الصورة: وكالة الأناضول
محمد قدو الأفندي - خاص ترك برس
تعتبر الزيارة التاريخية التي يقوم بها صاحب الجلالة هيثم بن طارق سلطان عمان إلى تركيا من أهم الزيارات التاريخية التي تستضيفها انقرة لمسؤول من الدول الإقليمية والشقيقة والصديقة لأنها تدعم وتثبت أركان علاقات أخوية تستمر منذ اكثر من ثلاث مائة عام، بل إن أقدم وثائق العلاقات بين البلدين تعود الى عام 1552 والتي تميزت على الدوام بالاحترام والتعاون في شتى المجالات والمواقف الإنسانية والأخوية.
في كثير من الأحيان يركز المراقبون والمحللون السياسيون على مؤشر العلاقات الاقتصادية كمعيار رئيسي لتقييم العلاقات الثنائية وفي الوقت نفسة لا يفصل فقهاء السياسة والدبلوماسية القوة الناعمة التي تفرض نفسها على منصات العلاقات الثنائية الدولية فتلك القوة تعتبر الطريق الممهد لمرور عجلة تطوير العلاقات الثنائية.
إن القوة الناعمة التي تمتلكها الدولتان سلطنة عمان والجمهورية التركية تجعل خيار تطوير العلاقات الثنائية بينهما حتميًا وضروريًا لأن الطرفين يقدمان أوليات وأفضليات ومساعي الطرف الآخر ورغباته في مستهل مشوار تطوير علاقاتهما.
لا يقف تأثير التاريخ على العلاقات الدولية عند كونه مجرد سياق زمني يحتضن الأحداث والتطورات، بل يمتد ليشمل دوره كمحفز ومحرك أساسي للتفاعلات بين الدول؛ فالذاكرة التاريخية للأمم، بما تحمله من إرث نفسي وعاطفي وأيديولوجي، غالبًا ما تُشكِّل الأساس الذي تُبنَى عليه التصورات والمواقف تُجاهَ الذات والآخر، وهو ما ينعكس بدوره على طبيعة العلاقات الثنائية والتحالفات الإقليمية والتوجهات الاستراتيجية للدول، هذا يعني أن التاريخ يحتم أن يكون فاعلًا في بناء التحالفات في المستقبل بين الدول. فلكي تبني دولة علاقة مع دولة أخرى فإنها لا بد أن تقيم التجربة التاريخية لهذه العلاقات، وتحاول أن تكتشف امكانيات التعاون، وهل يمكن أن تشجع هذه التجربة على بناء تحالف.
وهكذا فإن التاريخ لا يشكل فقط سياقاً استاتيكياً مكنونا للعلاقات الدولية، بل يلعب دوراً دينامياً مولدة نبضات في تحفيز وتوجيه تفاعلاتها، نحو التعاون والتكامل، وهنا ننقل بالنص ما كتبه صاحب الجلالة في تقديمه لكتاب عمان في الوثائق العمانية والذي يؤكد أهمية العلاقات التاريخية في المساهمة في بناء ورقي مختلف أوجه تطوير العلاقات الثنائية - يقول صاحب الجلالة في تقديمه لكتاب "عُمان في الوثائق العثمانية": "ساهمت الدولة العثمانية في توطيد الاستقرار في النطاق الجغرافي الذي امتدت إليه، ولتحقيق ذلك واجهت القوى المعادية في القرن السادس عشر الميلادي دفاعا عن المناطق والبلدان الخاضعة لسيطرتها، وتزامن ذلك مع احتدام الصراع العماني البرتغالي الذي بلغ أشده في القرن السابع عشر الميلادي والذي أفضى إلى تحرير السواحل العمانية ومنطقة الخليج ومناطق الامتداد العماني في شرق أفريقيا".
ويضيف جلالة السلطان بالقول: "مهد تنامي القوتين العمانية والعثمانية في العالم الإسلامي إلى تعزيز التعاون العسكري والسياسي والاقتصادي بينهما الذي شهد أوجه خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر حيث تكشف الوثائق والتقارير الرسمية حجم المراسلات المتبادلة بين سلاطين عُمان وسلاطين الدولة العثمانية؛ إذ عملوا على إيجاد استقرار في المنطقة وتأمين الملاحة الدولية الممتدة من عُمان إلى شرق أفريقيا وسواحل المحيط الهندي؛ ما ساعد على زيادة النشاط التجاري والسياسي".
ويقول جلالته حفظه الله: "ارتبط سلاطين عُمان بعلاقات جيدة وحظوا بمودة خاصة لدى سلاطين الدولة العثمانية، تجلت في حفاوة الاستقبال والتقدير الذي نالوه أثناء زياراتهم إلى إسطنبول. وفي المقابل، حظيت وفود الدولة العثمانية بالاهتمام والترحيب الكبيرين أثناء زياراتهم لمسقط وزنجبار".
وفي طبيعة الحال فإن الزيارة التي تم توقيتها بدقة نظرا لحاجة البلدين للتعاون الثنائي والمساهمة الواسعة من قبل الطرفين في تنويع وتوسيع العلاقات الاقتصادية والثقافية والمصرفية بين الدولتين والحاجة الملحة من الطرفين وخصوصا الأتراك في مساهمات واسعة في ميادين الاستثمارالصناعي والسياحي والمالي والعقاري لرجال الاعمال العمانيين في ربوع الجمهورية التركية فقد صرح رئيس الجمهورية التركية رجب طيب أردوغان بضرورة مساهمة رجال الأعمال العمانيين في توسيع نطاق مساهماتهم داخل تركيا تكافئا مع ما يقوم به رجال الأعمال الأتراك في سلطنة عمان، كما أن العمانيين يرغبون أيضا بزيادة المشاريع التي تنفذها الشركات التركية، رغم وجود أكثر من 849 شركة مسجلة بها مساهمة تركية بقيمة إجمالية 104.1 مليون ريال عُماني وبنسبة 79.24% من إجمالي رأس المال المستثمر في الشركات. ويركز المستثمرون الأتراك على الاستثمار في تجارة الجملة والصناعات التحويلية، والتشييد، وأنشطة الإقامة والخدمات الغذائية، والنقل والتخزين، والأنشطة المهنية والعلمية والتقنية، وأنشطة الخدمات الإدارية وخدمات الدعم، والمعلومات والاتصالات، إلى جانب الأنشطة العقارية، وأنشطة صحة الإنسان والخدمة الاجتماعية.
وكما كان متوقعا فإن الزيارة التي قام بها جلالة السلطان هيثم الى تركيا أحدث نقلة نوعية في علاقة البلدين وأن المرحلة اللاحقة التي تعقب الزيارة ستشهد علاقات واسعة بين المؤسسات العمانية والتركية في مختلف الميادين ويشمل القطاعين الخاص والحكومي حيث تم التوقيع على اتفاقيتين في مجال الاستثمار والصحة.
تمثّلت الاتفاقية الأولى في تنفيذ الشراكة بين جهاز الاستثمار العُماني وصندوق تقاعد القوات المسلّحة التركي (أوياك) وتهدف إلى تأسيس كيان مشترك بقيمة 500 مليون دولار أمريكي للاستثمار في قطاعات متنوعة تشمل الغذاء، والصناعة، والرعاية الصحية، والطاقة الجديدة، والاستهلاك، والخدمات اللوجستية، حيث سيتم الاستثمار في شركات قائمة أو مشاريع جديدة واعدة بإدارة مجلس مشترك يضم ممثلين من كلا الطرفين، كما تهدف الاتفاقية إلى تطوير الشراكات الاستراتيجية ودفع الاستثمارات التي تحقق الأهداف الاقتصادية والتنموية للطرفين مع الالتزام بمبادئ السرية والشفافية والحوكمة الفاعلة.
فيما تضمّنت الاتفاقية الثانية الموقّعة بين وزارة الصحة ونظيرتها التركية في مجال الصحّة عددًا من البنود، منها التعاون في المجالات الصحية والعلوم الطبية، والسعي إلى تطوير الشراكة بين البلدين في عدة محاور رئيسة تشمل الصحة العامة وإدارة المستشفيات والصناعات الدوائية والمعدات الطبية والاستثمارات الصحية ومجالات البحث العلمي وتنظيم المؤتمرات والمعارض الصحية.
وشمل التوقيعُ أيضا ثمان مذكرات تفاهم في مجالات المشاورات السياسيّة وترويج الاستثمار والثروة الزراعيّة والسمكيّة والحيوانيّة والمائيّة والعمل والتشغيل وريادة الأعمال والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة والتعاون بين البنوك المركزية والتعاون الثقافي.
وشملت مذكرة المجال السياسي بين وزارة الخارجية ونظيرتها التركية تنظيم مشاورات سياسيّة تأكيدًا على التزام البلدين بتطوير علاقاتهما الثنائية واستكشاف مجالات تعاون جديدة في مختلف القطاعات السياسية والاقتصادية والثقافية والتكنولوجية والعلمية.
وفي المجال الدبلوماسي وقّعت وزارةُ الخارجية ممثّلة بالأكاديمية الدبلوماسية على مذكّرة تفاهم مع نظيرتها التركية ممثلة بالأكاديمية الدبلوماسية؛ وتهدفُ إلى تعزيز التعاون بين الجانبين في مجال الدراسات الدبلوماسية والتدريب من خلال تبادل الخبرات والمواد التعليمية والمناهج المتخصصة، بالإضافة إلى تنظيم المحاضرات وتبادل أعضاء هيئة التدريس والدبلوماسيين، بما يسهم في تحسين المهارات المهنية وتعزيز الكفاءات في مجالات السياسة الخارجية، والعلاقات الدولية، والقانون الدولي، والاقتصاد الدولي.
وفي مجال ترويج الاستثمار وقّعت وزارةُ التجارة والصناعة وترويج الاستثمار، ومكتب الاستثمار في رئاسة الجمهورية التركية على مذكرة التفاهم في مجال الاستثمار.
وتهدف المذكرة إلى إنشاء إطار عمل مشترك لتسهيل تبادل المعرفة والخبرات في قطاعات حيوية تشمل الأمن الغذائي، والزراعة، واللوجستيات والنقل، ومشروعات البنية الأساسية، والمعادن، والمشروعات المالية والمصرفية، والسياحة، وتقنية المعلومات، والصناعة، مع إمكانية توسيع المجالات مستقبلًا.
وتطرقت مذكّرة المجال الزراعي بين وزارة الثروة الزراعية والسمكية وموارد المياه ووزارة الزراعة والغابات التركية إلى التعاون في مجالات الزراعة والثروة الحيوانية والسمكية والمياه، وتبادل المعلومات، والتجارب البحثية، والتنمية الريفية، إضافةً إلى تشجيع الاستثمارات المشتركة في القطاع الزراعي والغذائي، وتطوير الإنتاج الزراعي من خلال تقنيات حديثة والإدارة المتكاملة للموارد المائية، وتطوير تقنيات تحلية المياه، والاستفادة من الطاقة المتجدّدة، وتعزيز القدرات الوطنية في إدارة الفيضانات.
وفي مجال العمل، تضمنت المذكرة الموقّعة بين وزارة العمل ووزارة العمل والضمان الاجتماعي التركية تعزيز التعاون في العلاقات العمالية والصحة والسلامة المهنية وتفتيش العمل وسياسات التشغيل ودعم تشغيل ذوي الإعاقة والتوظيف المهني وتبادل الخبرات وأفضل الممارسات في مجال التدريب والتوجيه المهني.
وتضمنت المذكرة في الجانب التجاري بين هيئة تنمية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة ووزارة الصناعة والتكنولوجيا التركية تعزيز التعاون في مجال ريادة الأعمال وتطوير المؤسسات الصغيرة والمتوسطة وتبادل المعلومات والخبرات لدعم الابتكار والتمويل والحلول المبتكرة.
أما في مجال عمل المصارف المركزية فقد وقّع البنك المركزي العُماني والبنك المركزي التركي على مذكرة تفاهم لتعزيز التعاون في مجالات عمل المصارف المركزية؛ وتهدف إلى تعزيز تبادل المعلومات والمعرفة، وإقامة حوارات دورية على مستوى الخبراء، وتنظيم أنشطة مشتركة تشمل التدريب، وحلقات العمل، والبحث، والتعاون في مجال أنظمة الدفع وأنشطة المؤسسات العابرة للحدود وتتضمن بنودًا لضمان الامتثال للقوانين المحلية والحفاظ على سرّية المعلومات، وتنظيم اجتماعات سنوية لتقييم سَيْر العمل.
وهدفت مذكرة التفاهم في المجال الثقافي بين وزارة الثقافة والرياضة والشباب ووزارة الثقافة والسياحة التركية إلى تعزيز التعاون الثقافي بين البلدين الصديقين من خلال تبادل المعلومات حول الفعاليّات وتنظيم الأيام الثقافيّة وتطوير التقنيات الثقافيّة وتبادل الخبرات في مجال المكتبات الوطنية وحماية المجموعات الثقافية وترميمها ورقمنتها وتشجيع الفنون والصناعات الثقافية، وإقامة معارض فنية مشتركة وتبادل زيارات الفنانين والموسيقيين والمشاركة في المهرجانات المسرحية، والموسيقية، والسينمائية، بالإضافة إلى التعاون في مجالات الفنون البصرية.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس