جورج فريدمان - هافينغتون بوست - ترجمة وتحرير ترك برس
في الواقع، يعتبر مؤتمر ميونيخ الأمني من أهم التجمعات العالمية التي يجتمع فيها معظم كبار القادة ليقتنصوا الفرصة المتاحة لهم لإلقاء الخطب وعقد الاجتماعات مع بعضهم البعض. وفي معظم الأحيان، تكون أغلب هذه الاجتماعات رسمية وجوهرية تناقش فيها المسائل المتعلقة بالسياسات الأمنية والخارجية.
في الأسبوع الماضي، عقد مؤتمر ميونيخ الأمني لهذه السنة، وقد كانت أنظار الجميع موجهة إلى الوفد الأمريكي الذي كان يترأسه نائب رئيس الولايات المتحدة، مايك بنس، ووزير الدفاع، جيمس ماتيس، الذين حضروا برفقة مجموعة من المساعدين وشخصيات سياسية أخرى غير معروفة.
وفي خضم هذا التجمع العالمي، بدا أن التركيز على الوفد الأمريكي، أمر بديهي، نظرا لأن العالم بأسره يريد أن يعرف حقيقة توجهات السياسة الخارجية الأمريكية في ظل إدارة ترامب.
وعلى الرغم من الوضع المتزعزع الذي تشهده السياسة الأمريكية في الآونة الأخيرة، إلا أن كلا من ماتيس وبنس قد استطاعا عكس صورة مخالفة أثناء المؤتمر، حيث أكدا على أن واشنطن ستستمر في اتباع السياسة الخارجية ذاتها.
وفي الأثناء، ومهما كان الوضع غير متماسك، فإن الوعد بأن ذلك سيستمر دونما هوادة يجعل من الدبلوماسي رجل دولة. ولعل هذا ما أتقن فعله كل من ماتيس وبنس، فقد استطاعا كسب المزيد من الوقت لصالح ترامب، في حين أن إدارته لا تزال تحدد أهم أبعاد السياسة الخارجية الأمريكية.
والجدير بالذكر أن من أبرز المستجدات التي ترتبت عن هذا الاجتماع وبقية الفعاليات الأخرى التي عقدت في الأيام القليلة الماضية، التغير الملحوظ الذي شهدته السياسة التركية تجاه الولايات المتحدة. وفي هذا الإطار، وخلال منتدى أمني عقده وزراء الدفاع في حلف الناتو، في بروكسل بتاريخ 16 شباط/ فبراير، التقى وزير الدفاع الأمريكي، جيمس ماتيس، بنظيره التركي، فكري إيشيك.
وأثناء هذا اللقاء، أكد إيشيك، لماتيس على دعم تركيا للولايات المتحدة باعتبارها أحد أهم حلفائها الاستراتيجيين في حملتها ضد تنظيم الدولة في سوريا. وفي 18 شباط/ فبراير، اجتمع بنس بكل من رئيس الوزراء التركي، بن علي يلدريم، ورئيس منظمة الاستخبارات القومية التركية، هاكان فيدان.
وبعد مرور يوم على هذا اللقاء، أفاد وزير الخارجية التركي في ميونيخ أن تركيا تطالب بالمزيد من الوحدات الأمريكية الخاصة في سوريا. وأضاف وزير الخارجية التركي أن رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية، الجنرال جوزيف دانفورد، قد كان في أنقرة، الأسبوع الماضي، لمناقشة جملة من "المسائل التقنية" المتعلقة باحتمال نشر المزيد من القوات الأمريكية في المنطقة.
في الواقع، اتسمت العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة بنوع من الفتور منذ محاولة الانقلاب الفاشلة التي جدت في تركيا. فعلى خلفية هذا الانقلاب، وجهت الحكومة التركية أصابع الاتهام نحو فتح الله غولن، السياسي التركي الذي يعيش في بنسلفانيا، ومؤسس حركة سياسية واجتماعية يتهمها الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بالتورط في محاولة الإطاحة بالحكومة.
ومنذ لجوء غولن للولايات المتحدة، تغيرت أبعاد العلاقة التي تجمع بين البلدين، وذلك بسبب رفض الحكومة الأمريكية تسليمه للحكومة التركية دون أن يخضع لمنظومة القوانين الأمريكية. وعلى ضوء هذا المعطى، حملت تركيا الولايات المتحدة مسؤولية ما حدث، ومنذ ذلك الحين شهدت العلاقات الثنائية بين البلدين فتورا على مستوى الخطابات العامة.
وعلى العموم، تضطلع تركيا بدور فعال في المنطقة، إذ تشارك في الحملات العسكرية باعتبارها أحد أهم ثلاثة أطراف على المستوى الإقليمي، وهذا يشمل أيضا الولايات المتحدة، التي تعتبر حليفا لتركيا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. فضلا عن ذلك، تحافظ واشنطن، من خلال حلف شمال الأطلسي، على أحد أهم وأكبر القواعد العسكرية في تركيا، ألا وهي قاعدة إنجرليك الجوية.
في الحقيقة، تعد هذه القاعدة الجوية مهمة بالنسبة لواشنطن وذلك لضمان حسن سير العمليات الجوية في العراق وسوريا، ومراقبة إيران، وتنفيذ العمليات في البحر الأسود والقوقاز، بهدف التصدي لأي عمليات روسية محتملة. ومن هذا المنطلق، تعتبر هذه القاعدة ذات قيمة استراتيجية فعالة، إذ من شأنها أن تتيح للولايات المتحدة القيام بكل المأموريات المذكورة آنفا.
في المقابل، تُعتبر روسيا أيضا من بين الأطراف الثلاث الأخرى الفعالة للغاية في منطقة الشرق الأوسط، والمعروفة بمنافستها التاريخية للأتراك. ولعل هذا ما أكدته التوجهات الروسية بشأن تركيا على امتداد الحقبتين القيصرية والسوفيتية، حيث كان مضيق البوسفور، وهو ممر ضيق يفصل بين البحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط، يندرج ضمن اهتمامات الروس الحيوية. ولو أمكن للروس السيطرة على هذا المضيق لحظوا بنفاذ غير محدود للبحر الأبيض المتوسط، الذي يعتبر ضرورة استراتيجية بالنسبة لهم.
والجدير بالذكر أن المنطق الذي ساد بين الدولتين منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تمحور بالأساس في مساندة تركيا للولايات المتحدة ضد روسيا للحيلولة دون تحقق أطماعها. وفي هذه الأيام، تبدو روسيا أضعف من أن تتمكن من الاستيلاء على مضيق البوسفور. ومع ذلك، يمتلك الروس طرقا أخرى لإثارة غضب الأتراك، ولعل أكثرها نجاعة، قرار إرسال روسيا لقواتها الجوية لحماية نظام بشار الأسد في سوريا.
وعلى خلاف موسكو، تريد أنقرة الإطاحة ببشار الأسد بسبب الفظائع التي يرتكبها في سوريا والتي ارتكبها في حق الجالية التركية، إلا أن موسكو تدخلت لإنقاذه. وإثر هذا التدخل، أطلقت القوات التركية النار على الطائرات الروسية التي اخترقت المجال الجوي التركي. وقد أفضت هذه الحادثة إلى دخول العلاقات الروسية التركية في مطب سياسي حاد كان أشبه بالحرب. ثم تلت هذه الحادثة، وقوع محاولة الانقلاب التي ألقى الأتراك على إثرها باللوم على غولن، وبشكل غير مباشر، على الأمريكيين. وفي أعقاب ذلك، شهدت العلاقات الروسية التركية تحسنا مفاجئا.
وبالاستفادة من عدائهم للطرفين الروسي والأمريكي، وجد الأتراك أنفسهم في موقف يحسدون عليه، خاصة وأن تركيا تدرك أهميتها بالنسبة لكليهما. فالولايات المتحدة في حاجة ماسة إلى قاعدة إنجرليك الجوية فضلا عن أنها لا تستطيع الاستغناء عن مساعدة تركيا في إدارة العالم العربي. أما روسيا، فتحتاج إلى تعزيز قوتها لعرقلة مساعي الولايات المتحدة في أوكرانيا وفي بقية المناطق المجاورة لها. وبالتالي، فإن تركيا تعتبر حليفا مناسبا لأن اتحاد كلا البلدين يمكن أن يشكل تحديا للولايات المتحدة.
ووفقا لهذه المعطيات، حظيت أنقرة بتودد بلدين لم تتوانى لحظة واحدة عن احتقارهما رسميا، أملا في الحصول على تنازلات من كليهما مقابل الحيلولة دون انتقال تركيا إلى المعسكر الشرقي. وعلى الرغم مما روجت له وسائل الإعلام التي اعتبرت أردوغان غير منطقي البتة، إلا أنه كان فعلا قادرا على تحقيق التوازن بين روسيا والولايات المتحدة ضد بعضهما البعض.
في المقابل، تواترت العديد من الدلائل التي تؤكد على أنه، ونظرا لتفوق روسيا في سوريا، فضل الأتراك دعم الطرف الأمريكي، لترجح بذلك كفة الولايات المتحدة. ووفقا للتقارير المتعلقة بهذا الشأن، فإن الولايات المتحدة لا تستعد فقط لإرسال قواتها الخاصة بل هي تدرس احتمال إرسال قوات الجيش البرية والبحرية لدحر تنظيم الدولة. وعلى ضوء هذه التقارير، أعرب الأتراك عن أملهم في وفاء الولايات المتحدة بالوعود التي قطعتها.
وعلى الرغم من الفتور الذي يميز العلاقات بين أنقرة وواشنطن، فإن الأتراك لم يتدخلوا أبدا في سير العمليات العسكرية في قاعدة إنجرليك العسكرية. خلافا لذلك، لايزال الطرف التركي يطالب الولايات المتحدة بوقف دعم الأكراد في سوريا. وفي الأثناء، لم تقرر السلطات التركية كيف ستتعامل مع واشنطن في حال أصرت على مواصلة تقديم يد العون للأكراد.
وفي خضم الجدل القائم بين الأطراف الثلاث، يبدو أن الوضع الأمني في سوريا قد وصل إلى ذروته. وفي هذه المرحلة الحرجة، أصبح الأتراك أكثر حرصا على التدخل. وفي ظل سعي الولايات المتحدة لتقديم جملة من التنازلات فيما يخص التوافق السوري، فإن العلاقات بين تركيا وروسيا ستعود إلى سابق عهدها قبل الانقلاب.
وبعد مرور فترة على استئناف المعاملات بين تركيا وروسيا، أيقنت أنقرة أن التحالف مع روسيا لن يجدي نفعا نظرا لمحدودية دور روسيا كحليف مستقبلي. وفي نهاية المطاف، تبين أن قدرات روسيا العسكرية محدودة فضلا عن تواضع أدائها الاقتصادي. وفي الوقت الحالي، يشهد الجنوب التركي تزايد حدة التهديدات الأمنية خاصة من الجانب الإيراني.
وتجدر الإشارة إلى أن هناك العديد من المصالح المشتركة بين كل من تركيا والولايات المتحدة التي أصبحت، أكثر من أي وقت مضى، قادرة على الوفاء بعهودها. وفي حال قررت الولايات المتحدة دحر تنظيم الدولة سيتوجب عليها عقد تحالفات مع العديد من الأطراف الدولية الفاعلة، ولعل أبرزها تركيا، خاصة وأنها تعتبر أهم حليف لها في المنطقة.
وفي الختام، أصبحت تركيا تلعب دورا مغايرا في خضم هذا التحالف، يختلف تماما عما كان عليه قبل 20 أو 10 سنة خلت، إذ تتبع تركيا اليوم سياسة "الند بالند" مع روسيا. أما في تعاملها مع الولايات المتحدة، فتظهر تركيا على أنها أقوى منها وتسعى إلى جعلها معتمدة عليها.
وبغض النظر عن المكانة الإقليمية التي وصلت إليها تركيا، فإنها تحتاج إلى حليف فعال وبارز. وفي الأثناء، تشير جميع المؤشرات إلى أن الحليف المرتقب لتركيا سيكون بلا شك الولايات المتحدة.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس