ربيع الحافظ - الجزيرة.نت
ثمة تشابه بين المشهد التركي الراهن وبين المشهد البريطاني القريب. في مطلع هذا العام خاضت المملكة المتحدة استفتاء حول مطلب لانفصال مقاطعة إسكتلندا دعا إليه القوميون الإسكتلنديون. كان التكهن بنتيجة الاستفتاء صعبا للغاية ووجدت الدولة وأهل الرأي فيها أنفسهم أمام عجز وهم يتابعون سير اتحادهم نحو الهاوية.
المهم في الأمر أن شيئا مما كان يحصل لم يتعارض مع قوانين الدستور التي وضعت لحماية البلاد، وكان بمثابة استخدام الدولة لهدم الدولة. كان إحساس الساسة والمشرعين ومراكز الفكر كمسافر في طائرة مخطوفة تنتظر حتفها.
كانت التداعيات التي يمكن أن ينجم عنها الاستفتاء أكبر مما تحيط به مدارك المواطن البريطاني الذي ستتفكك دولته أو الآخر الذي سيخرج من تحت أنقاض الدولة تحت اسم جديد وحجم أصغر هو الإنجليزي أو الإسكتلندي، ولم يكن للغة العقل واللسان والإحصاءات حضور مع قطاعات تسمع الوعود ولا تبصر النتائج.
في عشية الاستفتاء عرضت BBC برنامجا يرسم نتيجتي الاستفتاء، الأول لواقع الحياة القائمة والثاني لما يمكن أن يواجهه المواطن عند خروجه من بيته صباح اليوم التالي، ومن ذلك:
انشطار المملكة المتحدة والبحث عن اسم جديد للبلاد. هل تبقى مملكة أم تصبح جمهورية وماذا تفعل الملكة؟ هل سيكون هناك رئيس وزراء للإنجليز بدلا عن رئيس وزراء بريطانيا العظمى؟ مصير العملة النقدية الوطنية، مصير المقعد الدائم في الأمم المتحدةلدولة لم تعد موجودة، مدى وزن الدولة الجديدة في الأحلاف الدولية، الاتحاد الأوروبي، الناتو، ثقة العالم في سوق أسهم لندنوالاقتصاد البريطاني سابقا، هجرة الاستثمارات الأجنبية، تأشيرة سفر بين مدن بريطانيا السابقة، تعطل حركة القطارات بسبب الحدود السياسية.
اختار الإسكتلنديون وحدة الدولة رغم مآخذهم على حكومة لندن، أما تعاطفهم واختيارهم الكاسح للقوميين فعادوا ومنحوه لهم في انتخابات محلية لاحقة تحدث تحت سقف الدولة الموحدة.
كان أمام الإسكتلنديين الاختيار بين دولة موحدة لها منزلتها بين الأمم وبين مطالب قومية يمكن نيلها في عملية سياسية لا تهدم المعبد من الداخل، ووقع اختيارهم على الأولى. أما الإنجليز فقد كان الاستفتاء بالنسبة لهم محاولة ضربة قاضية لوريث الإمبراطورية السابقة.
تدخل BBC الذي كان افتراضيا ودام لبضع دقائق قلب الاستفتاء من استفتاء يطرق الأسماع إلى آخر يواجه الأبصار، ومن استفتاء على الشعارات إلى استفتاء عن النتائج، واتهمت BBC بالانحياز والتأثير على النتائج لصالح الدولة والحكومة.
في تركيا بدا واضحا في الانتخابات السابقة فشل حكومة وثبت بالدولة والمجتمع إلى مصافات عالمية، ليس في إيصال رسالة إنجازاتها إلى أطياف الشعب، وإنما في إيصال رسالة تبعات زوال هذه الحكومة، وبدا واضحا غياب مؤسسة إعلامية وطنية تذود عن المصالح الوطنية العليا ونجاحات دولة بحجم تركيا بصرف النظر من أي طريق أتت هذه النجاحات.
في بريطانيا سما الإعلام الوطني فوق الحدث وانحاز إلى المصلحة الوطنية ونجت بريطانيا، في حين يحسب الإعلام الذي يروج لمصالح تركيا القومية على طيف سياسي محدد يسهل رميه بعدم الحياد، وتتمادى في الطرف الآخر مؤسسات إعلامية في لعبة سياسية ولو على حساب سلامة الدولة.
لكن الاختراق الاجتماعي الذي حققه الإعلام الوطني في بريطانيا عوضته تركيا في الفترة التي تلت الانتخابات السابقة والتي كانت فيلما واقعيا ثلاثي الأبعاد دام تسعين يوما حول ما يعنيه زوال حكومة الحزب الواحد وانزلاق البلاد من جديد في طور الحكومات الائتلافية. لم يكن الفيلم من إنتاج الأستوديوهات الإعلام "المنحاز" وإنما شاشته العملاقة هي الشارع والسوق والمدرسة والمستشفى والمنتجعات السياحية والمصورون هم المواطنون.
كل معالم المشهد القاتم الذي حذرت منه BBC شعبها تابعها المواطن التركي على مدى تسعين يوما، وبقيت النتائج. من عُذر بجهل في الانتخابات السابقة لن يعذر بمعرفته لأحزاب ثبت أنها تعرف كيف تسقط حكومة لكنها لا تعرف كيف تشكل أخرى، ولا يُعذر مواطن تركي حيث أُطري مواطن إسكتلندي أبدى حرصا على اتحاد سياسي قام على المصالح ولا شيء غير المصالح.
الأتراك أدرى الناس بشؤون وطنهم، ولكن من حق كل شعب التعرف على نظرة محيطه إليه، ومن حق الأتراك معرفة كيف ينظر محيطهم إلى دولتهم ونظامهم السياسي والاجتماعي قبل وبعد حقبة مهمة مرت بها بلادهم.
انقسم تاريخ التجاور بين العرب والأتراك (المجتمعات وليس النظم السياسية) في أعقاب الحرب العالمية الأولى وانتهاء التعايش الإقليمي بينهم ممثلا بالدولة العثمانية إلى حقبتين رئيسيتين غير متكافئتين زمنيا، الأولى من عام 1923 إلى 2002 والثانية ما بعد عام 2002.
لم تمثل تركيا في الحقبة الأولى إضافة ما إلى رصيد الجوار المشترك على أي صعيد كان، ولا سجلت حضورا في حسبان الشعوب العربية كدولة إقليمية رئيسية في المنطقة لها نكهة تتعرف عليها حواس الجوار، ولم تكن مؤسساتها الأكاديمية أو الصحية موضع التفات أو قبلة لمن يرنو إلى المجد، بل كانت تتدنى عن نظيراتها في الحواضر العربية، ولا يشعر زائر تركيا أنه في بيئة أكثر نماء وثقافة بل كانت الحواضر العربية بغداد ودمشق وبيروت تتخطى كبريات مدنها في العمارة والخدمات ومهرجانات الثقافة.
إذا أردنا استعارة مفردات التحولات الاجتماعية في القاموس السياسي العربي الحديث لوصف الحقبة الثانية فإن وصول العدالة والتنمية إلى الحكم كاكتشاف النفط في البلاد العربية، وإذا وجد في السلم الاجتماعي العربي الحديث جيل ما قبل وبعد النفط أو جيل الفقر وجيل الرخاء فإن في تركيا -للناظر من الخارج- جيل ما قبل وبعد العدالة والتنمية.
ومثلما أن جيل الرخاء في المحيط العربي يسمع عن أزمان العوز ولم يرها فإن جيل ما بعد العدالة والتنمية الذي سمع -في أحسن الأحوال- عن شظف الحياة السابقة ولم يرها ولا يقدر على تخيل مدنها من دون الخدمات والرفاهية ومظاهر الثراء التي هبطت عليها تماما كالعربي الذي فتح أعينه وسط ناطحات السحاب والقطارات المسيرة من دون سائق.
من جهة أخرى، مثلت الحقبة الثانية إعادة اكتشاف الذات وإحياء للغة التواصل مع المحيط. وبحلول الانتعاش الاقتصادي والثقافي والاجتماعي غدت تركيا أنموذجا أخيرا للكيان الاجتماعي التعددي، الدولة المركزية التي تجتمع فيه مقومات الدولة الإقليمية في منطقة يكتسحها مد طائفي وعرقي هدم نظمها الاجتماعية والسياسية.
إن مجتمعات المحيط العربي تتأسف اليوم على نجاح ضاع وتيه أتى، ودخل ساستها المعاصرون التاريخ بتخريب بيوتهم بأيديهم وزوال هيبتهم، هل يقبل الأتراك هذا لبلادهم؟ عزاء هذه المجتمعات هو أن ضياعها وهدمها إنما وقع بفعل عدو خارجي مباشر، فهل يرضى الأتراك أن ينتخبوا التيه السياسي بأصواتهم؟
بعد 13 عاما من نظام سياسي واجتماعي أدار هذه الحقبة فإن التصويت في الانتخابات الحالية ليست تصويتا لحزب بعينه أو أشخاص دون غيرهم، إنما هو تصويت على نظام جلب الاستقرار في الداخل ونظام يتحدث لغة يفهمها محيط يعيد لتركيا أذرعا إقليمية هي بأمسّ الحاجة إليها ما زالت تفتقدها.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس