ميخائيل سعد - زمان وصل
لم يغير التفجير الإرهابي الذي حدث البارحة في منطقة "بيازيد" الاسطنبولية من عادات الناس في الخروج من البيت والعودة إليه، ربما زاد، مؤقتا، من حذرهم قليلا، وزاد من نشاط رجال الأمن، ولكن الحياة اليومية استمرت كما كانت قبل التفجير، وبالتالي فقد فشل العمل الإرهابي في تحقيق أحد أهدافه وهو دفع الناس للانصراف عن بعض العادات الرمضانية التي تقرب الناس من بعضها، بدلا من الذهاب إلى الإفطارات العامة الجماعية والمجانية التي تنظمها بلديات الأحياء في اسطنبول، في اليوم الثالث، ذهبت مع الصديقين علي العائد وماجد كيالي إلى باشاك شهير، وهي إحدى ضواحي اسطنبول الحديثة التي يغلب على سكانها كون أغلبهم من الشرائح العليا من الطبقة الوسطى، ومن الناخبين لحزب العدالة والتنمية، حسب نميمة أحد السكان.
كان ذهابنا مساء إلى تلك المنطقة تلبية لدعوة الصديق "محمد برو" لنا على إفطار رمضاني في بيته، فقد رغبت برؤية رمضان السوري بيوتهم، ولكن، رغم الطابع السوري الذي غلب على مائدة الطعام، من حيث الوجبات وموكوناتها وطريقة تحضيرها وتقديمها، فإن الحضور التركي كان يحيط بكل عناصر ومكونات هذا الإفطار المنزلي، كان ذلك قبل الذهاب، بعد الإفطار، إلى "وادي المياه"؛ لنتعرف عن قرب على النموذج التركي لحياة الطبقة الوسطى "الطيبة".
يمتد الوادي على مسافة خمسة كيلو مترات طولا، ويتراوح عرضه ما بين الخمسين إلى المائة متر، وهو على شكل وادٍ يقع بين هضبتين عامرتين بالبنايات، ولا أثر "للعثمانيات" هنا، فالطابع الحديث للبناء يتجلى في كل زاوية، بما في ذلك بناء الجامع الوحيد في الوادي، رغم محاولة استعارة أسلوب القباب والزخرفة، من العمارة الإسلامية، التي تبدو أنها ملصقة بالبناء الحديث.
الوادي ليس مكانا للتنزه فقط، فهو بالإضافة إلى كونه حديقة عامة عملاقة، فيه متسع لممارسة كل أنواع التسلية المفيدة؛ فهناك مضمار خاص للجري، ومسابح صغيرة، وملاعب لعشاق الكرة، وحدائق للأطفال.
فيها الكثير من الألعاب، كما نجد في الوادي المطاعم الفاخرة التي تقدم خدماتها للزبائن، وإلى جانبها، وفي ممرات الوادي، تنتشر بعض العربات والأكشاك التي تبيع المرطبات والشاي والقهوة للزبائن الذين يفضلون السير بدلا من الجلوس في المطاعم.
في الوادي أيضا نوافير الماء الملونة بواسطة الكهرباء، والزينة الجميلة التي تضفي الفرح على المنظر برمته.
بمناسبة شهر رمضان، تمت إضافة سوق صغيرة لبيع بعض الحلويات والصناعات اليدوية التراثية، والكتب الدينية، وخاصة القرآن الكريم الذي تفنن الناشر بأحجامه ونوعية ورقه وتجليده.
توقفت أمام كتاب لتعليم اللغة العربية يضم بين دفتيه حوالي 300 صفحة، موجه للأتراك، وسعره رخيص حدا مقارنة بأسعار الكتب العربية، فرغم جودة الطباعة وحجم الكتاب لم يتجاوز سعره 18 ليرة تركية، أي ما يعادل ثلاثة دولارات.
كان لا بدّ من مرورنا من أمام بناء كبير نسبيا، فعلق مضيفنا الكريم محمد برو، وهو من سكان الحي: هذا البناء للبلدية، يخصص للاجتماعات والنشاطات التي تخدم السكان بالإضافة إلى اجتماعات البلدية.
ويتم تحويله أحيانا الى سوق لبيع السلع الجديدة، بسعر رمزي، والتي تبرعت بها الشركات لدعم نشاطات البلدية، للأسباب منها أنها بقايا خط الإنتاج.
كنت أترك لنفسي حرية تصور هذا المكان في غير تركيا، فهو لا يختلف عن أي مكان في أي مدينة أوروبية أو أمريكية، باستثناء زي النساء الإسلامي، أما كل ما تبقى فهو غربي وحداثي.
أيقظني من أحلامي رؤيتي للشخصيات البلهوانية العملاقة التي تظهر في المراكز التجارية في مونتريال في المناسبات الدينية والعطل الرسمية والاحتفالات الوطنية.
كان وجود هذه النماذج الغربية من الألعاب، في إحدى أمسيات شهر رمضان، في وادي المياه، في حي باشاك شهير الاسطنبولي، ما يؤكد بعض الاستنتاجات، وعلى رأسها أن الفرق بين منطقة إسلامية وأخرى غربية، قد يمكن اختصاره بشكل الثياب.
ثانيا إن أساليب الحياة تقترب من بعضها، وخاصة في البلدان التي تسير نحو الحداثة برغبتها أو رغما عنها بفعل الضرورات والحاجات.
ثالثا، أن الطبقة الوسطى التركية التي كانت رافعة حزب العدالة والتنمية في وصوله إلى السلطة، قد استفادت من سياسات الحزب، فتحسن مستوى معيشتها، مما جعلها تقترب أكثر من أساليب الحياة الغربية، وربما دفعها كي تنفصل جزئيا عن حاجات الطبقات الشعبية التركية، وقد يكون من نتائج ذلك، في إحدى القراءات، الخسارة التي مني بها الحزب في الانتخابات العامة التي جرت في حزيران الماضي، فتم الاستنجاد بأحمد داوود أوغلو، الذي قام بحملات شعبية، منها ما عرف بحملة البصل، حيث ظهر أغلو في أكثر من بازار وهو يبيع البصل للناس، في محاولة لرأب الصدع ما بين حاجات الطبقات الشعبية التركية وبعض فئات شرائح الطبقة الوسطى التركية التي تشكل قيادات حزب العدالة.
كان الناس، وحتى ما قبل ساعة السحور بقليل، يعيشون نشوة الإيمان برمضان وبركاته، ويستمتعون بوادي المياه والخدمات الجميلة التي تقدمها لهم حكومة بلدهم، ربما الشيء الوحيد الذي كان يقلقهم هي تلك النظرات غير المرحبة بهم، والتي يعبر عنها قادة الاتحاد الأوروبي في أغلب الاجتماعات المشتركة، رغم أنهم، في حياتهم العامة، يزدادون شبها بالأوروبيين، فهل يأتي يوم يفاوض فيه الأوروبيون الأتراك على ضرورة تخليهم عن لباسهم الإسلامي، كي يتم قبولهم في أوروبا، كما فعلوا مـؤخرا حين طلبوا تعديل قانون الإرهاب؟
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مواضيع أخرى للكاتب
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس