راغب سويلو - صحيفة ديلي صباح - ترجمة وتحرير ترك برس
في كل أسبوع أجد لزاما علي، بوصفي مراسلا تركيا في واشنطن، أن أقرأ تقارير وتحليلات وتعليقات متعددة عن السياسة الداخلية والخارجية التركية. تدفعني معظم هذه التقارير والتحليلات، ولا سيما تلك التي تصدر عن مراكز الفكر في واشنطن، إلى الضحك نظرا لافتقارها إلى الجدة، وانعزالها عن الواقع. في هذا الأسبوع نشر مركز"بيبارتيسان بوليسي" تقريرا من هذا القبيل عن القضية الكردية في تركيا، يحاول تأطير هذا الموضوع في مقابل الشراكة التركية الأمريكية في المنطقة. بدأ معدو التقرير قلقين للغاية بشأن السلام الداخلي في تركيا. هذا النوع من التقارير، بغض النضر عن محتواها، لا فائدة منه.
الرئيس الأمريكي الجالس في البيت الأبيض لا يرغب في أي نوع من التدخل في الشرق الأوسط، بينما المرشح الجمهوري للانتخابات الأمريكية المقبلة، دونالد ترامب، منكفئ على الشأن الأمريكي، وبيرني ساندرز، أحد المرشحين للرئاسة عن الحزب الديمقراطي، منكفئ أيضا. وأما المرشحة الثانية، هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية السابقة، فأنا أتفق أنها من بين الصقور، ولكن من الواضح للجميع أنها لن تدخل في أي مغامرة، وسوف تهتم غالبا بالتحديات الداخلية، لأنها متحفظة وحذرة وترغب في الفوز بفترة رئاسية ثانية في حال فوزها بفترة أولى.
ويعني هذا أن صناع السياسة الأمريكية لن يهتموا كثيرا بالسياسة الخارجية التركية باستثناء ما يرتبط بشده بمصالح الولايات المتحدة، بصرف النظر عن الوضع الداخلي في الولايات المتحدة. ومع ذلك فإن مراكز الأبحاث، مثل مركز "بيبارتيسان بوليسي" تهتم للغاية بإصدار مثل هذه النوعية من التقارير التي تقترح موقفا مؤيدا للتدخل في السياسة الداخلية التركية. لكن هذا لن يحدث، على الأقل عندما يكون هناك رئيس لا يجد نفسه ملزما بالتدخل في بلد عندما ذبح آلاف المدنيين. لم يكن الأمريكيون قلقين عندما قتل جزار سوريا ،بشار الأسد، بالأسلحة السامة العشرات في ليلة واحدة من بينهم أطفال.
محتويات التقرير الذي أصدره مركز "بيبارتيسان بوليسي" مُحيّرة للغاية. حاول مركز بيبارتيسان أن يكون له موقف محايد من السياسة الداخلية الأمريكية، ولكن موقفه يختلف جذريا عندما يتعلق الأمر بتركيا. أولا في التقرير حديث عن السلطوية والتصعيد: أي الإعداد للأسوأ في الصراع التركي الكردي المشتعل، ويتعامل معدو التقرير مع الدولة التركية وحزب العمال الكردستاني "بي كي كي" على أنهما جهتان شرعيتان متساويتان. وللتذكير فإن أحدهما عضو في حلف شمال الأطلسي "الناتو" والآخر منظمة ماركسية متطرفة تستخدم الإرهاب وسيلة لتحقيق أهدافها. وأنا على ثقة تامة من أن الحكومة المنتخبة ديمقراطيا أكثر مشروعية، ولكن مركز بيبارتيسان لا يرى ذلك.
يفضل المركز البحثي الأمريكي أيضا الجناح الشرعي لبي كي كي، حزب الشعوب الديمقراطية، في السياسة الداخلية التركية بوصفه اللاعب المفضل. لقد سمعنا عدة مرات في واشنطن أن رئيس حزب الشعوب الديمقراطي صلاح الدين ديميرطاش صديق إيران والأسد والداعم لحزب الله، هو أكثر الأصوات المؤيدة للولايات المتحدة في تركيا. ومهما يكن الأمر فلا شيء من ذلك يعطي المشروعية لأجندة تحاول إعادة كتابة التاريخ بتبرئة بي كي كي.
لا توجد إشارة واحدة في تقرير بيبارتيسان حول انسحاب قوات بي كي كي من تركيا، وهذا الانسحاب كان المطلب الرئيس للحكومة التركية، ووافق عليه بي كي كي. ويمكن للباحث أن يجد بسهولة في تصريح ديميرطاش في ربيع عام 2013 الموافق على الانسحاب، عندما قال إن حزب العمال الكردستاني سيسحب جميع قواته في غضون بضعة أشهر. علق حزب العمال هذه العملية منذ فترة طويلة، بينما أصدرت الحكومة التركية تشريعات تعطي مزيدا من الحقوق للمواطنين الأكراد. كما استجاب حزب العدالة والتنمية الحاكم لأهم مطلب لحزب العمال الكردستاني، والمتعلق بإصدار تشريع يوفر الأساس القانوني للمفاوضات مع حزب العمال، وقد أقر البرلمان هذا القانون في صيف 2014.
يقول تقرير مركز بيبارتيسان أيضا "إن حزب الشعوب الديمقراطي اختار دمج النضال من أجل حقوق الأكراد بمعركة الأمة الأكبر من أجل الديمقراطية، وقاد حملة ليبرالية ضد طموحات الرئيس (رجب طيب أردوغان) الرئاسية في ربيع عام 2015 "يبدو ذلك أمرا عظيما للقراء الأمريكيين، فحزب الشعوب الديمقراطي الليبرالي المحب للسلام هو المنتصر دائما. ومع ذلك فإن حزب الشعوب الديمقراطي الذي لم يكن قادرا على فعل أي شيء مهم من الناحية السياسة دون مباركة كبار قادة بي كي كي ، لم يكن لاعبا مستقلا يستخدم استراتيجية ضد حزب العدالة والتنمية. كان عبد الله أوجلان، زعيم العمال الكردستاني المسجون، مهندس فكرة المظلة الحزبية التي تشمل جميع الأحزاب اليسارية الصغيرة. وليس سرا أن تأسيس حزب قوي مؤيد للأكراد في تركيا كان موضوعا للتفاوض بين بي كي كي والحكومة التركية لإضفاء شرعية على كوادر حزب العمال الكردستاني التي لم تتورط مباشرة في أعمال العنف.
يصور التقرير أيضا الرئيس أردوغان على أنه شخص قرر فجأة أن ينأى بنفسه عن إعلان دولما باهتشه، الذي لم يكن اتفاقا مثلما أشار إليه التقرير. استند إعلان دولما باهتشه على أفكار أوجلان بإجراء مفاوضات رسمية لم تقبلها الحكومة التركية أبدا، بل إن ديميرطاش نفسه تساءل بعد ساعات من إصدار الإعلان عن مصداقية الحكومة في صنع السلام، وزعم أنه "لا يمكن عقد سلام مع هذه العقلية".
قال حزب العمال الكردستاني إنه من أجل اتخاذ قرار نزع السلاح يجب الإفراج عن أوجلان، وعقد مؤتمر عام في جبال قنديل شمال العراق، حيث يقع المقر الرئيس للحزب. أدركت الحكومة التركية وأردوغان من ذلك كله أنها إشارات قوية على أن العمال الكردستاني لم يكن جادا في السلام بعد عامين من المفاوضات. انتظر أردوغان والحكومة التركية الانسحاب الكامل للعمال الكردستاني، وقرارا صائبا من الحزب بنزع السلاح. في المقابل كان العمال الكردستاني يأتي بالمزيد من المطالب في الوقت الذي كان فيه يخزن المتفجرات والأسلحة في القرى والبلدات.
وعلاوة على ذلك يقول التقرير إن حزب الشعوب الديمقراطي فضل المضي في مواجهة استبداد أردوغان بكبح رغبته في الحصول على مزيد من الصلاحيات التنفيذية للرئيس. إن طموح أردوغان للقبض على السلطة موضوع مشترك في تقارير مماثلة. وعلى سبيل المثال يزعم تقرير مركز بيبارتيسان أن أردوغان انحرف جزئيا عن عملية المصالحة، لأن حزب الشعوب الديمقراطي عمل ضد طموحاته الرئاسية. ومن المفارقات أن أوجلان نفسه كان أول شخص أعلن على الملأ أن الحركة الكردية يمكن أن تعزز سلطات أردوغان الرئاسية، إذا تم التوافق على الأساسيات. أدلى أوجلان بهذا التصريح في ربيع عام 2013 في وقت لم يكن فيه أردوغان رئيسا. كانت الحركة الكردية هي من وضعت ورقة المساومة هذه على مائدة المفاوضات، وليس أردوغان.
وأخيرا يذكر التقرير أن قوات الأمن التركية دمرت المنازل عن عمد خلال عملياتها ضد حزب العمال الكردستاني في المدن الواقعة جنوب شرق البلاد. من المؤسف أن بعض أفراد الشرطة فعلوا مثل هذه الأشياء، لكن التقرير لم يتحدث عن العدد الكبير من المنازل التي دمرها حزب العمال الكردستاني. ويصور التقرير القوات التركية على أنها تغزو المدن الكردية، في حين أن شوراع المدن أقيمت فيها المتاريس، وحفرت الخنادق، وانتشر فيها القناصة. استخدم حزب العمال الكردستاني العبوات الناسفة بدائية الصنع لإلحاق خسائر فادحة في قوات الأمن، ونصب الشراك الخداعية في المنازل، وفي بعض الحالات في المدينة بأكملها. قتلت قذائف الآر بي جي والعبوات الناسفة كثيرا من قوات الأمن، وأدت إلى تدمير المدن، وهذا هو تكتيك حرب المدن الذي يستخدمه داعش اليوم في سوريا والعراق. وتستغرق إزالة الأفخاخ من المناطق السكنية شهورا، ولكن مركز بيبارتيسان بطبيعة الحال لا يهتم بذلك.
بمقدور مركز بيبارتيسان أن يستمر في نشر التقارير المنحازة والرعناء من أجل إرضاء الجهات الممولة له، لكن هذا النهج لم يكن مفيدا في خلق التعاون من أجل حل المشاكل بين تركيا والولايات المتحدة. ويبقى الحل في المزيد من المشاركة بدلا من المماحكات الحزبية.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مواضيع أخرى للكاتب
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس