان المال لبعض اللوبيات العالمية.
وتلعب تقنيّات التأطير العام كذلك دوراً أساسياً في صناعة السرديّة حيث يتم تأطير الأحداث بشكل مغاير للحقائق تماماً أو بشكل يظهر ازدواجية لا لبس فيها، لكنّ هذه الازدواجية لا تظهر لمن هم منغمسون في تلقي رسائل موحدّة من هذا التأطير، فالأبيض عندما يمارس الإرهاب ويرتكب الجرائم بحق المدنيين يظهر على صفحات الجرائد وعلى وسائل الإعلام بأنّه شخص تعرض لصدمة عاطفية أو يتم تصويره على أنه أب حنون سلك طريقا خاطئاً أو أنّه شخص يعاني من اضطراب نفسي أو عقلي ليتم إعفاؤه من تحمّل تبعات جريمته، بينما يظهر ذو السحنة السمراء كإرهابي حتى وإن ارتكب عملاً لا يصنّف ضمن هذه الخانة أو حتى لم يرتكبه على الإطلاق.
وما ينطبق على الأشخاص ينطبق إلى حد كبير على الدول وإن كان بشكل مختلف، فالحروب التي تسعّرها الدول الغربية هي حروب للدفاع على النفس ونشر الديمقراطية وحقوق الإنسان!
ثمّ يأتي دور "الخبراء" في إضفاء الشرعيّة على التغطية الانتقائيّة والتأطير الذي تمّ حيث يتم اختيار مجموعة محددة من هؤلاء بعناية، وغالباً ما يقتصر دورهم على إضفاء الشرعية على السردية وتضخيم صداها وغالبا ما يتم ذلك من خلال استبعاد الأصوات التي تتحدى هذه السردية أو تقدّم تصورا مختلفاً إلا في حدود خدمة شرعية السردية القائمة من خلال إضفاء تنوّع شكلي على المضمون.
ويتبع هؤلاء ما يعرف باسم "غرف الصدى"، حيث تقوم وسائل الإعلام ببث والتسويق للرواية المصنوعة بعناية عبر عدد من المنصات الأخرى التابعة لها أو المقربة منها مما يعطي الانطباع بأنّ الرواية هي مجرّد وقائع تعكس الحقيقة وأنّ هناك اتفاقا على هذه الحقيقة، مما يسهّل فيما بعد تسيّد هذه الرواية للمشهد العام وتردادها ليس من قبل الوسائل الأخرى فحسب بل من قبل المستهدفين بها وهذا هو الأهم.
في المرحلة الأخيرة من التكتيكات المتّبعة لصناعة وتسويق السرديّة يأتي دور عنصر التكرار لكل ما سبق وأن تمّ فعله. التكرار يعمل على ترسيخ التصوّر الخاطئ في ذهن المتلقي كأنه حقيقة خاصة عندما يتم احتكار عملية تصنيع وتسويق السردية ومنع الآخرين بحجج مختلفة. ويتم تطبيق نفس هذا التكتيك وتعزيزه حتى في وسائل التواصل الاجتماعية من خلال خوارزميات وبرمجيات تحدد بشكل مسبق ما يسمح للمتلقي بالاطلاع عليه وما يجب عليه مشاهدته أو قراءته فيما يتم حذف المحتوي غير المرغوب فيه أو الذي قد يؤثر على الصورة المراد ترويجها.
وتتطلب هذه العملية بطبيعة الحال السيطرة على مصادر المعلومات والتحكم بها وبتسويقها، كما تتطلب تجاهل الحيثيات والتفاصيل والسياق وأي شيء من شأنه أن يشير إلى الصورة الحقيقيّة.
ويؤدي هذا النمط من العمل الإعلامي من صناعة واحتكار التصور والترويج له إلى إشغال الطرف الرافض للرسالة المراد إيصالها في الرد على هذه السردية المصطنعة والتفاصيل التي يتم إغراق المتلقين بها، وبالتالي الترويج لها من جديد بطريقة غير مباشرة والعزوف عن تسليط الضوء على الحقيقة.
لهذا النوع من تشويه الحقائق والوقائع تكلفة بطبيعة الحال، إذ لا يمكن الاستمرار فيه دون توقع ردّات فعل أو انعكاسات على مستوى وسائل الإعلام نفسها وعلى ما يسمى بالمصداقية والأجندة والأهداف ومن يقف خلف كل هؤلاء في إدارة المشهد الإعلامي. كما يؤدي هذا النوع من احتكار السرديّة وتسويقها إلى تغذية الصراعات والتوترات والحروب من خلال إعفاء الطرف المعتدي من تحمّل أي تبعات أو إلتزامات. هل سيكون الإعلام الغربي بمنأى عن دفع فاتورة دوره في العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين؟ لا أعتقد ذلك.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس