علي حسين باكير - القبس
في 31 مارس نشرت قيادة الاركان التركية بياناً على موقعها الإلكتروني تناولت فيه ما قالت أنّه ادعاءات صحافيّة تطال المؤسسة العسكرية وتتعلق بمحاولة القيام بانقلاب عسكري، وبوجود أفراد داخل المؤسسة العسكرية يتبعون لـ «الكيان الموازي» في إشارة الى حركة فتح الله غولن.
وقد نفى الجيش في البيان بشكل حازم نيّته القيام بانقلاب عسكري في البلاد، مؤكّداً أنّ الجيش التركي ملتزم بدستور البلاد، ويعمل تحت إطاره في كل الظروف الصعبة في مختلف انحاء البلاد من أجل حماية الشعب من المخاطر التي يتعرّض لها. كما أكّد البيان على أنّ الانضباط والطاعة غير المشروطة لعناصره وعلى عمله وفق مبدأ التسلسل القيادي، مشيرا الى أنّ هذا ما يمكنّ الجيش بان لا يسمح بأن يتم خرق سلسلة القيادة أو ان تتعرض للخطر.
ولفت بيان قيادة الأركان التركية الى أنّ الادعاءات التي تروّج عن الجيش لها دوافع مختلفة بعيدة عن الواقع، متوعدا بملاحقة قضائية لكل من يتداول ويروّج لمثل هذه الإدعاءات. وعلى الرغم من أنّ الجيش لم يحدد في بيانه الادعاءات الصحفية التي كان يردّ عليها، الا أنّه من الواضح أنّ البيان جاء ليرد على نوعين من الادعاءات، الأول يروّج لوجود عناصر تابعة لما يسمى في تركيا الكيان الموازي داخل مؤسسة الجيش تحضّر لانقلاب عسكري على القيادة وتاليا على البلاد، والثاني تحريضيّ يدعو المؤسسة العسكرية الى الانقلاب على السلطة السياسية وإمساك زمام الحكم على «الطريقة المصرية» كما تقول.
تحريض أم تساؤل؟
في 21 مارس الماضي نشر مركز «أميركان انتربرايز انستيتيوت» مقالا لمايكل روبن تحت عنوان «هل سيكون هناك انقلاب عسكري ضد أردوغان؟»، لكن مضمون المقال لم يكن تساؤلا بقدر ما كان تحريضاً جليّاً على القيام بانقلاب عسكري، فبعد أن استفاض مايكل روبن في شرح الأسباب الملائمة للقيام بانقلاب عسكري من خلال تصويره للوضع السياسي والاقتصادي والامني في تركيا بشكل سوداوي، وأن ذلك سيؤدي في نهاية الأمر الى حرب أهلية والى تقسيم تركيا، أشار الى أنّ التحليل يؤكّد أنّه سيكون باستطاعة الجيش أن ينقلب على أردوغان ويضعه ودائرته خلف القضبان، وأن ينجو بذلك دون أي تبعات، داعياً الجيش التركي الى تقليد «الخطّة في مصر»، ومؤكدا على أنّ أحداً في العالم لن يعترض على هذا الامر او يتدخل لحماية أردوغان إن جرى «بدليل ما حصل في مصر، وبدليل ما حصل في تركيا ايضا خلال الانقلابات السابقة».
لقد أثارت هذه المقالة حالة من الجدل واللغط بين الجمهور التركي، لاسيما في وسائل التواصل الإجتماعي، البعض اعتبرها مؤشراً على وجود شيء ما يعدّ في واشنطن لتحقيق هذا الانقلاب بدليل ان المقال يأتي من هناك، ومايكل روبن ليس مجرّد كاتب فهو مسؤول سابق في وزارة الدفاع الأميركية، ولايزال يلقي محاضرات أكاديمية على العسكريين الذين يتم إرسالهم الى الشرق الأوسط، كما أنّه نشر بعد مقاله هذا مقالين آخرين في 28 و31 مارس يشبّه بأحدهما تركيا بأنّها أصبحت باكستان البحر الأبيض المتوسط، ويقول في الثاني أنّه لا يمكن هزيمة تنظيم «داعش» طالما أنّ أردوغان موجود في السلطة فيما يبدو انّه هجوم ممنهج على السلطة السياسية في تركيا.
البعض الآخر اعتبر أنّها بمنزلة إشارة البدء لعناصر تابعة للكيان الموازي داخل الجيش للتحرك وتنفيذ انقلاب، خصوصاً أنّ راسم أوزان كوتاهايلي (وهو كاتب في صحيفة صباح المحسوبة على الحكومة)، كان قد نشر مقالاً فيها بتاريخ 27 مارس، أي بعد ستة أيام فقط من مقال مايكل روبن، أشار فيه الى أنّ الطيار الذي أسقط الطائرة الروسية تابع لجماعة فتح الله غولن، وأنه فعل ذلك لتوتير العلاقة مع روسيا، لافتاً إلى أنّ هناك تقارير تشير إلى أنّ حوالي %50 من طيّاري مقاتلات الـ«أف – 16» التركيّة ينتمون إلى جماعة فتح الله غولن، وأنّه يجب أن يتم إقصاؤهم خلال اجتماع الشورى العسكري هذا الصيف، وإذا حاول خلوصي اكارد (رئيس هيئة الأركان) النقاش أو المماطلة، فسيتم حمله على تقديم استقالته فوراً.
المعطيات تغيرت
في تركيا لعب الجيش دوراً سيئاً للغاية في الحياة السياسية خلال عقود طويلة، وعلى الرغم من الشعبية التي يتمتع بها الجيش فإن التدخل في السياسة كان عاملاً سيئاً ساعد على تدهور وضع البلاد إلى مستوى غير مسبوق، خصوصاً في فترات الانقلابات العسكرية، إذ كان الجيش التركي قد أطاح في عام 1960 بعدنان مندريس، أول رئيس حكومة منتخب ديموقراطياً في الجمهورية التركية وقام بمحاكمته وإعدامه مع اثنين من وزرائه، تلا ذلك انقلاب عام 1971 الذي أطاح بسليمان ديميريل، ثم الانقلاب الدموي للجنرال كنعان أفريم عام 1980 والذي مهد لدستور عام 1982، وأخيراً انقلاب عام 1997 على نجم الدين أربكان.
الداعون الى انقلاب عسكري اليوم في تركيا لا يفهمون بأنّ كثيراً من المعطيات التي كانت تتيح للجيش القيام بذلك دون أي عقبات أو عواقب تذكر قد تغيّرت بشكل جذري خلال ما يزيد على عقد من الزمان، لا سيما من خلال التعديلات الدستورية، وأهّما تعديلات عام 2004 و2010 التي مهّدت للكشف عن محاولات الانقلاب التي يقوم بها العسكريون، كما فتحت المجال واسعاً أمام محاسبتهم قضائياً عليها وعلى تلك الانقلابات التاريخية الشهيرة التي قاموا بها سابقاً، مما أدى إلى فتح عدّة قضايا حول التخطيط ومحاولة تنفيذ انقلاب ضد حكومة أردوغان، كقضية شبكة أرغنكون وقضية القفص التي حوكم فيها عشرات الجنرالات ومئات الضباط وعناصر أخرى بتهمة محاولة الانقلاب على حكومة العدالة والتنمية.
تركيبة «الأمن القومي»
وقد جرى بعد ذلك تغيير تركيبة مجلس الأمن القومي لمصلحة المدنيين وبرئاسة مدني، واتخاذ العديد من الإجراءات التي تقلّم أظافر الجيش وتقلّص دوره الى أقصى حد ممكن في السياسة الى أن تمّ في 17 يوليو 2013، إقرار تعديل المادة 35 من قانون الخدمة العسكرية الداخلي والمتعلقة بدور الجيش في الدستور، والتي استُعملت مرات عديدة لتبرير الانقلابات العسكرية في البلاد بحجّة دور الجيش في حماية علمانيّة البلاد من التهديدات الداخلية، فيما حددت هذه المادة وفق التعديلات التي تمت دور الجيش ومهمة القوات المسلحة بالدفاع عن الوطن والجمهورية تجاه التهديدات والأخطار الخارجية. وقد أنهى هذا التعديل الدور السياسي للجيش وأخضعه بشكل تام للقيادة المدنية السياسية.
هذه المعطيات دفعت حتى حزب الشعب الجمهوري (وهو اكبر أحزاب المعارضة في البلاد) عبر زعيمه كليجدار أوغلو، الى إعلان رفضه القاطع لأي تدخل للجيش في مسار العملية الديموقراطية في البلاد على إثر الجدل الذي ثار وفي تأكيد على الدور الذي اناطه الجيش لنفسه في البيان الذي أصدره أخيراً، مشيراً إلى أنّ تدخل الجيش يعني اعادة المشهد الذي منع تركيا من التقدم لـ 80 عاماً.
وأشار إلى أن عقلية قادة الجيش تغيّرت كثيراً عمّا كانت عليه في السابق، مبيناً أن الجيش نأى بنفسه عن التدخل في السياسة منذ عام 2007، ولا يبدو أنه بحاجة إلى تكرار تدخله في السياسة، لأنه يعي تماماً الثمن الباهظ الذي ستدفعه تركيا نتيجة لهذا الانقلاب، فالمنطق ومستوى وعي الجيش التركي تغيّر بشكل جذري.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس