جلال سلمي - خاص ترك برس
لن نجد مصطلح "القوس الهلالي الأفريقي" لا في مذكرات المواقع الرسمية التابعة للحكومة التركية ولا في دراسات مراكز الأبحاث المختصة بالشأن التركي، بصرف النظر عن لغتها وهويتها. مصطلح "القوس الهلالي الأفريقي" هو محض تصوّري حول المشروع التركي الرامي إلى رفع مستوى النفوذ الدبلوماسي لتركيا في منطقتي الشرق الأوسط وأفريقيا، من خلال تحقيق نفوذ عسكري أمني وتجاري وتمويلي يشمل الصومال والسودان ومصر وليبيا على وجه الخصوص.
لم يمر خبر نشر قوات روسية خاصة على بعد 100 كيلومتر من الحدود الليبية المصرية، تحديدًا في قاعدة "سيدي بيراني" العسكري المصرية الواقعة في مدينة "مرسى مطروح"، مرور الكرام، بل تمت متابعته باهتمام عالي عكس مستوى الامتعاض التركي من ظهور حجر عثرة جديدة أمام مشروعها الذي ترمي لإحرازه في المنطقة المذكورة، ولكن ما تلبث أن تواجه حجر عثرة، حتى يظهر للسطح حجر عثرة آخر يعيق مشروعها الاستراتيجي.
فلماذا هذا الاهتمام التركي العالي من التحرك الروسي، وهل يقف الأمر على ليبيا أم هناك امتداد جغرافي سياسي استراتيجي لذلك الحدث؟
لقد أعارت الصحف التركية ـ المعارضة والموالية على حدٍ سواء ـ الاهتمام الواضح لخبر انتشار القوات الروسية الخاصة في قاعدة "سيدي براني" المصرية، ويمكن تفسير حجم ذلك الاهتمام العالي من الصحافة التركية التي تعكس بدورها الرؤية الرسمية للحكومة التركية على النحو التالي:
ـ حجم التأثير السلبي الهائل الذي ستتسبب به هذه القوات للمصلحة التركية في شمالي وشمال غربي أفريقيا، والحوض الشرق للبحر المتوسط. فنشوب خلاف سياسي جديد بين تركيا وروسيا كذلك الموجود في سوريا، لا يؤدي إلى استنزاف الطاقات التركية فقط، بل يعرض المصلحة التركية الاستراتيجية للكثير من الخسائر السياسية والاقتصادية والأمنية على صعيد رجوح كفة ميزان القوى لصالح القوى المنافسة لها؛ كمصر والإمارات الداعمتين لقوات "حفتر" المناهضة للمجلس الوطني الليبي الذي أظهرت القوات التابعة له، "قوات الدفاع عن بنغازي تقدمًا ملحوظًا في محيط "الهلال النفطي". وهذا ما دفع القوات الروسية تظهر تدخلها عبر دعمه، أي "حفتر"، عسكريًا.
لم تكد تركيا تعود إلى الساحة الليبية لإعادة بناء نفوذها من خلال إعادة فتح سفاراتها المقفلة في طرابلس منذ عامين ونصف في يناير/ كانون الثاني، لارجاح كفة الميزان لصالحها عبر سحب البساط من تحت مصر "المحالفة للإمارات" والجزائر "الساعية للتقارب من إيران"، وتحويل الملف الليبي ليكون بين يديها عبر زيادة الدعم الدبلوماسي والاقتصادي للمجلس الوطني الليبي بقيادة "فايز السراج"، وتلميع هويتها الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية كنموذج يمكن من خلاله التوسع داخل أفريقيا في حال تم تحقيقه في ليبيا، واستغلال الدعم البريطاني الدبلوماسي والعسكري لسبق روسيا في ترسيخ النفوذ وإغلاق المجال أمامها، كون الطرفين "تركيا وبريطانيا" لهما قواعد عسكري في قبرص الواقعة في حوض شرق البحر المتوسط ولا يرغبان في اتجاه روسيا نحو تعظيم نفوذها لأكثر من ذلك، حتى صُدمت بسبق القوات الروسية لها من خلال بناء قواعد عسكرية ونشر للقوات الخاصة.
على ما يبدو تركيا تأخرت في ذلك، وأصبحت كفة الميزان راجحة وبوضوح لصالح الجبهة المضادة، وإن كانت ترغب، بالفعل، في الدخول في خضام لعبة التنافس السياسي والعسكري هناك، فعليها تفعيل دورها في منطقة شمال أفريقيا، كالتعاون مع المغرب وتشاد والنيجر والسودان، بشكل قوي وفعال، لا سيما وأن بعض الحركات التمردية من هذه الدول تقاتل إلى جانب قوات "حفتر"، يمكنها من رفع مستوى الدعم السياسي والعسكري اللوجستي "لحكومة طرابلس والقوات الفاعلة تحت جناحها، لا سيما وأن الدول المذكورة آنفًا على علاقات سياسية واقتصادية جيدة جدًا مع تركيا. وفي حال عزفت تركيا عن القيام بهذه الخطوة وانتابها التردد وضعف الإرادة السياسية، فتكرار سيناريو خسارتها الاستراتيجية القاسية في سوريا سيكون أمرًا مفروغًا منه.
ـ حجر عثرة استراتيجي جديد أمام "القوس الهلالي الأفريقي"؛ لم تعكس تركيا "قوسها الهلالي الأفريقي" من خلال خطط مكتوبة، إلا أن قوسها بدا واضحًا، بعد عام 2012، حيث حاولت الانفتاح على تلك المنطقة من خلال توقيع اتفاقية "الرورو" التي تسهل لها نقل صادراتها عبر الموائ المصرية إلى دول الخليج وبعض الدول الأخرى لمدة ثلاث سنوات وبتكلفة منخفضة جدًا. وبعد زيادة حجم استثمارها التجاري في مصر، ظهرت مع قطر على أنها تسير على قدمٍ وساق نحو الحصول على امتيازات لتشغيل قناة السويس. دشنت اتفاقية "الرورو" نفوذ اقتصادي تركي جيد على قناة "السويس"، ولإحكام النفوذ الأمني والاقتصادي على الإقليم، اتجهت تركيا نحو توسيع مستوى ونوعية نفوذها في الإقليم عبر التقارب من الحكومة الليبية حديثة الانتخاب حينها. ولإكمال القوس المذكور سعت للتقارب السياسي والأمني من الحكومة الصومالية. قاعدة عسكرية في الصومال تمثل النفوذ الأمني القريب من "باب المندب" والسويس، واتفاقية تجارية بمميزات جيدة تمثل النفوذ التجاري هناك، وتقارب سياسي واقتصادي وأمني مع ليبيا يُحكم إكمال عملية القوس الذي سيعزز السيطرة التركية على حوض شرق البحر المتوسط ضد المنافسين لها، خاصة روسيا وإيران، من خلال تحقيق النفوذ المذكور الذي قُيّم حينها على أنه قد يشكل نقطة انطلاق تركية متينة نحو القارة السمراء. لكن النفوذ التركي التجاري والأمني على إحدى أهم الطرق التجارية العالمية لا يمكن اعتراضه فقط من قبل روسيا وإيران، بل من قبل الدول الأوروبية وإسرائيل ودول الخليج المناهضة لاتساع نطاق النفوذ التركي، ولعل تسارع هذه الدول على زيارة أو استقبال قائد انقلاب 3 يوليو/ تموز 2013 الرئيس المصري الحالي "عبد الفتاح السيسي" يفسر أحد أسباب دعمها له.
أخفق الجانب التركي في الإبقاء على نفوذها على قناة السويس نتيجة الانقلاب العسكري الذي قام به "عبد الفتاح السيسي"، وهذا ما يمكننا من استخلاص حجم الهجوم التركي على شخص "السيسي" كونه شكل حجر عثرة مباشر وبالوكالة للدول المناهضة، ورفضه القاطع للتصالح معه، بالرغم من السمة "البراغماتية" للقيادة التركية الحالية. أيضًا، فشلت تركيا في ترسيخ نفوذها السياسي والاقتصادي والأمني في ليبيا نتيجة الصراع "المدفوع" الذي اندلع بين الأطراف الليبية المختلفة أيدولوجيًا وسياسيًا، الأمر الذي اضطرها للانسحاب من ليبيا مغلقةً سفارتها، لعجزها عن إدارة الأوضاع جراء نقص كواردها ومعلوماتها الاستخبارية، فضلاً عن البعد الجغرافي، وظهور تهديدات استراتيجية في سوريا، واليوم فتح روسيا جبهة خلاف جديدة معها.
في العموم، لم تنجح تركيا في تشكيل "الهلال القوسي" إلا في الصومال. ولقد رمت، عبر رجوعها إلى ليبيا، إلى استعادة فرصة بناء نفوذ سياسي واقتصادي وأمني جديد، ولكن على ما يبدو قد فات الآوان لتحقيق ذلك، وبما أن النقطة الأقرب للواقع هي أنها قد لا تستطيع تأسيس "قوسها الهلالي" في الفترة الحالية، يمكنها تحقيق ذلك على الصعيد الاستراتيجي من خلال، كما سلف ذكره، التمتع بإرادة سياسية قوية، والتنسيق الأوسع مع الدول المجاورة للإقليم، ورفع مستوى الدعم اللوجستي "للقوات الشرعية" في ليبيا، فانتصار هذه القوات في ليبيا، يعني أن قطبي القوس تم تحقيقه، ويبقى التقارب مع القطب الثالث "مصر" بشكل دبلوماسي واقتصادي وثيق يمكن تحقيقه من خلال التفاهم مع الدول المنافسة؛ كالإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس