بقلم: د. مصطفى الستيتي - خاص ترك برس
تضغط الولايات المتحدة الأمريكيّة اليوم بقوة، ومن خلفها انكلترا وفرنسا لإدخال تركيا في التّحالف للحرب على "الدولة الإسلامية"، بل إن أطرافا كثيرة غربية تتّهم تركيا بدعم الإرهاب في سوريا والعراق، وتعتبر رفض دخولها في الحرب ضد "داعش" دليلا قويّا على ذلك، وكان زير الدفاع الأمريكي واضحا عندما قال :" ثم اعتذر عن تصريحاته بعد ذلك، لكنّ الاعتذار لا يقلّل من أهمّية الاتّهام.
تركيا اليوم تقع تحت ضغط شديد؛ فهي تُؤوي نحو مليون ونصف مليون لاجئ سوري، و"داعش" وصلت إلى قرية عين العرب على الحدود السّورية التّركية، والأكراد داخل تركيا مُستنفرون يريدون الالتحاق لنصرة إخوانهم داخل المناطق السّورية دفاعا عن عين العرب. بل لقد وقعت أحداث دامية قتل فيها العشرات، وعمليّات حرق بالجُملة لمبان حكوميّة وسيّارات وغير ذلك داخل تركيا.
العلاقات التّركية العربيّة تحسّنت تحسّنًا واضحًا خلال السّنوات العشر الأخيرة، وقد تم بذل جهود كبيرة سواء من الجانب التركي أو من جانب بعض الدّول العربية للوصول بها إلى مستوى كبير من التّعاون في شتى المجالات وخصوصا بعد قيام الثّورات العربية .
والغرب لن ينظر بعين الرّضا إلى هذا التّطور الكبير في العلاقات التّركية العربية بعد قطيعة دامت عقودًا، وهذا ما يذكرنا تماما بما نفذته الدول الغربية الكبرى من أجل تدمير الدولة العثمانية وتخريب العلاقات التّركية العربية قبل مائة عام من الآن.
ففي بداية القرن العشرين كانت الدّول الغربية تسعى بقوّة في سبيل زرع بذور الفتنة بين العرب والأتراك وتخريب كل ما تحقّق من تحسن في الوضع الدّاخلي للدّولة العثمانية سياسيّا واقتصاديا في عهد السّلطان عبد الحميد الثاني. وقد تمكّنت بالفعل من تحقيق الهدفين معًا بمساعدة من أطراف داخل السّلطة وأطراف أخرى عربية كانت لديها مطامع في الاستقلال وإقامة خلافة أو حكم عربي مستقل عن الجسم العثماني بقيادة الشّريف حسين. وسُرعان ما انطلت الدّسائس التي حاكتها أطراف إنكليزية وفرنسية في ظرف كانت الدّولة قد بدأت تنهض شيئًا فشيئًا.
فقد حقّق السّلطان عبد الحميد الثاني إنجازين كبيرين على المستوى الاقتصادي والسّياسي تمثلا في إنجاز سكّة حديد الحجاز التي تربط بين دمشق والمدينة المنورة، حيث ينطق الخط من الشام مرورا بعمّان ومعان ثم تبوك ومدائن صالح وصولا إلى المدينة المنورة. وهذا الإنجاز العظيم مكّن من تقريب المسافة زمنيّا فيما يتعلّق بالحجّ، وكذلك ربط مناطق مهمّة من الدّولة ببعضها البعض، ونشط الاقتصاد وأصبح بالإمكان الوصول بسرعة إلى الأماكن التي تشهد توتّرات وأعمال تخلّ بالأمن.
والإنجاز الثّاني الكبير للسّلطان عبد الحميد الثاني هو بثّ روح الأخوّة والاتّحاد ورفع همم المسلمين في كلّ مكان من خلال فكرة الجامعة الإسلامية أو الوحدة الإسلامية. وقد أدرك عبد الحميد أنّه لا بقاء للمسلمين إذا كانوا مختلفين مشتتين؛ أرسل عبد الحميد دعاة إلى جميع مناطق الدّولة العثمانية؛ سواء في شمال أفريقيا أو الجزيرة العربية أو الهند أو غيرها من المناطق. وقد لقيت دعوته تجاوبًا كبيرا، وانضمّ إليها العلماء والدّعاة والسياسيون والعسكريون بحماس كبير خاصة بعد أن أدرك الجميع اشتداد المؤامرات لتمزيق الدّولة، وانفضاح نوايا الدّول الكبرى على إثر ما تسرّب من مقرّرات مؤتمر برلين الذي عقد بألمانيا عام 1878م وعزم الدّول الغربية على تمزيق الدّولة العثمانية واقتسام أراضيها فيما بينها.
وبالفعل كان أوّل شيء عملت على تحقيقه الدّول الغربية المتآمرة هو التحريض المستمر من قبل الصّحف الأوروبية ضدّ السلطان عبد الحميد ووصفه بالسّلطان الأحمر والسّلطان المستبدّ، وفي عام 1905م تعرض لمحاولة اغتيال دبّرها ضدّه مجموعة من الأرمن أثناء خروجه من الصّلاة يوم الجمعة. ولما لم تُفلح محاولاتهم في اغتياله أو تنفير النّاس منه تسرّب إلى السلطة عناصر من الموالين للغرب والعملاء له، وبذلك تم الانقلاب عليه من الدّاخل بواسطة جماعة "الاتحاد والترقي" التي كانت تضمّ عناصر ماسُونيّة. وتم الانقلاب على السلطان في عام 1909م، ثم تمّ الإيعاز إلى رعاع القبائل العربية بتخريب خطّ حديد الحجاز وتخريب آمال ملايين المسلمين الذين تفاءلوا خيرًا بهذا المشروع الذي أنجز بأموال المسلمين وعرقهم دون الحاجة إلى اقتراض أيّ قرش من الدّول الغربيّة.
والخطوة الثالثة التي أقدم عليها أعداء الأمة الإسلامية في مواجهة مشروع الجامعة الإسلامية هو تحريض العرب ضدّ الأتراك وتحريض الأتراك ضدّ العرب وبثّ الفتنة بين الأخوة الذين تعايشوا معًا في جوّ من الإخاء والوئام والمحبة لمئات السّنين. وما زالت آثار تلك الفتنة موجودة إلى اليوم لدى شرائح كثيرة من المثقفين العرب والأتراك، بحيث ما زلنا نلاحظ من العرب من يعتبر الوجود العثماني في البلاد العربية احتلالا، ومن الأتراك من يعتبر العرب هم السّبب وراء هزيمة الدولة العثمانيّة وأنهم هم من طعنوا الأتراك في الظّهر بتحالفهم مع الانكليز.
واليوم يتكرّر السّيناريو نفسه بطريقة مختلفة، فالولايات المتحدة الأمريكيّة وحلفاؤها الإنكليز والفرنسيون يسعون إلى جرّ تركيا إلى مصير شبيه بما حدث مع الدّولة العثمانيّة زمن السّلطان عبد الحميد الثاني. ويتمثّل السّيناريو في إدخال تركيا في حرب مع تنظيم "الدّولة الاسلامية"، وكذلك تحريض جهات في داخل تركيا على إثارة الشّغب. وقد لقيت هذه الدّعوة استجابة من قبل حزب الشّعب الجمهوري المعارض حيث قال زعيمه قلجدار أوغلو إنّ استضافة تركيا لمليون ونصف مليون لاجىء سوري يعدّ خيانة للبلاد.
ودُخول تركيا في حرب مع هذا التّنظيم سوف يكون له تداعيات خطيرة جدّا، فتحرّك من هذا النّوع سوف يُنظر إليه على أنّه حرب ضدّ مكوّن سنّي بالرّغم من الاتّفاق على اعتبار "داعش" تنظيمًا يعتمد العنف بطريقة مفرطة وقاسية. وهذا التّدخل إن حدث سوف ينتج عنه سقوط ضحايا مدنيّين سوريّين، وهو ما سوف يثير حساسيّات لدى الكثير من العرب، وسوف يُفسد جو التّقارب والثقة الذي بدأ يسود بين الطرفين. كما أنّ أية مشاركة لتركيا في الصراع مع "داعش" سوف تنتقل تداعياته إلى داخل تركيا وتستغلّه المعارضة التركيّة لتأليب الشّعب على الحكومة الحاليّة وربما يصل الأمر إلى حدّ العمل على إسقاطها، ولا ننسى أن الحكومة تخوض حربًا صامتة مع "الكيان الموازي" الذي له امتداداته في جميع مفاصل الدّولة، وهو على استعداد للتعاون مع أيّة جهة من أجل النّيل من الحُكومة وإضعافها.
تركيا تمثّل اليوم أملاً للكثير من الشّعوب العربية والإسلامية في النّهوض والتّحرر والدّيمقراطية وسط مناخ من الظّلم المسلّط على أغلب الشّعوب العربية سواء من قبل الحكومات المحلّية أو بفعل التدخلات الخارجيّة، ولذلك لن ترضى عنها القُوى الغربيّة الكُبرى، وسوف تسعى ما أمكنها لقتل هذا الأمل ووأد هذا الحلم.
هدف الدّول الغربية الكبرى هو إدخال تركيا في صراع مع جيرانها العرب من ناحية ومع الأكراد من ناحية أخرى بحيث تفتح على نفسها جبهتين من الاقتتال لا مخرج منهما، فيتبخّر كلّ ما تحقّق في البلاد من رخاء اقتصادي واستقرار سياسي وأمن اجتماعي، وتصبح المشاريع الكُبرى التي أعلنت عنها الحكومة والمتوقع إنجازها خلال العقد القادم مجرّد أحلام.
هناك مؤامرات تربّصت بالثّورات العربية وأفسدت على الشعوب العربيّة حلمها في الديمقراطية والتّحرر من ربقة الفساد والاستبداد، فتمّت الإطاحة بأوّل رئيس منتخب في مصر، وسُكت على ما يُرتكب فيها من انتهاكات على مرأى ومسمع من العالم كلّه، وأُطلقت يد بشّار الأسد في سوريا يَعيث في الأرض قتلا ودمارًا، وامتدت الأيادي إلى الثّورة الليبية فحرفَتْها عن مسارها، وهناك أطراف لا تخفي دعمها لأعداء الثّورة هناك، وساد صمت مُريب عندما استولى الحوثيّون بتحالف مع رجال النّظام القديم على صنعاء، ومن قبل فُعل كل شيء من أجل إجهاض التّجربة الديمقراطية في تونس، لكن الله سلّم وأنجزت البلاد أو دستور يفخر به التونسيّون، وهي مُقبلة على انتخابات مصيريّة وسط أمواج عاتية من حولها تكاد تقتلع كل شيء.
القوى الغربيّة لن تسمح بنهوض العرب والمسلمين، ولن تسمح بأيّ تقارب بين العرب فيما بينهم أو بين العرب والأتراك إخوانهم في الدين والتّاريخ. والعرب لن يتخلّصوا من هذه المؤامرات ولن يتمكنوا من إحباطها إلاّ إذا أدركوا حقيقة هذا الغرب الذي يُريهم في الظّاهر أمَلاً خُلّبا بينما يحفر لهم من تحتهم حتفهم، فليس للغرب أصدقاء كما قال وزير فرنسي سابق بل للغرب مصالح. ومصالحه في بقاء العرب والمسلمين مشتتين مستضعفين.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس