ساري عرابي - عربي 21

هناك مقاربتان رائجتان في الموقف من حكم العدالة والتنمية التركي، عربيا وإسلاميا، بما يتضمن المقاربات الفلسطينية بطبيعة الحال، تقومان على اعتبار واحد، وهو اعتبار الاصطفاف والتمحور، مع تعدد أسباب الاصطفاف والتمحور.

تجمع المقاربة الأولى فريقين، يُفترض فيهما الاختلاف؛ فريق المحور الإيراني الذي أعاد تعريف علاقته بحكم العدالة والتنمية على أساس الحدث السوري، لا على أساس العلاقات التركية الصهيونية، حتى وإن عاد واستدعى هذه العلاقات في سياق الدعاية السياسية، فلا مصداقية لهذا الاستدعاء، لأن العلاقات التركية الصهيونية، في ظل العدالة والتنمية، كانت في ذروتها لسنوات، بما يفوق الحال بعد الخلاف ما بين المحور الإيراني وتركيا على الموضوع السوري.

وعلى الأغلب فإن المحور الإيراني كان يرى في العدالة والتنمية أفضل الموجود التركي من بين البدائل التركية الأخرى إلى حين تحقق الاختلاف على الموضوع السوري، وبالرغم من ذلك فإن تركيا وإيران ما تزالان تتمتعان بعلاقات قوية في مجالات السياسة والاقتصاد والأمن بما يُظهر طبيعة التعقيد السياسي الجاري.

أما الفريق الثاني الذي يندرج في المقاربة الأولى، فهو المحور العربي المعادي للعدالة والتنمية على سبب مزدوج من الثورة المضادة، والدور الوظيفي الناهض على أساس الوجود الصهيوني في المنطقة، وفي طليعة هذا المحور كل من نظام عبد الفتاح السيسي في مصر ودولة الإمارات، وقطعا فإن محورا لا يكتفي بالتطبيع مع الصهاينة، ولكنه فوق ذلك يعمل على تحطيم مقاومة الشعب الفلسطيني، لا يملك أي قدر من المصداقية في اتهام العدالة والتنمية من جهة علاقة تركيا بالكيان الصهيوني.

في المقابل تأتي المقاربة الثانية التي تجمع عموم الإسلاميين الذي استفادوا من الفسحة التي أتاحها لهم العدالة والتنمية التركي، والذي اتخذ مواقف أكثر تقدما، من بقية الأحزاب التركية، تجاه قضاياهم، بما في ذلك القضية الفلسطينية، ولكنهم رفعوا حكم العدالة والتنمية من درجة الصديق، المحكوم إلى اعتبارات تتعارض في بعضها حتما مع المصالح العربية والإسلامية، إلى درجة الحليف، وبالغوا في الدعاية له بما لا يتفق مع واقعه وممكناته أبدا.

وفي هذه المقاربة خليط من الانحياز الإيديولوجي، والانبهار بالتجربة التركية، والعاطفة الجامحة، وقهر الواقع الذي خيّل السقف الواطئ حليفا راسخا، ودون أي مراعاة للسيولة الجارية في تركيا نفسها، أو في الإقليم والعالم، فهذا البلد لم تنبن ثوابته أساسا على احترام مصالح العرب والمسلمين، ولم تكن سنوات حكم العدالة والتنمية كافية بعد لترسيخ أي ثوابت جديدة.

تندرج المقاربات الفلسطينية في المقاربات السابقة، فبعض الفلسطينيين يصوغ مواقفه على أساس الحدث السوري، إن باتجاه إيران أو باتجاه تركيا، لكن الإضافة هي تلك التي يمكن أن تشكلها حركة فتح، لاسيما في خطابها الشعبوي، المناصر للسلطة بكل حمولتها السياسية المتعارضة يقينا مع مصلحة الشعب والمقاومة، والصاخب بشعارات المزاودة التي لا رصيد لها في الواقع، والذي يصوغ خطابه من الفاعلين على أساس علاقات الآخرين بحماس، فمشكلته مع تركيا في علاقتها بحماس فقط، ومن ثم لا مصداقية لأي شيء آخر بعد ذلك.

يظل بعد ذلك موقف حماس المعقد، وهي الحركة العربية التي تعيش حالة مقاومة مفتوحة ضد الكيان الصهيوني، فقد خاضت حربين منذ الخلاف مع المحور الإيراني، وتحتفظ بعدد من الجنود الصهاينة أسرى لديها، وتتعرض لحصار منهك هي والشعب في غزّة، وضاقت مساحات التحرك أمامها، بما يرفع حاجتها وأهل غزة إلى منزلة الضرورة، وقد صارت جزءا من المشكلة التركية الصهيونية، فالشهداء الأتراك الذين جاؤوا (بغير تنظيم من الدولة أو حزبها الحاكم) على سفينة "مافي مرمرة" في سياق جهود كسر الحصار عن غزة، هم أساس المشكلة القائمة ما بين تركيا والكيان الصهيوني.

وجمهور حماس جزء من الجمهور الإسلامي المتعاطف مع التجربة التركية لجملة الأسباب التي سبق ذكرها، وبعضهم، لا كلهم يندرج، في الجمهور الذي يبالغ في تصوير طبيعة العلاقة مع تركيا، وهذا التباين ظهر بين الجمهور الغالب الذي جنح إلى إدانة التطبيع مع وضوح في التفريق بين التبرير والتحليل السياسي، وبين الجمهور الذي جنح إلى التبرير لتركيا وشكرها.

مقارنة تركيا بالدول العربية، والقوى الفلسطينية، المتآمرة على غزة، لا تستقيم لاستخراج شكر لتركيا على جهودها في كسر الحاصر، طالما أن هذه الجهود انتهت بالتطبيع واستمرار الحصار، ولا يمكن الدفاع عن القرار التركي بأنه شأن داخلي مؤسس على المصلحة التركية، فالتطبيع ليس شأنا متعلقا بطرفيه الصهيوني وأي طرف آخر، وإنما هو شأن فلسطيني قبل أي شيء آخر، إذ إنه انتقاص من الحق الفلسطيني، أي إن كل تعزيز للوجود الصهيوني في أرضنا، هو انتقاص من حقنا في أرضنا، وتزوير لتاريخنا، فمفاد التطبيع هو هذا، بصرف النظر عن النوايا والدوافع السياسية.

ومحاولة تبرير سلوك سياسي تطبيعي، على اعتبار إحسان الظن بالمطبع، أو تفهم حاجاته السياسية، أو الرغبة في استمراره كونه أفضل الموجود في بلده، أو لأن السياق التطبيعي ستتولد عنه ظروف مساعدة لنا، سيصادر منا مصداقيتنا في رفض أي سلوك تطبيعي آخر، إذ إن أحدا لا يطبع مع الصهاينة إلا ويغطي تطبيعه باعتبار يبدو وجيها، ولا يستقيم بعد ذلك قبول التطبيع من أحد ورفضه من أحد آخر.

إن المقاربة الصحيحة في هذه الحالة، هي أولا الخروج من مقاربات الاصطفاف والتمحور، سواء باتجاه تركيا أو بعيدا عنها، ثم الفصل بين الواقعة السياسية والفاعل السياسي، بمعنى أن التعاطف مع الفاعل السياسي لا ينبغي أن يحول دون القدرة على قراءة الواقعة السياسية من جهة علاقتها بمصالحنا وقضيتنا، فنحن فلسطينيون ولسنا أتراكا كي نتحدث عن المصالح التركية، بدلا من البحث عن مصالحنا نحن في الاتفاق التركي الصهيوني، ثم إذا كان هذا الاتفاق مرفوضا من جهة خطورة التطبيع البالغة على قضيتنا، فإن أحدا لن يمنعنا من الاستفادة من أي عنصر مفيد فيه، ولكن هذه الاستفادة لا تتطلب ولا بأي وجه الدفاع عن اتفاق تطبيعي.

بعد ذلك فلنتذكر ثلاثة أمور؛ دورنا الذي هو الحفاظ على أصالة قضيتنا بلا تزوير ولا تحوير، والإدراك المتحفز دائما لخطورة التطبيع، والرصانة والاتزان والوعي بعيدا عن الأوهام حين الحديث عن الأصدقاء.

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس