ميخائيل سعد - زمان وصل
"الجامع للجميع وليس للصائمين فقط"، هذا ما قاله لي رجل ستيني في جامع شيشلي الاسطنبولي، في الحي الثري، قبل موعد الإفطار الرمضاني الجماعي.
فقد لفت انتباهي وجود مجموعة من الناس تتكون من حوالي خمسين رجلا، في إحدى زوايا صحن الجامع، يتناولون وجبتهم قبل موعد الإفطار، وقبل التقاط الصور نظرت في الساعة لأتأكد من موعد الإفطار، كان على الصائمين الانتظار أيضا 30 دقيقة قبل أن يحين موعد الأذان لتناول أول رشفة ماء، فلماذا هؤلاء يأكلون الآن؟
في زاوية أخرى من صحن الجامع المبني على الأسلوب العثماني رغم حداثة عمره (1950)، كانت توجد جرّة عملاقة، تتسع تقريبا لبرميل من الماء، ربما كان سبب وجودها هو عدم غياب أنابيب مياه الشرب في ذلك الزمن، فتمّ تزويدها بحنفية وطاسة نحاسية وجرن تحت الحنفية، وبعد أن انتفت الحاجة إليها، بقيت كأثر يدل على زمن غير بعيد، كان العثور فيه على الماء، ولا يزال، أحد وجوه أزمة مياه الشرب في اسطنبول. كنت منهمكا في التقاط الصور للجرّة من جوانبها المختلفة، عندما خاطبني رجل ستيني، كان يجلس بقربها، وعندما قلت له إنني، للأسف، لا أعرف التركية، قال مبتسما: أنا أعرف العربية قليلا.
جلست بقربه، فقد كان بالنسبة لي صيدا ثمينا، ووسيلة لمعرفة بعض الأمور، قال لي، دون أن أسأل، إن الجامع قد بنته سيدة تركية، بالإضافة إلى تلك العمارة، وأشار إلى بناية كبيرة، يفصلها عن الجامع الشارع العريض، وجعلتها وقفا للجامع كي يتم الانفاق على حاجاته.
كنت أسمع للرجل، ولكن عقلي كان في مشغولا في لغز الناس الذي يأكلون الآن، وخطر ببالي أن يكون عندهم عذر شرعي يسمح لهم بالإفطار الآن، أو ربما يكونوا من طائفة صوفية أو دينية عندها مبرراتها التي تبيح لها المحظورات.
كانت المفاجأة التي قالها الرجل، ونسفت كل تخيلاتي، عند تأكيده أن هؤلاء غير صائمين، وليسوا مضطرين لانتظار ساعة الإفطار كي يأكلوا.
سألت: كيف يقدم لهم الجامع وجبة رمضانية وهم مفطرون؟ قال الرجل: الجامع ليس للصائمين فقط، إنه لجميع من يحتاج إليه، أبوابه مفتوحة للصائم كما هي مفتوحة لغير الصائم، الصيام ليس معيارا للإيمان.
وتذكرت أنني أيضا في الجامع، ولم يسألني أحد في دخولي وخروجي إلى الجوامع ومنه عن ديني أو صيامي أو جنسيتي، وتذكرت أيضا بحنين قصص السوريين الذي خرجوا، في بداية ثورتهم، من الجوامع للتظاهر مطالبين بالحرية والعدالة، وكيف كان الرصاص الأسدي بانتظارهم، ليس لأنهم مسلمون، ولكن لأنهم كانوا طلاب حرية.
انتقلت إلى الإفطار الآخر الذي تنظمة بلدية شيشلي "العلمانية"، في خيمة نُصبت على أرض ملاصقة للجامع.
كان أول ما لفتي انتباهي الصورة الكبيرة لمؤسس الجمهورية كمال أتاتورك، المعلقة في صدر الخيمة، بالإضافة إلى تعليق عشرات الصور الصغيرة له على جدران الخيمة من الداخل تشمل صورة علم تركيا وعلم البلدية، وكان الرجل الذي بدأ الكلام، والذي من المفروض أن يكون خطيبا دينيا، قد دعا للجمهورية التركية بالقوة لمقاومة الأعداء، كما ذكر كمال أتاتورك في سياق الحديث، بما يوحي لمثلي لمن لا يعرف اللغة التركية، أنه كان نوعا من المديح للرجل، لأن جمهور الشيشلي قد صوت صالح "حزب الشعب الجمهوري" الذي هو حزب أتاتورك.
كان ملفتا للانتباه أن رواد الخيمة هم أكثر عددا من رواد الجامع والمكان أضيق، ولكن رغم ذلك لم يذهبوا إلى إفطار الجامع رغم توفر الأماكن هناك.
كنت قد رأيت عشرات الإفطارات الرمضانية في اسطنبول، منها ما هو منـظم من قبل جمعيات دينية، مثل جماعة اسماعيل آغا الصوفية النقشبندية، أو من قبل بلديات الأحياء، مثل بلدية بي أوغلو، أو بلدية اسطنبول الكبرى، أو من قبل من قبل جمعيات تابعة لدول خارجية كجمعية قطر الخيرية التي نظمت إفطار "اسكودار" في اسطنبول الآسيوية، إلا أنها كانت المرة الأولى التي أشاهد فيها إفطارين رمضانيين متلاصقين في حي واحد، الأول من تنظيم بلدية الحي والآخر منظم من قبل الجمعية المشرفة على جامع شيشلي. وقد يكون في تأمل سلوك الناس والمنظمين في هذين الإفطارين ما يعكس إلى حد كبير طبيعة الصراع الودي بين مكونات المجتمع التركي، ولكن قبل الاجتهاد في هذا المجال، سأترك لنفسي حرية إزعاجكم قليلا من خلال استطرادي في عرض بعض الملاحظات التي جمعتها في تجوالي الرمضاني بين الإفطارات، لعل في ذلك بعض الفائدة لمن يهتم بقراءة التفاصيل.
1- كان عدد الصائمين في جميع الإفطارات أكبر من عدد الأماكن المخصصة للإفطار.
2- أغلب الإفطارات تستمر طوال شهر رمضان.
3- جميع الإفطارات كانت مختلطة؛ نساء ورجالا وأطفالا باستثناء إفطار واحد عند جمعية اسماعيل آغا الصوفية، لم يكن للنساء من أثر. وكانت النساء يشغلن قسما مستقلا عن أماكن الرجال، من صحن جامع السلطان سليم الأول، والإفطار منـظم من قبل جمعية شباب جامع السلطان سليم وجمعية اسماعيل آغا الصوفيتين.
4- كان الإفطار الأكبر الذي رأيته هو الذي في ساحة جامع الفاتح، وقدرت عدد الناس بحدود خمسة آلاف صائم. وكان الدخول متاحا للجميع دون قيود أو وقوف في صف الانتظار.
5- باستثناء الإفطار في ساحة تقسيم، الذي تنظمه بلدية بي أوغلو، حيث كان يتم توزيع الوجبة الساخنة معلبة ومغلفة لكل شخص، كانت الوجبة الساخنة تقدم في المكان، إما أثناء مرور الصائم أمام الموزعين، أو عبر توزيع صحون كبيرة لكل طاولة كما في إفطار أيوب سلطان.
6- كل الوجبات تتضمن حبة من التمر، وكمية من الارز والشوربة ولحمة مع بطاطا وماء وعصير وخبز وحلويات، والوجبة عادة كافية للصائم.
7- ليس كل من يأتي إلى الإفطار هو بحاجة أو فقير، هناك تقاليد ممتعة يمارسها الصائم في شهر رمضان، وهو مناسبة لعدد كبير من الناس للخروج من البيت وتناول الإفطار جماعيا أو أسريا في حدائق اسطنبول.
8- يلاحظ الإنسان السماحة والطيبة والهدوء في حركات الصائمين وعلى وجوههم، ولم أسجل أي حركة عنفية من أحدهم.
9- رمضان مناسبة اقتصادية كبيرة للمطاعم والتجار.
10- في اسطنبول، اذا لم تكن صائما، فلست مضطرا لإخفاء ذلك وادعاء العكس.
11- أخيرا، رمضان التركي لا يشبه السوري إلا بالاسم.
عودة إلى الإفطار المزدوج في حي شيشلي الغني، والاستنتاجات التي يمكن الخروج بها، ورغم "ذاتية" القراءة فإننا لا نستطيع تجاهل وجود إفطارين متلاصقين؛ أحدهما "إسلامي" متسامح يطعم غير الصائمين قبل الصائمين، ومن نفس القدور، ويرى أن الجامع هو للناس، وهو ما يعيد التذكير بدور التكايا الصوفية في الدولة العثمانية، والآخر ”علماني" قومي يريد أن يكسب سياسيا عبر احترام الطقوس الإسلامية، وخاصة من خلال تقديم الطعام للناس في الشهر الأكثر قدسية في ذهن المسلم، مع التأكيد على عرض صورة "الزعيم" أتاتورك، الذي يقترب من التقديس أيضا في ذهن بعض أنصاره.
فهل نستطيع أن نقول: إن تركيا منقسمة بحدة بين ما هو "علماني" وما هو "إسلامي"؟
من الصعب على مراقب مثلي لا يعرف اللغة، ولا يستطيع متابعة الجدل اليومي بين الناس، ولا يستطيع قراءة الفكر سياسي والأدبي والاجتماعي للأتراك، من الصعب عليه أن يخرج بحكم صلب أو قطعي، ولكن ذلك لا يقلل من أهمية مشاهداتي اليومية، ففي شيشلي وغيرها من مناطق الإفطار رأيت المرأة المحجبة بجانب المرأة السافرة، وأحيانا تري المرأة التي تضع غطاء الرأس وإلى جانبها ابنتها التي ترتدي قميصا دون أكمام والاثنتان تنتظران لحظة الإفطار، فأين هي "العلمانية" هنا وأين هي "الإسلامية"؟!
أستطيع القول بقليل من الثقة إن لا صراع في تركيا بين الإسلام والعلمانية، بل هناك تنافس بين دعاة الفكرين لتقديم الأفضل للشعب التركي.
أخيرا، قد أكون حالما فيما ذهبت إليه، يغفر لي أنني كسوري، أحتاج إلى الحلم، وإلى تطبيق النموذج التركي؛ الإسلامي والعلماني المتجاورين دون إلغاء أحدهما للآخر في سوريا المستقبل، بعد نيل الاستقلال.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مواضيع أخرى للكاتب
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس