ترك برس
قالت دراسة بحثية أمريكية أصدرها معهد أبحاث السياسة الخارجية (Foreign Policy Research Institute) إن تركيا تتبنى سياسة متوازنة مع روسيا، ولا سيما في منطقة البحر الأسود، لعدم ثقتها في الولايات المتحدة والغرب بسبب دعمهما للحركات الكردية الانفصالية، ووجود فتح الله غولن في أمريكا، إلى جانب حرصها على العلاقات الاقتصادية مع روسيا.
واستعرضت الدراسة التي أعدها الباحث سليم كورو، سياسة تركيا التاريخية في منطقة البحر الأسود منذ الفتح العثماني لمدينة إسطنبول حينها كانت تركيا تسيطر سيطرة مطلقة على البحر، وكان على جميع الدول الأجنبية أن تعقد صداقات مع الإمبراطورية إذا أرادت أن تستغل ثروات البحر.
وأضافت الدراسة أن الأمر استغرق عدة قرون حتى تراجعت قوة الإمبراطورية العثمانية، وعندما حدث ذلك تعاظمت قوة دول أخرى وبحلول القرن الثامن عشر بدأت روسيا بقيادة بطرس الأكبر في تحدي العثمانيين. كانت الحروب الروسية العثمانية في صالح الروس الذين ضموا شبه جزيرة القرم في عام 1783. وكانت هذه الهزيمة المرة الأولى التي يفقد فيها العثمانيون أراضي مسلمة لقوة مسيحية.
كانت روسيا تريد منذ وقت طويل الوصول إلى المياه الدافئة بحيث تتمكن من التنافس مع الدول الأوروبية الأخرى في البحر المتوسط. وهكذا كانت تركيا محطا لطموحات الإمبراطورية الروسية. وعندما لم تتمكن إسطنبول من القيام بهذه المهمة بمفردها، دعمها منافسو روسيا في أوروبا. وكان أبرز مثال على ذلك حرب القرم في 1853-1856 عندما تحالف الفرنسيون والبريطانيون مع العثمانيين وهزموا روسيا.
استمر التهديد الروسي في القرن العشرين. وبعد الحرب العالمية الأولى قيدت سيطرة تركيا على المضائق بمعاهدة لوزان لعام 1923، وهي المعاهدة التي نزعت سلاح تركيا على افتراض أن المعاهدات التي تشرف عليها عصبة الأمم ستحافظ على السلام. بيد أنه لم يمض وقت طويل حتى أعادت القوى الكبرى نفسها مرة أخرى استعدادا للحرب. في عام 1936، دعت تركيا إلى عقد مؤتمر في مدينة مونترو السويسرية لإعادة التفاوض حول معاهدة لوزان. وفي اتفاقية مونترو المتفق عليها فيما بعد، سمح للدول غير الساحلية بالمرور البحري المقيد، ومنحت تركيا الحق في التسلح والدفاع عن المضائق في زمن الحرب أو التهديد بها. ويمكن لروسيا الوصول إلى البحر المتوسط، ولكن بشرط الحصول على موافقة تركيا. وقد وضعت المعاهدة تركيا حاجزا بين العدوان الروسي وجهود الاحتواء الغربي.
بعد الحرب العالمية الثانية، حاول ستالين تعديل اتفاقية مونترو، إذ كان يتطلع للسيطرة على المقاطعات الشمالية الشرقية التركية. اقتربت تركيا من حلفائها الغربيين للحصول على المساعدة، وأصبحت عضوا في الناتو في عام 1952. ظلت تركيا في الشرنقة، لكنها اضطرت إلى الاعتماد على حلفائها للحفاظ على موقفها.
خلال الحرب الباردة، كانت تركيا الدولة الوحيدة على البحر الأسود غير المصطفة مع السوفييت. لكن ديناميات النظام الثنائي القطب لم تلزم أنقرة بتطوير سياسة حقيقية تجاه غريمها في الشمال في ذلك الوقت. ركزت النخب التركية على إضفاء الطابع الأوروبي على البلاد، وتركت لواشنطن التفكير في البحر الأسود.
حقبة ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ووضع استراتيجية إقليمية
انتقلت الدراسة بعد ذلك لتناول الاستراتيجية التركية بعد حصول جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق المطلة على البحر الأسود على استقلالها في أوائل التسعينيات. وكان هدف هذه الاستراتيجية جعل تركيا طرفا رئيسيا في تطوير المعايير الاقتصادية والدبلوماسية للبحر الأسود في حقبة ما بعد الاتحاد السوفياتي، وتصبح بالتالي رائدة في المنطقة.
شكلت المبادرات الثقافية نقطة الانطلاق لهذه الاستراتيجية. زار الرئيس سليمان ديميريل تتار القرم في أوكرانيا في عام 1994 ومرة أخرى في عام 1998، وتولت تركيا بناء مساكن لمن نفوا قسرا من شبه الجزيرة وعادوا إليها مرة أخرى. وخلال زيارته لمولدوفا عام 1994 شدد ديميريل على أهمية دور تركيا في رفاهية أقلية الجاجواز التركية هناك. وبدأت الشركات التركية بجولة في المنطقة في منتصف التسعينيات، ووضعت أسس التجارة. وفي عام 1995، كانت دول البحر الأسود تشكل 2% من إجمالي صادرات تركيا، ووصل هذا الرقم إلى 12% بحلول عام 2008. وفي عام 2015، انخفضت التجارة مع منطقة البحر الأسود إلى 7 في المائة من إجمالي التجارة في تركيا.
أرادت أنقرة إنشاء إطار مؤسساتي يسهل قيادتها للمنطقة.وأدت جهودها إلى التوقيع على "بيان البوسفور" لعام 1992 الذي أدى إلى إنشاء منظمة التعاون الاقتصادي للبحر الأسود التي يوجد مقرها في إسطنبول منذ عام 1994، وتضم الآن في عضويتها جميع الدول المطلة على البحر الأسود. وتشمل المبادرات الأخرى التي تقودها تركيا مبادرة مجموعة البحر الأسود البحرية للتعاون، وبرنامج التعاون البحري الذي بدأ في عام 2001 بين الدول الساحلية، وعملية الانسجام في البحر الأسود.
وتلفت الدراسة إلى أن تركيا كانت حريصة في معظم هذه المبادرات على العمل مع البلدان الإقليمية فقط؛ لأن مبادرات حلفائها الغربيين لن تقوض الشرعية الإقليمية لهذا النوع من الدبلوماسية فحسب، بل ستطغى أيضا على دور تركيا. فالتدخل الأوروبي يعني دائما وجودا يونانيا يخاطر بخلط نزاعات بحر إيجه مع بحر الأسود.
وتعلل الدراسة حرص تركيا على التعاون مع دول البحر الأسود فقط، بأن تركيا كانت في المنظور الغربي في التسعينيات دولة نامية معرضة للانقلاب، وتقاوم حركة التمرد العرقي المتنامية في جنوب شرقها. غير أن تركيا، من منظور ما بعد الاتحاد السوفيتي للبحر الأسود، بلد يتمتع بعقود من الخبرة في السوق المفتوحة وسلك دبلوماسي غارق في المؤسسات الدولية.
تصاعد التهديد الروسي
يشير الباحث إلى أن تركيا لم تفعل شيئا يذكر إزاء الغزو الروسي لجورجيا في عام 2008، على الرغم من إدانة الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة للغزو. ويورد في هذا الصدد تصريحا لرئيس الوزراء في ذلك الوقت، رجب طيب أردوغان، قال فيه: "يحاول الناس دفعنا نحو جانب واحد في مسألة جورجيا إما نحو الولايات المتحدة أو روسيا، والأولى هي أقرب حليف لنا، وروسيا هي بلد لنا تجارة كبيرة معه، معظمها في مجال الطاقة. لن أسمح لتركيا أن تنحاز إلى أي من الجانبين. سنعمل كما تتطلب المصالح الوطنية التركية".
ويعلل اتخاذ أردوغان موقفا محايدا من الجانبين، بأن أردوغان قد فعل ذلك في الغالب لأن تركيا اشترت منذ فترة طويلة أكثر من نصف الغاز الطبيعي من روسيا، وحاولت باستمرار الاستفادة من موقعها الجغرافي كبلد عبور للطاقة. ومن ثم سيكون غريبا أن تنتقد روسيا في الوقت الذي كان فيه حلفاء الناتو سلبيين.
منذ عام 2008 لم يعد تأثير روسيا في تركيا ينحصر في الاقتصاد، فقد عمل الكرملين بشكل مطرد على توسيع نفوذه في منطقة البحر الأسود،والضغط في بعض الأحيان على تركيا. وكان أبرز مظاهر ذلك تدخل الجيش الروسي في أوكرانيا في عام 2014، مما أدى إلى ضم شبه جزيرة القرم وقمع تتار القرم المؤيدين لأوروبا وتركيا. وفي هذه القضية أيضا لم تحدث أنقرة ضجيجا.
من جانب آخر يحرك التحديث العسكري الروسي التوازن لصالحه. وقد قام أسطول البحر الأسود الروسي بتحديث طراداته ومدمراته السوفياتية، وأضاف غواصات جديدة. بعض هذه السفن تحمل صواريخ كاليبر مضادة للهجوم التي استخدمتها روسيا في سوريا. وعندما رفضت فرنسا بيع سفينتين حربيتين برمائية من طراز ميسترال إلى روسيا، أعلنت موسكو أنها ستبنى بنفسها. كما حدثت موسكو المنشآت الأرضية الروسية والمطارات على ضفاف البحر الأسود تحديثات على مدى السنوات القليلة الماضية. ويمكن لـS-400 الروسية بشكل خاص أن تمنع طائرات الناتو من الوصول إلى السماء فوق منطقة البحر الأسود وبحر البلطيق وتركيا وبولندا.
ظلت تركيا هادئة نسبيا إزاء هذه التطورات حتى وقوع الأزمة الدبلوماسية في نوفمبر 2015 بعد إسقاط المقاتلات التركية لطائرة روسية. وقال أردوغان في مؤتمر القمة الأمنية لدول البلقان الذي عقد في تلك الفترة إن البحر الأسود أصبح "بحيرة روسية وإن على حلف الناتو أن يكثف جهوده لتحقيق التوازن بين الوضع.. وبعد ذلك قامت تركيا وروسيا بتطبيع العلاقات الدبلوماسية، ورفعت بعض العقوبات، لكن ميزان القوى فى البحر الأسود لم يتغير."
دراسة التهديدات
ونظرا لتحركات روسيا منذ عام 2008، كان يتوقع من تركيا أن تدفن خلافاتها مع الغرب وأن تتعاون معه لتحقيق التوازن بين روسيا. لكن الثقة بين الحلفاء يبدو أنها تتفكك بسرعة كبيرة، رغم أن التهديد الروسي بجمعها معا.
وأرجعت الدراسة هذا الوضع لأسباب كثيرة، بعضها يتعلق بالعملية السياسية الداخلية في تركيا، وعدم الثقة الذي تشعر به أنقرة تجاه الغرب المتمثل في تسامح الغرب ودعمه لحزب العمال الكردستاني الماركسي اللينيني. وتصنف الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي هذا الحزب منظمة إرهابية ولكن أيا منهما لم يعاملها على الدوام على هذا النحو. فقد غضت أوروبا الطرف عن أنشطة الحزب في جمع التبرعات والعلاقات العامة. وفي الحرب الأهلية السورية، بدأت الولايات المتحدة في دعم حزب الاتحاد الديمقراطي التابع لحزب العمال.
وأضافت الدراسة إن محاولة الانقلاب العسكري الساقط في يوليو العام الماضي التي دبرها تنظيم غولن ، ووجود غولن نفسه في الولايات المتحدة، والدعم الغربي لحزب العمال الكردستاني يضاعف من عدم ثقة تركيا العميقة تجاه الغرب. ولم يجسد هذا الشعور بشكل أكمل سوى أردوغان الذي وصف الولايات المتحدة في عام 2008 بأنها أقرب حليف لتركيا، وفي عام 2017 ولا يجسد أحد، وربما يضخم، هذا الشعور بشكل أكمل من أردوغان نفسه الذي قال في إشارة إلى الغرب والولايات المتحدة "هؤلاء الذين كنا نظن أنهم أصدقاء يقفون إلى جانب مدبري الانقلاب والإرهابيين".
وخلصت الدراسة إلى أن سياسة تركيا في البحر الأسود هي نتيجة الوضع الراهن الناتج عن التمسك اتفاقية مونترو أكثر من 80 عاما. وهذا الدور يجبر تركيا على تحقيق توازن دقيق. ويدرك الدبلوماسيون الأتراك أنه إذا ضاع هذا التوازن، فقد يكون له عواقب وخيمة على مستقبل البلد.
وتابعت أن تركيا كان لديها منذ القرن التاسع عشر توازن قوى مع روسيا من خلال الدعم العسكري الغربي النشط. لكن في الوقت الراهن يبدو أن البلد، وقائده، ينظرون إلى الغرب على أنه تهديد أيضا. وإذا استمر هذا الاتجاه، يجب على البلد إما أن تجد طريقة جديدة لتحقيق التوازن بين روسيا التي عادت إلى الظهور، أو أن تصبح شريكا للكرملين. وإذا أراد حلف الأطلسي المتحدة منع مثل هذه الشراكة من الحدوث، فسيحتاج إلى إعادة ترتيب أولوياتها لتعكس هذا الواقع.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!