
ترك برس
إلى جانب تاريخها العريق الممتد لآلاف السنين، تشتهر مدينة قيصري التركية بمطبخها الغني وأطباقها الفريدة ومنتجاتها المحلية التي أصبحت علامات مميزة للمدينة، إلى درجة أن بعضها ارتبط باسمها وأصبح يُعرّف بها عالميًا.
ولا يقتصر تراث قيصري على الطعام فحسب، بل يشمل كذلك الحرف التقليدية والفنون اليدوية التي ما تزال حاضرة بقوة حتى اليوم.
جيلابورو.. الفاكهة الساحرة
تُعد فاكهة جيلابورو إحدى الكنوز الطبيعية لقيصري، وهي حبات صغيرة مستديرة خضراء تشبه العنب في حجم العدس، يتكوّن العنقود الواحد منها من 30 إلى 40 حبة. ومع اقتراب فصل الخريف يبدأ لونها بالاحمرار، وتُجمع عادة في شهر أكتوبر. بعد الحصاد تُغسل الثمار وتُخزن في مكعبات مع إضافة الماء وحفظها في أماكن باردة ومعتمة. وتشتهر هذه الفاكهة بقدرتها العلاجية، إذ يُعتقد أنها تساعد على تفتيت حصى الكلى وتسكين الآلام.
بسطرمة قيصري.. الملكة المتوّجة
لا يكتمل الحديث عن قيصري دون ذكر البسطرمة، التي تُعتبر من أشهر منتجاتها وأكثرها انتشارًا. يتم تحضيرها من لحم البقر أو الجاموس، عبر خطوات دقيقة تبدأ بالتقطيع والتشريح، ثم التمليح، فالتبييض والتحليب، وصولاً إلى شبه التجفيف. هذه التقنية التقليدية تمنح البسطرمة نكهتها المميزة ورائحتها الشهية، حتى باتت تُعرف عالميًا باسم "بسطرمة قيصري".
مانتي قيصري.. مذاق يروي الحكاية
الطبق الأشهر على الإطلاق هو المانتي، الذي ارتبط اسمه بمدينة قيصري ارتباطًا وثيقًا. يُحضَّر من عجينة مصنوعة من الدقيق والماء والبيض والملح، تُقطع إلى مربعات صغيرة، ثم يُحشى كل منها بكمية من اللحم المفروم وتُلف بعناية قبل طهيها. ويُقدم المانتي غالبًا مع اللبن والثوم وصلصة الطماطم بالزبدة، ليجمع بين البساطة واللذة في آن واحد.
العصيدة.. حلاوة المطبخ القديم
من الأطباق التراثية التي تعود جذورها إلى المطبخ العربي في العصور الوسطى العصيدة. وهي نوع من الحلوى الطحينية الشعبية، تُحضر عبر طهي الدقيق أو الأرز حتى يتحول إلى عجينة سميكة، ثم يُضاف إليها الدبس أو العسل والجوز والفول السوداني والسمن، لتكون طبقًا غنيًا بالطاقة والنكهة.
يخنة العيد.. تقليد متوارث
في صباح اليوم الأول من الأعياد الدينية، يجتمع أهل قيصري على مائدة يخنة العيد. يتكون هذا الطبق من لحم الضأن المقلي مع البصل والحمص، يُطهى ببطء مع الصلصة والتوابل المتنوعة، ليحمل نكهة خاصة تعبّر عن روح المناسبة وفرحة اللقاء.
حساء البولاماج.. طعام البسطاء
البولاماج نوع من الحساء الشعبي يُصنع من الدقيق والزيت واللبن. ورد ذكره في "ديوان محمود الكشغرلي" باسم "بولجاما"، وكان يُعتبر طعام الفقراء في العهد العثماني. ومع مرور الزمن، تطورت وصفته ليُطهى أحيانًا بالجبن أو السكر، لكنه بقي رمزًا للأصالة والبساطة.
جمان.. بهارات بطعم خاص
من المذاقات المميزة في مطبخ قيصري الجمان، وهو منتج طبيعي فاتح للشهية، يُحضّر من مزيج التوابل ومعجون الطماطم والثوم والملح والماء، ويُباع في أوعية صغيرة. يحظى الجمان بشعبية واسعة، خصوصًا كمقبل لذيذ على الموائد اليومية.
أنواع المانتي المتعددة
لم تقتصر قيصري على شكل واحد من المانتي، بل أبدعت أشكالًا مختلفة منه:
المانتي الشركسية: يُصنع من عجين مقطّع على شكل مثلثات يُحشى بالبطاطا المسلوقة والبصل، ويُقدّم مع الزبدة والفلفل الأحمر.
المانتي بالصينية: تُرص العجينة المحشوة باللحم المفروم على صينية مدهونة بالزيت، وتُطهى في الفرن أو على الموقد، ثم يُضاف إليها اللبن والثوم مع الصلصة لتُقدّم ساخنة وشهية.
دمى صوغانلي القماشية.. حرفة تحمل الهوية
في قرية صوغانلي، يعتمد السكان على صناعة الدمى القماشية كأحد مصادر رزقهم. تُصنع هذه الدمى من قماش بسيط مثبت على قضيب خشبي، وتُزيَّن بالترتر والزخارف، لتعكس هوية المنطقة وتُباع كتذكار سياحي يجذب الزوار.
سجاد بنيان.. نقاء الطبيعة
يُعد سجاد بنيان من أبرز منتجات قيصري التقليدية، حيث يُنسج يدويًا باستخدام الصوف الطبيعي والأصباغ النباتية. منذ عام 1907، بدأ استخدام خيوط القطن والأصباغ الاصطناعية جزئيًا، لكن ما يميز هذه السجادة هو حفاظها على أصالتها وجمالها الطبيعي.
سجاد يحيالي.. ألوان لا تزول
أما سجاد يحيالي، فهو تحفة فنية حقيقية تُنسج من الصوف وتُصبغ بمواد طبيعية مثل الطين وأوراق العنب والجوز والنبق. ما يميز هذا السجاد هو ثبات ألوانه وجودته العالية، حتى بعد مرور سنوات طويلة من الاستخدام.
محلات الإنتاج تحت الأرض.. إرث صناعي عثماني
إلى جانب المطبخ والحرف اليدوية، تضم قيصري منشآت إنتاج تقليدية تحت الأرض، حيث وُجدت مطاحن حجرية تُعرف بـ"حجر الستين" تُستخدم لاستخراج زيت بذر الكتان البري المعروف محليًا بـ"زيرك". وقد اشتهرت منطقة أغيرناس خلال العهد العثماني بزراعة الكتان وإنتاج هذا الزيت، الذي كان يدخل في صناعة الصابون والطلاء.
قيصري اليوم لا تزال تحمل روح التاريخ في مطبخها وأطباقها وحرفها التقليدية. فمن جيلابورو إلى البسطرمة، ومن المانتي إلى السجاد اليدوي، تبقى هذه المدينة نموذجًا فريدًا يربط بين التراث العريق والحياة اليومية، لتُقدّم للعالم صورة متكاملة عن غنى الثقافة الأناضولية وعمقها.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!