ترك برس

أوضحنا في السلسلة السابقة لدراسة المؤرخ "جولتكين يلديز" حول محاولات زج الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى أن حكومة الاتحاد والترقي أرادت القضاء على العزلة الدولية التي مُنيت بها الدولة العثمانية في السنوات الأخيرة من حكمها، لذا اتجهت نحو التحاور مع حكومات الدول العظمى مثل إنجلترا وفرنسا لإقناعهم بإقامة علاقات دبلوماسية وطيدة وتحالف عسكري قوي، ولكن كلا الدولتين رفضت ذلك العرض، خشيةً من الاصطدام مع الإمبراطورية الروسية.

وفي ظل افتقار الدولة العثمانية للخيارات المتعددة، لم يبق أمامها سوى الإمبراطورية الألمانية، وعلى الرغم من معارضة الإمبراطور الألماني "فيلهلم الثاني" للتحالف مع الدولة العثمانية، إلا أن وزير خارجيته ومبعوثه العسكري الخاص إلى الدولة العثمانية وسيفره أقنعوا الإمبراطور بضرورة إقامة اتفاق مع الدولة العثمانية، للاستفادة من موقعها الجغرافي الاستراتيجي وخيراتها الاقتصادية المديدة.

ولتسليط الضوء بشكل أكبر على المجريات الخاصة بمحاولات بناء التحالف السياسي والعسكري بين الدولة العثمانية والإمبراطورية الألمانية، نكمل نقل الدراسة الخاصة بالمؤرخ التركي المذكور أعلاه جولتكين يلديز، حيث يُوضح أنه بعد انقطاع الأمل في إرساء تحالف متين بين الدولة العثمانية وبريطانيا أو فرنسا، وجه رواد حكومة الاتحاد والترقي قبلتهم نحو ألمانيا، ولم يكن لهم نية أخرى بمعنى أدق لم يكن لهم خيار بديل عن الاتحاد مع ألمانيا، ذلك التحالف الذي شكل السبب الرئيس في انهيار الدولة العثمانية.

ويُشير يلديز إلى أن قادة حكومة الاتحاد والترقي أصبحوا على يقين أنه في حين اشتعلت الحرب بين الدولة العثمانية والإمبراطورية الروسية المتحالفة مع بريطانيا وفرنسا، فإن الإمبراطورية الروسية ستكون بعد أسبوع على مشارف إسطنبول وستتمكن من احتلال إسطنبول لا محالة، مبينًا أن هذا الاعتقاد اليقيني دفعهم وبشدة للاتحاد مع الإمبراطورية الألمانية لتشكيل سد رادع للإمبراطورية الروسية.

ويبيّن يلديز أنه في ظل هذا الاعتقاد القاطع، اتجه رئيس الحكومة "سعيد حليم باشا"، في آب/ أغسطس 1914، إلى إجراء مشاورات دبلوماسية مكوكية مع الوفد الألماني الذي حل ضيفًا على الدولة العثمانية في قصر يني كوي.

هذا واستنادًا إلى وثائق أرشيف الدولتين الألمانية والروسية التي تناولها المؤرخ التركي "مصطفى أق سال"، يؤكّد يلديز أن رئيس حكومة الاتحاد والترقي ووزير داخليتها ارتكزا بشكل كبير على التهديدات الشديدة "غير الحقيقية" في تعاملهم مع الوفد الدبلوماسي الألماني، حيث أكّدوا له مرارًا وتكرارًا أنهم بصدد إجراء تحالف وثيق مع دول التحالف، ولكنهم لن يفعلوا ذلك، لرغبتهم الشديدة في التحالف مع الإمبراطورية الألمانية الأكثر انصافًا وقوة، موضحًا أن الوفد الدبلوماسي لم يكن على علم بالرفض الذي مُنيت به الدولة العثمانية من بريطانيا وفرنسا، لذا استغلت حكومة الاتحاد والترقي جهلهم بذلك، وعلى الرغم من عدم اقتناع الوفد الدبلوماسي بهذه الادعاءات الديماغوجية، إلا أن الإمبراطور الألماني فيلهلم الثاني اقتنع بها وأوعز الوفد الدبلوماسي بضرورة أخذ عرض الدولة العثمانية للتحالف على محمل الجد.

ويُضيف يلديز منوّهًا إلى أن إمبراطورية النمسا والمجر أعلنت الحرب على صربيا في الرابع عشر من تموز/ يوليو 1914، وبذلك الحين كانت المشاورات الدبلوماسية بين الطرفين لا تزال سائرة، وبعد إعلان إمبراطورية النمسا والمجر الحرب على صربيا، دعا سعيد حليم باشا، باستشارة من وزير الداخلية "أنور باشا"، رئيس الوفد الدبلوماسي والسفير الألماني لدى الدولة العثمانية "فون وانغاهيم" إلى قصر دولما باهجا، واقترح عليه إجراء اتفاقية تعاون دفاعية سرية فورية ضد أي هجوم روسي للدولة العثمانية، ووافق وانغاهيم على ذلك، وبذلك أضحت الدولة العثمانية طرف من الاتفاق الثلاثي الموقع بين ألمانيا وإيطاليا وإمبراطورية النمسا والمجر عام 1882.

ويلمح يلديز إلى أن دخول الدولة العثمانية إلى الاتفاق الثلاثي لدول المحور لم يعلم به سوى وزير الداخلية "أنور باشا" العقل المدبر له، ووزير الدفاع "طلعت باشا" ورئيس مجلس المبعوثان "خليل باشا" والسلطان "محمد رشاد"، أما رجال الدولة رفيعي المستوى والموظفون العاديون فلم يكونوا على أي علم بتلك الخطوة.

ويُشير يلديز إلى أن مدة الاتفاقية كانت محددة بأربع أعوام، وهذا ما تم جبرًا وليس اختياريًا، حيث انتهت الحرب العالمية الأولى عام 1918، ورافق انتهاء الحرب العالمية الأولى هزيمة دول المحور، الأمر الذي جعل تمديد هذه الاتفاقية أمرًا مستحيلًا، مبينًا أن الاتفاقية كانت تشمل مادة تنص على دخول الدول الحليفة الحرب إلى جانب بعضها البعض في حين أعلنت أحد الدول الحرب على دولة أخرى أو في حين تعرض الدول المتحالفة لهجوم من طرف دولة أخرى، وفي ظل إعلان ألمانيا الحرب على روسيا في الأول من أغسطس 1914، أصبحت الدولة العثمانية شريكة لها في ذلك، وفي الثاني من آب أعلنت الدولة العثمانية التعبئة العامة بشكل مفاجئ جدًا بالنسبة لمواطنيها والموظفين العاملين داخل أروقتها.

دخلت الدولة العثمانية التحالف مع ألمانيا للتخلص من العزلة الدبلوماسية وتحصين نفسها أمام أي هجوم يتم من قبل الدول الأخرى، وخاصة الإمبراطورية الروسية، ولكن على النقيض من الهدف المنشود، أودى التحالف العثماني الألماني بحياة الدولة العثمانية إلى الأبد، وشكل السبب الرئيس في القضاء على الدولة العثمانية التي بدأ حكمها السياسي لطيف جغرافي واسع عام 1299.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!