د. مصطفى الستيتي - خاص ترك برس
بعد فشل الانقلاب في تركيا ليلة الــ 15 من يوليو 2016م، كان على الجهات التي خطّطت له أن تبحث عن طرق أخرى لمحاصرة تركيا من خلال مُحاصرة حلفائها وإخضاعهم. فالولايات المتحدة لم تتعاون مع تركيا بعد الانقلاب في موضوع تسليم المتّهمين وخصوصًا فتح الله كولن المتّهم الرئيسي بتدبير محاولة الانقلاب الفَاشلة، وردود أفعالها في البداية اتّسمت بالضبابيّة، ولم تبد أيّ دعم للرّئيس في مواجهة محاولة الانقلاب تلك.
كذلك فإنّ الحُكومات الأوروبية لم تتعاون مع تركيا، بل أعقب محاولة الانقلاب محاولة اِنقلاب اقتصادي، ثم حملة إعلاميّة شرسة اِستهدفت أردوغان على وجه الخُصوص في أغلب وسائل الإعلام الأوروبّية، وصلت إلى حدّ الدّعوة إلى قتله دون أن تحرك أجهزة الأمن في هذه الدول أيّ ساكن.
ولم تكن الدّول الغربيّة فقط متواطئة مع محاولة الانقلاب، بل هناك بعض الدول العربية شاركت بالفعل في العمليّة، فقد نقل موقع "ميدل ايست آي" البريطاني الإخباري عن مصدر مقرّب من المخابرات التركية، أن الإمارات ساهمت في تحضير محاولة الانقلاب الفَاشلة في تركيا، بوساطة القيادي الفلسطيني محمد دحلان.
وبحسب "روسيا اليوم"، فقد ادّعى المصدر لـ"ميدل ايست آي" أنّ القيادي الفلسطيني المفصول من حركة فتح محمد دحلان حوّل أموالاً إماراتية إلى الانقلابيّين الأتراك قبل أسابيع من إخفاق محاولة انقلابهم، وكان يؤدي أيضا دور الوسيط بين الحكومة الإماراتية وفتح الله غولن المقيم في الولايات المتحدة. ووفقا للموقع فإنّ المصدر أكّد أن دحلان كان على اتصال مع غولن عبر رجل أعمال فلسطيني مقيم في الولايات المتحدة، راقبت المخابرات التّركية أنشطته. من جهة أخرى، كانت وسائل الإعلام العربية، التي تتخذ من دبي مقرّا لها، قد أفادت ليل 16/15 يوليو/تموز، بنجاح محاولة الانقلاب، ولم تُدن الحكومة الإماراتية الانقلابيّين إلا بعد 16 ساعة (ساعة واحدة بعد إعلان السّعودية إدانتها).
كما لفت موقع "ميدل ايست آي" إلى أن الإمارات سعت، بعد فشل محاولة الانقلاب بتركيا، إلى استئناف العلاقات الودية مع أنقرة، إذ أوقفت السّلطات في مطار دبي الدولي وسلمت إلى تركيا جنرالين تركيّين بشبهة تورطهما في الانقلاب، هما جاهد باقر، قائد القوات التركية في أفغانستان، والعميد شنر طوبشو، قائد مكتب التدريب والدّعم والاستشارة ضمن القوات التركية في كابل.
والجدير بالذكر، وفقا للموقع ذاته أن الإماراتيّين يشعرون بأنّ أردوغان في ذروة قوّته. وهم لا يحبّونه شخصيّا، ويعتبرونه شخصًا سيُحاول الانتقام. ويعتقدون أنّ أردوغان، بعد تنظيف البيت الدّاخلي، سينتقل إلى معاقبة جهات خارجيّة متورّطة في محاولة الإطاحة بسلطته.
ومع أن الإمارات والمملكة العربية السّعودية أبدتا نوعًا من التّقارب مع تركيا خلال الفترة التي أعقبت محاولة الانقلاب ربّما لتغطية ما ارتكبتاه من خطأ، إلاّ أنّهما على ما يبدو كانتا تنتظران نتائج الانتخابات الأمريكيّة لتحديد وجهتهما.
نعلم أنّ السّياسات الخارجيّة في أغلب دول الخليج ليست سياسات مستقلّة ولا مستقرّة لأنها وليدة قرارات فرديّة لا يمكن الاعتراض عليها، ولا توجد مؤسسات نيابيّة يُمكنها رفضها أو تعديلها. والأمر الثاني أنها سياسات مرتبطة بالمزاج الأمريكي في أغلب الأحيان.
مع مجيء ترمب إلى السّلطة لاحظنا كيف تراجع الاهتمام بقضايا حقوق الإنسان والحرية والدّيمقراطية، ولم نعد نسمع شيئًا عن هذا في تصريحات السّاسة الأمريكيّين. وأصبحت الحرّية تمثل "إرهابا" بالنسبة إلى الأنظمة التّسلطية في المنطقة العربيّة، والمطالبة بها تمثل خروجًا على الحاكم، وشعوب المنطقة وفق النّخب المرتبطة بالسّلطة غير مؤهلة للديمقراطية، والديمقراطية لا تصلح لهذه الشّعوب.
إذن جاءت شعارات ترمب المتمثلة في محاربة "الإرهاب" لتنقذ هؤلاء الحكام من حرج الاتهام بالاستبداد والتّسلط، وأصبح ما يُرتكب في هذه البلدان من تجاوزات ومظالم خطيرة يندرج ضمن لعبة "محاربة الإرهاب"، وأصبحت هذه التّهمة جاهزة تطلق على كل صاحب رأي مخالف.
أصبح التّعبير عن الرأي تحريضًا، والمطالبة بالحرّية تهديدًا للأمن العام، وأي نقد للحاكم مهما كان خفيفًا خروجًا وأتباعه خوارج العصر. وبعد الأزمة مع قطر سُلطت عقوبات وغامات قاسية على من يَتعاطف مجرّد التّعاطف معها.
قطر تمثل حليفًا مهمّا لتركيا، وسياستهما مُتطابقة في كثير من القضايا الحيويّة تجاه سوريا والعراق وليبيا واليمن والثورات العربية. ولها توجه يختلف جذريّا عن التّوجه السّعودي والإماراتي والمصريّ الذي يدعم الثّورات المضادّة، ويسعى جاهدا لإخضاع الشعوب بالقوّة.
وزيارة ترمب إلى السّعودية كانت نقطة تحوّل ومرحلة فارقة بيّنت حجم هذا الاختلاف في توجه الطّرفين. وإشارة ترمب وتعليماته بضرورة تغيير هذا التّوجه في قطر وجد تجاوبًا سريعًا في هذه الدول الثلاث. ويبدو أن الأمر تمّ الإعداد له منذ وصول ترمب إلى السّلطة، لكنه كان ينتظر الوقت المناسب للخروج من حيّز القوّة إلى حيز الفعل.
تغيير التّوجه القطري وسياستها سواء بتغيير النّظام أو بالاحتلال أو بالحصار كان سينعكس بكل تأكيد على تركيا على المديين المتوسط والبعيد، وتفقد تركيا حليفًا قويّا في المنطقة العربيّة. وتركيا حكومة وشعبًا تتذكر جيدًا حجم الدّعم المالي والإعلامي الذي تلقّته من قطر إبّان محاولة الانقلاب الفاشلة، وإبان محاولة زعزعة الاقتصاد في البلاد، ولذلك وصف أردوغان قطر في كلمة له في الدوحة يوم 17 فبراير 2017م بأنها "صديق اليوم الأسود"، بمعنى أنها الصّديق الحقيقي وقت الضيق، "ودّية قطر في ذلك اليوم، أظهرت أنّها صديق لليوم الأسود، كما أنّني أؤمن أن المشاريع المشتركة بين بلدينا ستُساهم في تعزيز الاستقرار والأمن بالمنطقة".
لاشك أن دعم كلّ من قطر وتركيا للثّورات العربيّة ووقوفهما إلى جانب شعوب المنطقة في طموحها نحو التّغيير والحرية والدّيمقراطية أمر يزعج كثيرًا العديد من الأنظمة العربيّة، وخصوصا تلك الأنظمة التي تورّطت في دعم الثّورات المضادّة بالمال والإعلام والسّلاح، كما هو حاصل اليوم في ليبيا ومصر واليمن وسوريا، ومحاولات التأثير على مسار التحوّل الديمقراطي في تونس بشتى السّبل. ووصول دونالد ترمت إلى السلطة يمثل بالنسبة إلى هذه الأنظمة فرصة نادرة من أجل التخلّص نهائيا من مراكز القوة الداعمة للثّورات العربيّة. فترمب لا تعنيه الدّيمقراطية ولا الحرّيات في البلاد العربية، إنما الذي يهمّه هو توفير مزيد من المال للخزانة الأمريكية، وتوفير مزيد من الوظائف للشّعب الأمريكي.
ومن هنا نعتقد أن الحصار الذي ضُرب على قطر من قبل محور الحِصار كان لهدف أبعد وأكبر وهو استكمال الانقلاب الذي فشل قبل عام من الآن في تركيا. فالمطالب التعجيزية التي قدّمت لقطر من أجل تنفيذها بلا شُروط، كما قيل تصلح لتركيا أيضا وفق منطق هذه الدّول لأن تركيا تأوي الإخوان المسلمين وتدعم غزّة وفيها قنوات إعلامية كثيرة تهاجم النظام في مصر، وغيرها من النّقاط الأخرى.
تركيا كانت تدرك طبيعة المخاطر التي تُحدق بها وبأمنها لو أنّها تركت قطر في المعركة لوحدها، ولذلك سارعت في خلال ساعات إلى دعوة البرلمان للتصديق على الاتفاقية العسكرية مع قطر، وأعلنت صراحة ودون تردّد وقوفها مع قطر والشّعب القَطري. وحاولت في الوقت نفسه عدم إثارة حفيظة المملكة العربية السعودية من خلال اعتماد خطاب ودّي متوازن. وتدخّل تركيا السّريع كان حاسمًا، بلا شك في منع تدهور الوضع إلى تدخل عسكري من قبل دول الحصار، إلى أن جاءت التدخّلات الدولية لتخفف إلى حد كبير من حجم التوتر وتبعد بشكل نهائي تقريبا شبح مواجهة عسكرية في المنطقة.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس