مصطفى أكيول - المونيتور - ترجمة وتحرير ترك برس
فتحت محاولة الانقلاب العسكري الساقط في تركيا الباب أمام فصل جديد في تاريخ البلاد، إذ صارت معظم القوى السياسية والمعسكرات الأيديولوجية تنظر إلى أنصار غولن بوصفهم مدبري الانقلاب، وأنهم صاروا أعداء الأمة. هذا المنظور بالطبع له عواقب مقلقة، لأنه يؤدي إلى شيطنة وعقاب جماعي، فجماعة غولن تضم كثيرا من الأبرياء الذين لا يعرفون الجانب المظلم للجماعة. إن التحدي الذي يجب أن يهتم به الجميع هو كيفية المحافظة على سيادة القانون في مواجهة هيستريا تهديد السلطة.
وفي الوقت نفسه أثارت أزمة جماعة غولن شيئا آخر في تركيا: البحث عن الذات، وتبادل الاتهام داخل المعسكر الإسلامي. هناك جدل لا ينتهي في وسائل الإعلام حول ما إذا كانت خيانة جماعة غولن نتاج معتقدات شاذة لفرقة دينية، أو أنها ناجمة عن مشاكل أعمق تعاني منها المجموعات الإسلامية الأخرى في تركيا.
في صدارة هذا الجدال يقف أولئك الذين يطلق عليهم على نطاق واسع الحداثيون. وهؤلاء باحثون معظمهم من أساتذة العقيدة الإسلامية، ولديهم وجهات نظر إصلاحية في الإسلام. بالنسبة لهؤلاء فإن مشكلة الغولنية جاءت نتيجة الإيمان بعقيدة المخلص الإلهي، وثقافة الطاعة العمياء للزعيم الديني والفهم الباطني للإسلام الذي يرى علامات غامضة في كل مكان. ويقول هؤلاء إن الجماعات الإسلامية الأخرى في تركيا، مثل الطرق الصوفية، والجماعات التي تتبنى فكر نور الدين النورسي، تتشارك في هذه المعتقدات الخرافية.
ومن بين الباحثين الذين طرحوا هذه الدعوى مصطفى شاغريجي مفتي إسطنبول السابق وأستاذ العقيدة الإسلامية، وكاتب مقال في صحيفة "قرار" المعتدلة المؤيدة لحزب العدالة والتنمية. كتب شاغريجي أخيرا مقالا مثيرا للجدل حول الحاجة إلى مساءلة المجموعات الإسلامية. وقال إن الكثير من المجموعات الإسلامية في تركيا وليس الغولنية فقط تؤمن بمفاهيم مثل المهدي المنتظر المخلص الذي سيأتي في نهاية الزمان، وهي فكرة لا وجود لها في القرآن. وكتب يقول "هذه الأساطير نبعت من روايات دينية غير موثوقة أنتجت على مر العصور، وقد حولها أتباع غولن إلى تهديد لأنهم كانوا قادرين من خلالها على اكتساب قوة هائلة.
على الجانب الآخر هناك الإسلاميون الأكثر تمسكا بالتقليد الذين يلومون الحداثيين أنفسهم على هذه المشكلة. أحد الأصوات الأكثر تشددا في هذه المجموعة يعقوب كوسيه، وهو كاتب مقال في صحيفة ستار المؤيدة لأردوغان. كتب كوسيه مقالا عنوانه "من سيسيطر على الكليات الدينية". ووفقا لرأيه فإن المشكلة لم تكن في الاتجاه الغالب في التراث السني، ولكن المشكلة في انحراف الغولنية عنه. ويرى كوسية أن جذور المشكلة ترجع إلى المسلمين الإصلاحيين في القرن التاسع عشر، مثل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، الذين ادعوا جميعا تجديد الإسلام. وأشار كوسيه أيضا إلى دعوة الغولنية إلى حوار ديني مع المسيحية، وعده دليلا على الهرطقة. وبالنسبة له فإن الحل الحقيقي تطهير كليات العلوم الدينية في تركيا من جميع الحداثيين الذين انحرفوا عن " العقيدة النقية" عقيدة أهل السنة والجماعة.
أما عن رأيي في هذا النقاش، فإنني أتفق بالتأكيد مع الحداثيين، لأن المشاكل العقدية التي نراها في جماعة غولن هي في الواقع متأصلة في التراث السني الذي يتجنب الفردية والعقلانية على حساب الطاعة. كما أن الإيمان القوي برؤى آخر الزمان، أي أننا في نهاية الزمان وفي حاجة إلى منقذ، مشكلة شائعة لدى مختلف الجماعات الإسلامية التي تنظر جميعا إلى قائدها على أنه المهدي المنتظر.
ومع ذلك فإن هناك بعض الفروق الدقيقة التي يحتاج الحداثيون إلى رؤيتها. النقطة الرئيسة أنه لا توجد جماعة إسلامية أخرى مثل جماعة غولن لديها هذا الطموح للاستيلاء على الدولة بالتسلل الخفي (أطلقت عليهم في مقال آخر مصطلح الإسلاميون البيروقراطيون). في الواقع فإن نظام الاعتقاد الذي يلوم بعض الحداثيين الغولنية بسببه بدأتها كتابات سعيد النورسي (المتوفى عام 1960) التي تضم تحفظات على الاصطفاف إلى جانب السلطة. وكما كتبت مرارا وتكرارا – في مقالات تحذر الغولنية من شهوتها للسلطة، فقد ميز النورسي بين الصولجان (السلطة) والنور (الدين). وكتب النورسي أن على الذين يرغبون في خدمة الدين الإحجام عن انتزاع "الصولجان" ما من شأنه أن يخيف الناس فقط من "النور". وليس من المستغرب أن أتباع النورسي، باستثناء غولن وأنصاره، لم ينخرطوا في البيروقراطية الإسلامية، وظلوا في داخل المجتمع المدني.
ثمة نقطة أخرى يجب أن تدرج في النقاش: طبيعة الدولة التركية. الجمهورية التركية منذ نشأتها في عام 1923 قامت على أنها النقيض التام للحكومة المحدودة، فهي هيكل ضخم لها السيطرة المركزية على جميع الأجهزة البيروقراطية وقوات الأمن والتعليم (بما في ذلك الجامعات) والمؤسسات، وتتمتع حتى بنفوذ كبير على وسائل الإعلام والاقتصاد. ونظرا لأن الدولة قوية للغاية ومركزية وحاسمة، فإن كل فئة اجتماعية تقريبا تتطلع إلى التأثير فيها وحتى الاستيلاء عليها.
ولهذا فإن محاولة الانقلاب الغولنية حادثة واحدة فقط في قرن طويل من الحروب السياسية المريرة. وهذا هو السبب في أن تركيا شهدت أربعة انقلابات عسكرية سابقة، بالإضافة إلى بعض المحاولات الانقلابية غير الناجحة. ولهذا السبب كان الترقي داخل هيكل الدولة طموحا وطنيا لدى كل الجماعات تقريبا مثل الكماليين والقوميين واليساريين واليمينيين والسنة والعلويين.
أحد أكثر المراقبين حصافة للوضع التركي الذين أعرفهم الأكاديمي المقيم في لندن ضياء ميرال وصف بدقة الداء الكامن عندما عرف محاولة انقلاب يوليو بأنها " حلقة أخرى في تاريخ تركيا من المنافسة للسيطرة على الدولة". وأضاف أن المشكلة النهائية التي يجب أن تواجهها الدولة هو كيف يمكن جعل الدولة التركية أقل جاذبية، وأقل محسوبية ومحاباة، وأقل استهلاكا، ولكن تخدم جميع المواطنين على قدم المساواة ، والتوظيف والتعيين على أساس الجدارة وليس على أساس الهوية، والعمل ضمن سيادة القانون ودون هيمنة أي جماعة؟
المشكلة موضع النقاش بعبارة أخرى لا تتعلق بالإسلام فقط بل بحالة الدولة التركية، فهي ليست مجرد دين، لكنها نظام سياسي وثقافي أيضا، يحتاج الأتراك جميعا أن يناقشوها بشكل جدي وبناء. على أنه يوجد، ويا للأسف، مجال صغير لمثل هذا الحوار في تركيا في الوقت الراهن، لأن الحماسة السياسية لا تهيمن اليوم فحسب، بل من الراجح أنها ستطول لبعض الوقت.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس