جلال سلمي - خاص ترك برس
لا يخطئ من يقول إن تركيا منافس رئيسي لروسيا بعد الولايات المتحدة الأمريكية، ويمكن الجزم بأن تركيا، بثوبها العثماني الذي عادت ترتديه في ظل حكومة حزب العدالة والتنمية، أمست المنافس الأول لروسيا على صعيد الساحة السياسية الإقليمية.
1
ظهرت الأهداف التوسعية للإمبراطورية الروسية في النصف الثاني للقرن الرابع عشر، حيث اتجهت عام 1568 نحو الاستيلاء على ولاية أستراهان أوبلاست التي كانت تحت السيادة العثمانية، وتمكن في تلك المعركة من تحقيق أولى انتصاراتها على الدولة العثمانية.
رأت الدولة العثمانية أن توسع الإمبراطورية الروسية التي تضم تحت كنفها السلاف والتتار والمغول والسارماتية وغيرهم، يشكل خطرا محدقا على مصالحها في منطقة البلقان ذات الأغلبية السلافية وآسيا الوسطى ذات الأغلبية التتارية والمغولية ومنطقة أوكرانيا ومحيطها الحاضنة للسارماتية والسلاف والإسكندنافيين، إذ أيقنت الدولة العثمانية أن استخدام روسيا للدعاية الجيو سياسية التي تدعي بها بأنها الإمبراطورية المنقذة لبني جلدتها من "الاحتلال العثماني"، سيضعها في مأزق خطير قد يتمخض عنه الكثير من الانتفاضات العرقية في الأقاليم المذكور، لذا عملت الدولة العثمانية منذ حرب "أستراهان" الأولى التي حدثت عام 1568، نتيجة استيلاء الإمبراطورية الروسية على ولاية أستراهان أوبلاست الواقعة في شرق روسيا الحالية، على اتخاذ كافة الإجراءات الممكنة لصد الحرب الجيو سياسية الروسية، وتذكر الوثائق التاريخية أن الطرفين خاضا 10 حروب كبيرة استمرت لسنوات، فضلا عن كم هائل من المناوشات العابرة، وكان يهدف الطرفان لتوسيع نطاق سيطرتهم الجغرافية السياسية على حساب بعضهم البعض.
2
ولم تخبو الحرب الجيو سياسية بين الطرفين بعد تأسيس الجمهورية التركية عام 1923، إذ استمر الاتحاد السوفيتي بادعاء حقه في مدينتي كارس وأرداهان التركيتين ويطالب تركيا بحقه في الحصول على نقطة سيطرة على مضيق البسفور، واتجه نحو تضييق الخناق على تركيا ولم يسمح لها بإجراء أي نشاط ثقافي أو اقتصادي ملموس في منطقتي البلقان وآسيا الوسطى، أما تركيا فاستمرت في حربها الجيوسياسية ضد روسيا تحت مظلة حلف الناتو.
3
لم يتراجع الطرفان عن حربهما عشية انهيار الاتحاد السوفييتي، بل وجدت تركيا من ذلك فرصة ذهبية وعملت على استغلالها من خلال تأسيس عددا ً من المراكز الثقافية في المنطقتين الرئيسيتين لتنافس الطرفين، وهما أسيا الوسطى والبلقان، وأنشأت وكالة التنسيق والتعاون التركي "تيكا" لتشرف على مشاريع تأسيس المراكز الثقافية وترميم المباني المعمارية القديمة في المنطقتين، لإعادة روابط الروح التاريخية بينها وبين سكان المنطقة، وحاولت تركيا إيصال أنشطتها الدبلوماسية إلى أوكرانيا ولكن روسيا الاتحادية الضعيفة وقفت لها بالمرصاد من خلال الاستمرار في دعمها الوفير بالرغم من وهنها، وكما عجزت تركيا عن الوصول إلى منطقة القوقاز لاستمرار الحرب الروسية هناك، ولكنها عملت دوما على دعم المقاومة الشيشانية لوجستيا ً وسياسيا.
4
هذا وغداة تولي "فلاديمير بوتين" للرئاسة في روسيا، احتدمت الحرب الجيو سياسية الضمنية بين الطرفين من جديد، ومع مرور الوقت لم تقف الحرب المعنية على منطقتي البلقان وآسيا الوسطى بل اتسعت لتشمل القوقاز والشرق الأوسط وأوكرانيا أيضا.
على الرغم من محاول تركيا إجراء تقارب سياسي وعسكري ملموس مع أوكرانيا، إلا أن الأخيرة نأت بنفسها عن ذلك، خشية الغضب الروسي، وأبقت على علاقتها التركية بدرجة معتدلة، ولكن عقب احتلال روسيا لجزيرة القرم الأوكرانية ذات الأغلبية التتارية التي تعتبرهم تركيا من أصول تركية، مالت الحكومة الجديدة في أوكرانيا إلى إجراء علاقات قوية مع تركيا والدول الغربية، لردع روسيا عن التمدد في أقاليمها القريبة من جزيرة القرم، وبذلك عادت نقطة التنافس القديم الجديد بين تركيا وروسيا في أوكرانيا تطفو على السطح من جديد.
5
تم في الخامس عشر من شباط/ فبراير 2016، توقيع اتفاقية تعاون عسكري شاملة بين رئيس الوزراء الأوكراني "أرسيني ياتسينيوك" ونظيره التركي "أحمد داود أوغلو"، خلال زيارة الأخير لكييف، وقد شملت الاتفاقية تبادل الخبرات العسكرية التكنولوجية وإعادة تركيا لترميم الترسانة العسكرية الأوكرانية وتوريد أجهزة المراقبة الجوية والبرية والبحرية لأوكرانية وغيرها، وقد تبع تلك الاتفاقية توقيع وزارات دفاع الطرفين على بروتوكول إضافي للاتفاقية الأسبوع الماضي، يشمل توسيع نطاق التعاون بين الطرفين في حوض البحر الأسود.
وفي ضوء هذا التعاون العسكري الحثيث بين الطرفين، يمكن تقييم تقارب الطرفين على النحو الآتي:
ـ امتدادا للحرب الجيوسياسية التركية الروسية: وقفت تركيا إلى جانب جورجيا عندما هاجمتها روسيا عام 2008، إذ وجدت سياسة العنف الروسية تصب في صالح تقاربها مع دول المنطقة، وانتهجت نفس الحذو في القضية السورية والأوكرانية لتوسيع نطاق سيطرتها الجيوسياسية مقابل منافستها التاريخية "روسيا".
ـ بُعد مثالي إنشائي ناعم: حيث ترغب تركيا من خلال دعمها الاقتصادي والحقوقي لأوكرانيا، ترسيخ اسمها عالميا على أنها دولة الحق والحقوق، وتلمس تركيا ذلك الهدف منذ عام 2002، من خلال دعمها الواضح لدول أفريقيا ومن ثم جورجيا والآن المعارضة السورية وأوكرانيا، فهي تبغي عبر هذه السياسة الحصول على مركز دولي فعال يظهر صورتها بشكل برّاق يعود عليها بالدعاية السياسية البيضاء التي تجذب إليها العنصر السياسي والاقتصادي "رجال الأعمال، السياح"، والثقافي "الأكاديميين والباحثين والطلاب"، وجميع ما ذكر من عناصر لها وزنها الثقيل في إكساب تركيا الفائدة الكبيرة.
ـ بُعد قومي: واجهت الحكومة التركية ضغوط شعبية عارمة عقب احتلال روسيا للقرم، إذ طالب الشعب حكومته بالتنديد بذلك وبذل كافة الجهود السياسية والدبلوماسية وحتى العسكرية لإنقاذ المواطنين التتار ذوي الأصول التركية من قبضة الاحتلال الروسي، فوجدت الحكومة التركية التقارب العسكري والتعاون الاقتصادي القوي والدعم الحقوقي لأوكرانيا في المحافل الدولية السبل التي يمكن لها أن تردع روسيا عن المُضي في سياستها العسكرية "الهمجية" ضد إقليم القرم، وما زالت تركيا حتى اليوم تدعم التحرك القانوني لأوكرانيا في المحاكم الدولية فيما يتعلق باستصدار قرار حقوقي دولي يستنكر الاحتلال الروسي للإقليم.
ـ بُعد أمني: حيث أرادت أوكرانيا الاستفادة من عضوية تركيا في الناتو للتقرب أكثر من الحلف، ورأت تركيا أن التعاون المتبادل بينها وبين أوكرانيا سيعيق النفوذ الروسي على حوض البحر الأسود.
ـ بُعد اقتصادي: واجهت أوكرانيا انهيار اقتصادي واسع عقب ثورتها، وتحاول تركيا منذ عام 2002 إلى توسيع نطاق علاقاتها الاقتصادية إلى أكبر قدر ممكن وترى أن أوكرانيا تشكل لهم سوق حيوي بعد فض اعتماده الوثيق على روسيا واتجاهه لتنويع مصادره. بفعل هذه الحاجة الاقتصادية المتبادلة للطرفين ظهر التقارب الملحوظ فيما بينهما.
هذه الأبعاد تظهر أن التقارب التركي الأوكراني نافذ وزائد ما دام في إطار لعب الواحد زائد واحد أي الفائدة المتبادلة، أما التنافس الروسي التركي القديم الجديد فهو ماضي في إطار الصفر زائد واحد، أي من يسبق الآخر هو الذي يفوز، وتركيا ستبذل كافة جهودها للفوز على روسيا في أوكرانيا للحصول على الفوائد الجمّة التي أظهرتها الأبعاد المذكورة أعلاه.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس