سعيد الحاج - عربي 21
في المؤتمر الصحافي الذي جمعه بنظيرته البريطانية تيريزا ماي، مازحها رئيس الوزراء التركي بن علي يلدرم قائلا: "من دخل الاتحاد الأوروبي نادم، ومن خرج منه نادم". جملة قصيرة عارضة أظهرت إلى أي مدى كان "الاتحاد الأوروبي" حاضرا في الزيارة واللقاءات الثنائية رغم أن المعلن والمستهدف كان العلاقات الثنائية والتعاون المستقبلي حيث وقع الجانبان اتفاقين أحدهما "مشروع الطائرات الحربية الوطنية" والثاني "برنامج التعاونِ في مجال الأمن الجوي".
وبعد أيام قليلة، ستكون المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في زيارة لتركيا من المتوقع أن يكون ملف اللاجئين على رأس أولياتها، سيما وأنها تأتي في ظلال الأزمة التركية- اليونانية بخصوص الضباط الانقلابيين الذين لجؤوا لليونان، وهددت أنقرة على إثرها بإلغاء الاتفاق الثنائي معها بخصوص اللاجئين وضبط الحدود البحرية. زيارتان هامتان إذن على هامش أزمة مع الجارة اليونان تصبان في قلب العلاقات التركية - الأوروبية المتوترة.
تقدمت تركيا بطلب عضوية الجمعية الأوروبية عام 1959، وما زالت تنتظر منذ ذلك الحين على الباب الأوروبي رغم بدء عملية التفاوض والانضمام عام 2005. ومنذ توتر العلاقات بشكل كبير بعد فشل اتفاق إعادة اللاجئين (آذار/ مارس 2016) في تحرير تأشيرة شينغن على المواطنين الأتراك، بدأ الخطاب الرسمي التركي يتحدث عن "بدائل" أمام تركيا غير الانضمام للاتحاد، فما هي هذه البدائل؟
بادئ ذي بدء، فإن تهديد تركيا بالبحث عن بدائل و/ أو بدئها بهذا البحث عمليا أمر متوقع ومتناسق مع الوقائع والتطورات، فمسيرة انضمامها للاتحاد الأوربي تبدو أمام حائط سد، بفعل الاعتراضات الأوروبية الناشئة عن أسباب ثقافية واقتصادية وسياسية (1)، ولأسباب فنية تتعلق بشروط العضوية ومحطاتها والمعرضة لـ"فيتو" من أكثر من دولة (2)، فضلا عن أسباب أخرى للتوتر تتعلق بموقف الدول الأوروبية من المحاولة الانقلابية في تركيا في تموز/ يوليو 2016 والإجراءات الحكومية التركية بعدها.
جزء مهم من هذه البدائل مرتبط بمسار التقارب مع روسيا، والذي أتى استجابة لضرورات الأمن القومي التركي والخلافات التركية - الأمريكية حول الحل في سوريا سيما فيما يختص بالفصائل الكردية المسلحة. ولكن تطور العلاقات بين أنقرة وموسكو من مستوى التطبيع والتقارب إلى مستويات التفاهم ثم التنسيق قد أعطاها أهمية استثنائية أيضا على صعيد مجمل السياسة الخارجية التركية. هنا، تظهر منظمة شنغهاي للتعاون التي تتزعمها روسيا والصين في مواجهة الغرب بديلا مرغوبا به من قبل تركيا للحلف وللاتحاد الأوروبي وإن قالت في العلن إنها حريصة عليها جميعها. كما أن اتجاه تركيا لشراء منظومة دفاع صاروخي من روسيا - عدو الناتو اللدود - ذات دلالات أكثر من موحية على هذا الصعيد.
من جهة أخرى، تظهر بريطانيا التي بنت حملة خروجها من الاتحاد على تضخيم المخاوف من انضمام تركيا للاتحاد، تظهر في موقف آخر يعكس مودة غير مسبوقة بين الطرفين، سيما في ظل بحث لندن أيضا عن شركاء جدد بعد إتمام عملية الانفصال. بدأت هذه اللقاءات بزيارة وزير الخارجية بوريس جونسون، وتعمقت أكثر مع زيارة تيريزا ماي قبل أيام، وهي زيارات نسخت فتور العلاقات السابق وضخت دماء جديدة في قنوات العلاقات، سيما الاقتصادية والعسكرية (الدفاعية).
بيد أن المتغير الأكبر المؤثر في العلاقات التركية مع الاتحاد الأوروبي قد يأتي من خارج الأطر الثنائية بين الجانبين، تحديدا من الولايات المتحدة الأمريكية ورؤية رئيسها الجديد ترامب. لقد كانت ماي أول زائري البيت الأبيض من خارج الولايات المتحدة، كما امتدح ترامب قرار الانفصال عن الاتحاد الأوروبي واعداً بشراكة أمريكية - بريطانية واسعة.
هذا المسار الأمريكي - البريطاني يضاف إلى سعي ترامب لتقليص مسؤوليات بلاده اتجاه المؤسسات الدولية ومنها حلف الناتو وسياسته المتوقعة إزاء روسيا بما يخفف من حدة الاستقطاب السابقة إزاء تركيا. وهو ما يفتح قنواتٍ ومجالات للاستفادة التركية أيضاً، كطرف ثالث متضرر من السياسات الأوروبية مؤخرا، ويضع على طاولة أنقرة منظومة بدائل وخيارات متاحة، ولعل في توجه ماي من واشنطن مباشرة إلى أنقرة إشارات مهمة على الاستعداد البريطاني لهذا المسار.
إذن، لا ينقص أنقرة الأسباب والمسوغات التي قد تدفعها لهذا المسار الذي سيعتبر انقلابا جذريا وعميقا على أسس السياسة الخارجية التركية التي بنيت على المحاور الغربية على مدى عشرات السنين، سيما ملف عضوية الأوروبي، كما لا ينقصها تشجيع هذه الأطراف الثلاثة الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا عليه. بيد أن أمام هذا الخيار ثلاثة معيقات رئيسة هي:
أولا، صعوبة الانفكاك. إن عشرات السنين من عضوية تركيا في الناتو وشراكتها الاستراتيجية مع واشنطن ومفاوضاتها مع الاتحاد الأوروبي تعني الكثير الكثير على صعيد المصالح والضغوط والمؤسسات والأشخاص والولاءات والاختراقات والعلاقات. بما يعني أن قراراً بالانفكاك ولو جزئياً عن هذه المنظومة الغربية سيكون ثمنه باهظاً جداً على أنقرة، سيما إذا ما قارنا ذلك بالضغوط التي تعرضت لها تركيا فقط بسبب استقلالية جزئية سعت لها في سياستها الخارجية، بما في ذلك الانقلاب الفاشل.
ثانيا، المصالح الاقتصادية. قد تشكل العلاقات مع هذا الثلاثي - رغم تعارضها الشكلي أيضاً - خياراً سياسياً لتركيا، لكنها ما زالت بعيدة جداً عن أن تكون خياراً اقتصادياً. تظهر أرقام هيئة الإحصاء التركية لعام 2015 (أرقام 2016 ما زالت غير معلنة) أن الاتحاد الأوروبي هو الشريك التجاري الأكبر لتركيا بواقع 142 مليار دولار من أصل 351 مليار دولار، حيث تتصدر ألمانيا القائمة بنما تتواجد إيطاليا وفرنسا وإسبانيا ضمن العشر الأوائل. بينما لا يتعدى حجم تبادل تركيا التجاري مع الاتحاد الروسي 24، ومع الولايات المتحدة 17، ومع انجلترا 16 مليار دولار أمريكي، وهي أرقام بعيدة جداً عن منافسة الاتحاد الأوروبي كمجموعة، بل هي أقل من ميزان التبادل التجاري مع ألمانيا لوحدها (35 ملياراً).
ثالثا، السمعة والمكانة. لا شك أن النظام الدولي مرشح لمتغيرات كبيرة وعميقة مع رئاسة ترامب وفي وجود بوتين وماي، بل ومع توقعات بتصاعد اليمين في أكثر من دولة أوروبية، لكن السؤال هو إلى أي مدى من مصلحة تركيا أن تصنف نفسها أو أن يحسبها الآخرون على هذا التيار اليميني المتصاعد في العالم؟ هذا سؤال ينبغي إعداد إجابته بعناية وحكمة (3)، فضلاً عن أن الأمر لن يقتصر على السمعة والمكانة والتصنيف، بل سيمتد إلى السياسات والاتجاهات والقرارات.
في المحصلة، ما زال موقع تركيا الوسطي يفرض نفسه عليها سياسياً واقتصادياً، وما زال الاقتصاد التركي المعتمد إلى درجة كبيرة على الاستثمارات الأجنبية محدداً مهماً في السياسة الخارجية، وما زالت تركيا لم تصل إلى القوة التي تمكنها من فرض أجندتها ومصالحها على الأطراف الأخرى أو أن يكون قرارها ذاتياً خالصاً، بل تحاول قدر الإمكان الاستفادة من المتغيرات في الإقليم والعالم وهي نفسها المتغيرات التي تجبرها أحياناً على خيارات وقرارات صعبة.
والحال كذلك، لا يمكن توقع انفكاك كامل لأنقرة عن شركائها الغربيين في بروكسل، وما زال أقصى ما يمكنها فعله - كما أسلفنا في أكثر من مقال سابق - هو تنويع محاور سياستها الخارجية لتتمتع بأريحية واستقلالية أكبر في سياستها الخارجية. أما إذا ما أرادت انزياحاً جذرياً وانحيازاً كاملاً فإن عليها بناء عناصر قوتها التي تمكنها من فعل ذلك و/أو تحمل تبعاته فضلاً عن مدى صوابية الثقة بـ"الحلفاء الجدد"، وهو الخيار الذي لا أظنها ستقدم عليه قريباً أو على المدى المتوسط.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس