سعيد الحاج - عربي 21
بعد 65 يوما من عدوان الاحتلال المستمر على قطاع غزة ما زال المشهد هو المشهد والمعادلة هي المعادلة؛ أداء متميز ومنقطع النظير للمقاومة الفلسطينية، ومقتلة كبيرة ودمار أكبر بين المدنيين الفلسطينيين يتقصدهما الاحتلال انتقاما من المقاومة وضغطا على حاضنتها. على يمين هذا المشهد المركّب دول غربية في مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية تقدم دعما غير محدود ولا مشروط للاحتلال، بل لعلها تخوض المعركة معه وعنه، وعلى يسارها عالم عربي وإسلامي غارق في الفشل والعجز والخذلان إلى درجة تصل حد التواطؤ من بعض الأطراف.
لقد كان خطاب الناطق باسم كتائب القسام خلال الحرب قاسيا بحق الدول العربية؛ حين لم يطلب منها قتالا أو دعما عسكريا “لا سمح الله”، منتقدا عجزها عن إدخال الماء والغذاء لأطفال غزة المحاصرين والمجوَّعين من قبل الاحتلال، ورغم ذلك لم يتغير شيء كبير في هذه الصورة، بل إن بعض التصريحات الرسمية والمواقف في المؤسسات الدولية وكذلك بعض التقارير الإعلامية ترجح أن بعض الأنظمة العربية تشترك مع الاحتلال في هدف القضاء على المقاومة الفلسطينية وتنتظر منه فعل ذلك، وهو ما يمكن أن يفسر الموقف الرسمي الأسوأ على الإطلاق في كل الاعتداءات “الإسرائيلية” على غزة، رغم أن العكس هو ما يفترض أن يحصل، إذ إن العدوان الحالي هو الأشرس والأكثر دموية وخطورة وارتكابا لجرائم الحرب بحق المدنيين.
موقف بعض الأنظمة المتواطئ مع الاحتلال يفضحه ويعبر عنه بشكل أوضح وأكثر علانية من يدورون في فلكهم من مرتزقة الإعلاميين والأكاديميين، الذين لا هَمَّ ولا عمل ولا وظيفة لهم إلا الإيفاء بمتطلبات هذا الارتزاق في العموم وفي هذه الحرب على وجه الخصوص.
ثمة سرديات ثلاث تتكرر بشكل مطرد وملحوظ ومقصود في خطاب هذه “النخب” الإعلامية والأكاديمية و”المثقفة”؛ الأولى تحميل حركة حماس والمقاومة الفلسطينية مسؤولية ما يحدث من دمار وقتل في غزة، والثانية التركيز على دعم إيران لحماس والمقاومة الفلسطينية، والثالثة دعوة المقاومة للاستسلام كمخرج وحيد لهذه الحرب.
يذكرنا خطاب تحميل المقاومة الفلسطينية وتحديدا حركة حماس؛ مسؤولية ما اقترفته الآلة العسكرية “الإسرائيلية” في قطاع غزة ضد البشر والحجر بخطاب “قتله الذي أخرجه” في تراثنا السابق، مع الفارق الهائل ودون أدنى مقارنة بين قائل الأمس ومرددي اليوم. يُغفل هذا الخطاب حقيقة الاحتلال وتاريخه المتشكّل من سلسلة متتالية من مجازر وحروب لم يكن السابع من تشرين الأول/ أكتوبر أولها ولا يتوقع أن يكون آخرها.
ويتقزم هذا الخطاب “العربي” أمام خطاب عالمي أعلى سقفا بكثير، بل حتى أمام كلام الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش الذي ثبّت أن ما أقدمت عليه حماس يوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر “لم يأت من فراغ” ولم يكن البداية من لا شيء.
وفي سياق محاولاتهم نفي مسؤولية الاعتداء عن الاحتلال ومسؤولية الدفاع أو المساعدة عن الدول العربية والمسلمة، يتناسى مستخدمو هذا الخطاب أن الأداء العربي الرسمي لم يكن أفضل حالا بكثير في محطات عدوان سابقة، اللهم إلا في عدوان 2012 حين كان محمد مرسي يرأس مصر؛ مقدما موقفا مختلفا ومتميزا لفظا وعملا.
وفي ظل الحرب الهمجية التي يشنها الاحتلال على المدنيين في غزة والتي عُدَّت جرائم حرب وفق عدد من التقارير الدولية وبعض المواقف السياسية، بما في ذلك البيان الختامي للقمة العربية- الإسلامية في الرياض، لا يجد هؤلاء عملا ولا خطابا إلا مهاجمة حماس من زاوية قبولها الدعم الإيراني.
لقد أكدت حركة حماس وإيران نفسها وحزب الله في لبنان وأطراف دولية في مقدمتها الإدارة الأمريكية؛ أن قرار عملية طوفان الأقصى كان قرارا فلسطينيا حمساويا خالصا لم ترتب له حماس مع أحد ولم تُعلم به أحدا بشكل مسبق. كما ما زال الخطاب الرسمي والإعلامي للمقاومة الفلسطينية يرى أداء الأطراف الأخرى، بما فيها الأطراف المحسوبة على إيران، دون مستوى المعركة وغير مؤثر في مسارها وتحديد نتائجها. ورغم كل ذلك، ومع أنه لا يعيب حماس أن تحصل على الدعم من أي طرف بما في ذلك إيران، ومع إثباتها في أكثر من محطة أنها لا تقدم مقابل الدعم تنازلات في الرؤية والمشروع والأداء والموقف السياسي، ورغم أدائها في هذه الحرب، إلا أن الخطاب الممجوج الذي ينتقص من المقاومة من زاوية الدعم الإيراني ما زال سائدا لدى هؤلاء المرتزقة في محاولة للتشويش وتقليل الاهتمام والدعم في بعض الحاضنات العربية.
وأخيرا، يروج هؤلاء بالتصريح والتمليح أن المخرج الوحيد من المقتلة “الإسرائيلية” البشعة في غزة لا يكون إلا باستسلام المقاومة ورفعها الراية البيضاء وتسليم ما لديها من أسرى عسكريين للاحتلال دون قيد أو شرط. يسعى هذا الخطاب، الذي ينهل من موقف سياسي في مكان ما، إلى تفريغ إنجاز المقاومة من معناه، وخطف النصر من يد الفلسطينيين وإزهاق تضحياتهم سدى، وكسر المقاومة وحرمانها من أي مكسب، لصالح إنقاذ نتنياهو والاحتلال الذي -وللمفارقة- تتحدث بعض وسائل إعلامه عن إخفاقه وخسائره الكبيرة واحتمالية خسارته الحرب، رغم التشديد الإعلامي الهائل في دولة الاحتلال.
وفي مسعاه للتأكيد على هذه السرديات الثلاث، يتوسل هذا الخطاب أساليب مكشوفة ومتكررة، في مقدمتها التحريف والانتقائية. وأبرز مثال على ذلك دعوات أهل غزة المكلومين لوقف الحرب، وهو مطلب الجميع بما في ذلك المقاومة الفلسطينية نفسها، فينتقون منها ما يحمل انتقادا لحماس أو عتبا عليها ويحرفون تصريحات أخرى لجعلها في نفس السياق، متجاهلين رسائل الدعم والصمود والتأييد التي ترد يوميا على ألسنة معظم سكان القطاع رغم مأساتهم ومعاناتهم.
ومن ذلك، ترديد خطاب محدد بخصوص الناطق باسم كتائب القسام “أبي عبيدة” مقتبس بالكامل وبكل تفاصيله من الاحتلال، فتارة هو يقيم خارج غزة، وطورا هو في مأمن داخلها، وفي كل الأحوال هو مرفّه ويملك أموالا وقصورا، فضلا عن ترديد ادعاءات الاحتلال بخصوص اسمه وشخصيته.
وأخيرا، فإن معظم المواد التي يتداولها هؤلاء هي مما يرد في خطاب الاحتلال ودعايته، من أخبار وادعاءات وتحليلات وصور وفيديوهات، الأمر الذي يؤكد على الارتباط الوثيق بين الجانبين. كما أنهم يركزون على نفس الأولويات لدى إعلام الاحتلال وسياسييه، مثل الحملات المركزة على شخصيات بعينها مثل قائد حماس في غزة يحيى السنوار والناطق العسكري “أبي عبيدة” كما سلف ذكره.
وفي الخلاصة، فإن خطاب هؤلاء، الذين يَبقون أقلية منبوذة لا حيثية لها ولا تقدير ولا انتشار بين الشعوب العربية، هو خطاب نتنياهو والاحتلال وداعميهما، يرددونه بعلم أو ربما بعضهم بدون علم، ويحاولون أحيانا تغليفه بادعاءات الحرص والخوف على الشعب الفلسطيني في غزة.
إنه خطاب صهيوني، بلسان عربي مَهين.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس